ينتظرنى إبنى فى السيارة لندخل سوياً فيلم " ديكور" حفل العاشرة مساء.كنت أعلم أن النفس تحتاج لأحد أفلام الكريسماس الكوميدية الرومانسية، مع كوب كبير من الفشار ومياة غازية وقالب شيكولاتة محترم أنسى معهم جميعاً الثانوية العامة، ومرض إبنى العنيد منذ ستة أسابيع، لزوجة الموظف الإدارى الذى يجدد لى الأجازة ويطاردنى وجهه، وكل ماحولنا من فوضى عنيدة وشبكات فساد. لكن لم نقطع تذاكر لفيلم كريسماس، لم نشتر الشيكولاتة ولا الصودا، كانت حالة إبنى المرضية لاتحتمل هذا الغذاء، كنا أنا وهو مرهقين وقلبانا ثقيلان وحجزنا فى الحفلة الليلية الباردة لنصبح إثنين من أصل أربعة فى سينما المنتجع الهادئ وتحركنا فى الليل للسينما وكأننا نقضى واجبا ثقيلا ! وصلنا بعد بداية الفيلم بدقائق ، وجدت الشاشة أبيضا فى أسود، خلعت نظارتى الليلية ومسحتها جيداً ولبستها ثانية، وبعد دقيقة سألت إبنى، هو الفيلم "أبيض وأسود يا يوسف مش كده؟""آه يا ماما، هى شكلها ليلة غم!" المشهد الأول الذى دخلنا لنراه فى "ديكور" هو مشهد تصوير فيلم، نفهم أن البطلة مها (حورية) مهندسة ديكور وستايلست ملابس وأن رفيقها الوسيم شريف (خالد ابو النجا) والذى لانعرف بالتحديد أنه زوجها إلا بعد عدة مشاهد، مهندس ديكور أيضاَ ، وأنهما يعملان فى فيلم تضيق فيه البطلة الشابة اليافعة بحياتها مع زوجها الأصلع ذو الكرش رغم وجود طفلة جميلة بينهما. بين تصوير المشاهد تقوم مها بتعديل تفاصيل الديكور لتجد نفسها فى قلب المشهد ليس بوصفها مهندسة الديكور بل بوصفها بطلة الفيلم، الزوجة المخنوقة أم الطفلة! وفى هذا العالم تعيش فى الأسكندرية، مٌدرسة رسم، حياتها عادية رتيبة وآمنة لاطموح فيها.ولا تبدو أنها تصحو من هذا الكابوس إلا حين تفتح ستارة ما لتجد نفسها مرة أخرى مع شريف فى حياة الإبداع والتفاصيل والتصوير خارج كادر الديكور! وهكذا دواليك. فى لحظة ما ينفتح أحد العالمين لتعيش فيه البطلة واحدة من حياتين: حياة الفنانة المِزاجية، المتزوجة من شاب وسيم، "طول بعرض" فنان ورائع ، يعيشان الحياة بكل صخبها، عمل وأحلام للعمل وسهر ونبيذ وسجائر. أو الحياة الأخرى حيث الزوج الطيب الحنون الحمول، بنظارة وكرش، وإبنة صغيرة جميلة : مصطفى والذى يقوم بدوره الرائع ماجد الكدوانى. وبعد عدة مشاهد نفهم أن كل زوج منهما يشكو من أن زوجته تعيش فى العالم الآخر، ويصحبها للطبيب النفسى الذى يؤكد لها أن عالمها الحالى هو العالم الحقيقى، وهى تلعب دورها فى كل عالم بتفانِ رغم انها تبحث أيضاً بنفس التفانِ عن العالم الآخر. القاسم المشترك الوحيد أنه فى العالمين تحب الشخصية أفلام فاتن حمامة القديمة وتعيد مشاهدة فيلمين على وجه التحديد، نهر الحب و الليلة الأخيرة. " إيه اللخبطة دى يا ماما؟" يقول إبنى وهو يتثاءب. فى الإستراحة أقوم لشراء الفشار فى أى محاولة لأن أشعر بأننى فى حالة ترفيه..أنزل السلالم فى صالة العرض المعتمة، آخذ الفشار البارد من العامل المٌحبَط لقلة عدد الزوار، وأنا أنتظره يخبط رأسى نص كتبته منذ عدة اعوام، عن فتاة وعن جدار. أتذكر النص بوضوح : (كان فى البيت شرفة تطل منها البنت على الشارع، ترقبه وتتكلم مع من تعرفه من المارة وأوقاتاً مع من لاتعرفه. تنفث الشرفة عن ملل البيت وكتمته حتى وإن كانت ضيقة. تقف البنت فيها وأحياناً تٌدلى نصفها العلوى تماما فيخيل للمار أنها ستقع.ربما وقعت مرة أو إثنتان لكن الله ستر. تطفئ الشرفة عطشها للشارع وتعطيها الخطوة الواحدة من الشرفة الى الصالة الأمان اللازم. يهمس حوامُ من تحت الشرفة: " مهووسة أنتِ بالشارع وأنت فى البيت، مهووسة أنتِ بالبيت و أنت فى الشارع." حتى يريح الأب رأسه من كل هذه التفاهات، حضر يوماً الى البيت ومعه رجال بملابس العمل المتسخة وشباشب ذات أصابع. دقوا وكسروا لعدة ساعات وملأوا الدنيا تراباً وعندما إنتهوا كانت الصالة قد إتسعت بمسافة مترين والشرفة قد إختفت تماماً. تحسست البنت الجدار الجديد فى ذهول، خبطت على الجوانب والأطراف، بحثت عن أى شق يُدخل النور، عن أى رِقة فى الجدار تنقل الصوت، لم تجد. وبدأ العويل! إستطاع الجيران أن يسمعوا عويلها لوقت طويل، بينما إختفى الأنين تماماً فى زحمة الشارع العالية فلم يتبينه أحد. كان إلتصاقها بالجدار أمراً لم ينتبه لخطورته أحد. بدا الأمر كما لو أنها نقلت حياتها بجانب الجدار فهى تأكل هناك وتنام هناك وتبكى هناك. ثم إنتهى الأمر يوماً ما عندما كانت تئن غير مسموعة ودموعها تتساقط ثانيةً وتتكوم شيئاً فشيئاً حول نفسها بإتجاه الجدار وتلتصق به حتى دخلت فيه تماماُ وتلاشت. تنفس الجميع الصعداء رغم ألم فراقها، الأب و الجيران والحوامون حول الجدار بإنتظار ظهورها.) "هو الفشار مملح ولا إيه؟ يسألنى العامل متعجباً لإنقباض وجهى. " لا، كويس" لكن قلبى كان ممتلئاً بالخوف من النص، تماما مثل مها التى تنتقل بين عالمين. أمشى ورأسى مرتبك وأدخل صالة العرض المعتمة فلا أجد أحداً فيها. أنادى: "يوسف..يوسف! " ، لا أحد يرد، يزداد الخوف فى قلبى وأشعر للحظة أننى مها وقد إنغلق عالمى خلفى ودخلت فى عالم آخر مجهول ليس فيه إبنى. أخرج مسرعة و يتناثر نصف الفشار من بين يدى ولكننى لا أقف.أدخل صالة أخرى مجاورة وقبل أن اتوغل أنادى : يوسف يوسف"، حين يأتينى صوته المتعب أطمئن. "مالك يا ماما؟" " أبداً الفشار مملح زيادة!" يبدأا الفيلم ثانية وتستمر لعبة التنقل بين العوالم على خلفية أغنية شبابيك لمحمد منير.فى لحظة، تفهم مها البطلة ( وهى بطلة بالفعل فى شجاعتها) الأزمة النفسية التى تعيشها، تفهم انها زوجة لشريف، تحبه وتعيش حريتها معه لكنه يحرمها من أمومتها، وتفهم أن مصطفى ليس من نسج الخيال بل هو جارها الذى تعلم انه يعشقها وأنه كان ليهبها الطفلة التى تريدها لو قبلت بالزواج منه.وتقبل ببقاءها فى المستشفى النفسى بعض الوقت، تفكر وتستوضح الأمر. مشهد الفيلم قبل الأخير تقف فيه فى المستشفى أمام البطلين، الفنان الوسيم الأنانى الذى يريد مص الحياة لآخر قطرة، والإنسان البسيط الذى لايملك سوى قلبه وروحه يقدمهما لمن يحب ومعه إبنة جميلة ، يحضران معاً لإعطائها فرصة أخيرة للإختيار وترفضهما معاً! ببساطة لأن اللجوء لأى من العالمين يعنى أنها ستظل دائماً تفكر فى العالم الآخر: ذلك الذى لاتملكه. ترفض مها الرجوع لعوالم مرهونة بالرجال ومايفعلونه أو يقدمونه للنساء ، بينما يبدو أنها قد إستوضحت أخيراً أنها من الآن فصاعداً لاتريد سوى ما تريد.وماتريده هو الطفلة "هيا"، طفلتها فى عالمها الوهمى مع مصطفى،والتى ظهرت فى أحد المشاهد وهى تلصق أفيشات فاتن حمامة على حوائط الغرفة وتستخدم المقص والصمغ بمهارة..مثل أمها! هيا هى روح البطلة المفقودة التى وجب البحث عنها..هذا ما تريده تماما: هيا، نفسها المفقودة. أنظر الى إبنى المريض، يجاهد النوم والتعب وتأثير دروس الفيزياء اللعينة ودخان سنتر الدروس ليفهم، أعلم أنه سيختزن كل شيء فقط حتى وقت لاحق ليفاجئنى بأنه يفهم أو ليسألنى عما لايفهم.أتساءل أنا إن كانت الرسالة قد وصلته. كيف سيساعد إمرأته يوماً ما ألا تفقد روحها؟ هل يمكنه ذلك؟ هل عليه ذلك أصلا؟ أم على إمرأته أن تجد روحها بنفسها؟ كيف سأحكى له عن محنة مها! أجده يأخذ يدى، يعلم أنها باردة، ويحتضنها بين يديه ويغفو. المشهد الأخير للفيلم يكسر كل أوهام التماهى مع الشخصيات، المشهد الأخير هو عن العرض الأول للفيلم، ليس الفيلم بداخل الفيلم بل العرض الأول لفيلم"ديكور" حيث يظهر الممثلون بشخوصهم الحقيقية يتلقون التهانى والصور ونتتبع رأس شابة صغيرة من الحضور تخرج مع صديقها من السينما وهى تثرثر وتفكر ويقفان على باب السينما وفى الخلفية عربتان تصدمان ببعضهما البعض! الحكاية ليست حكايتنا إذن! أم هى حكايتنا؟ أم ان كل الحكايات شبابيك؟ أتحرك عدة صفوف من الكراسى لأسأل الشاب وزوجته اللذان شاهدا الدقائق الأولى عما فاتنا. ترد الزوجة " هو الفيلم فتح على مشهد التصوير، مافاتكوش حاجة" ويرد الزوج " هو فيلم هابط الصراحة!" أنظر إلى الزوجة بأسى وأرد عليه بتعاطف حقيقى " طيب فكر فيه تانى كده على رواقة!" "إهرب يا يوسف!" د. منى النموري د. منى النموري