قليلة هي الأفلام التى نحملها معنا فى مشوار حياتنا.. نادرة تلك التى تتطابق مع تجارب حياتية و مواقف شعورية عشناها.. وبعيدًا عن فكرة أن الناقد عليه أن يكون موضوعيًا، فإنني أعترف بأني ظبطت نفسي متلبسة بالبكاء في أكثر من موقف درامى بفيلم «ديكور» للمخرج أحمد عبد الله. «ديكور» ليس فقط تجربة فنية مختلفة، على مستوى الشكل البصرى، حيث اختار أحمد عبدالله أن يصور فيلمه كاملًا بالأبيض والأسود، بل هو في ظنى أفضل وأنضج ما قدمه المخرج منذ تجاربه الأولى «هليوبليس» و»ميكروفون» ثم «فرش وغطا» الذى لم استطع التعاطى معه فنيًا. الفيلم تدور أحداثه حول مها التي تعشق السينما، وتعمل مهندسة ديكور، وأصبحت خبيرة في خلق العوالم.. مها تتعرض لضغوط شديدة في فيلمها الجديد، والذي يبدو في تجربته الفنية قريبًا لأفلام المقاولات، أو الأفلام التى يقدمها المنتج لتحقق إيرادات، ولعلاقته بالبطلة «الدلوعة». مها تعمل في الفيلم وكل شئ خارج عن إراداتها، فهي مضطرة للعمل هي وزوجها شريف مهندس الديكور أيضًا لاحتياجهم للمال، وفجأة تجد نفسها مكان بطلة الفيلم، تلك المرأة التقليدية المقهورة في الفيلم الذى تصمم له الديكور والملابس، وهي اللحظة التى يبدأ فيها كاتبا السيناريو الأخوان محمد وشيرين دياب، في ممارسة الألاعيب الدرامية مع المتفرج.. فى البداية تعتقد أن شخصيتها الجديدة كزوجة تقليدية لزوج تقليدى اسمه مصطفى، يجسده بعبقرية في الأداء ماجد الكدوانى، مجرد وهم فى رأسها ثم تتبين أن عملها كمصممة ديكور وزواجها من زميلها مصمم الديكور شريف، يجسده بمهارة خالد أبوالنجا، هو الوهم وسرعان ما نكتشف العكس، ويدخل المشاهد تلك الدوامة مع تبدل منطق الأحداث فى دائرة تتكرر، يصعب فيها الوقوف على الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، أو المرض النفسي، وهي الحالة التى يغزلها كاتبا السيناريو بدقة، ويحولها عبد الله إلى شكل فنى مميز لا يتعلق فقط بحدوتة الفيلم ولكن بفن السينما عمومًا وأفلام الأبيض والأسود خصوصًا، وتحديدًا أفلام النجمة الكبيرة فاتن حمامة. نكتشف أن البطلة تحمل بعضًا من تركيبات درامية قدمتها فاتن حمامة خصوصا تلك الأفلام التى تكون فيها البطلة واقعة بين رجلين تماما مثل فيلمها «نهر الحب»، أو «الليلة الأخيرة»، والذي كانت مضطرة فيه أن تعيش حياة شقيقتها. مها بطلتنا التى تجسدها حورية فرغلي في واحد من أفضل أدوارها منذ فترة، امرأة تعيش بين رجلين أيضا جارها القديم مصطفى الذي كان يعشقها، وعندما رفضته لم يستطع الزواج من أخرى وعاش راهبًا لحبها، وشريف زميل الدراسة وحبيب العمر والزوج الذي يصر على أن يعيش هو وهي فقط ويرفض إنجاب الأبناء، متسائلا «كيف ينجب أطفالًا في هذا العالم القاسي؟»، وتبدو مها مؤيدة لرأيه، وتوافقه على كل كلمة يقولها، إلى أن يكشف السيناريو عن مفاجأة درامية جديدة. الفيلم يحمل استلهامًا من أفلام فاتن حمامة تماما، ف «نوال» بطلة نهر الحب كانت ترغب في أن تتحرر من سطوة الزوج المتسلط الأنانى، وفاتن حمامة في «الليلة الأخيرة» كانت ترغب هي الأخري في التحرر من حياة لم تخترها ولم تكن لها يوما ما، كذلك مها مهندسة الديكور الشابة ترغب في التحرر، من سطوة حبيب عاشق تشعر نحوه بالذنب، وزوج يفرض عليها، مالا تريده ويحاصرها. ديكور هو فيلم داخل فيلم.. مها البطلة محصورة دائمًا داخل الديكور الذي تبنيه، أو منزلها مع مصطفى أو جدران منزل شريف، ويبدو الفيلم بعوالمه كأنه معزول عن العالم الخارجى، وفي لقطات ذكية ووظفها عبد الله بمهارة، نسمع الأخبار من هنا أو هناك. الكلام عن عودة البطلة قبل الحظر.. «مها» امرأة محاصرة ومقهورة كل ما ترغب فيه هو التحرر والخروج إلى العالم، أو بمعنى أدق أن تكون نفسها، بعيدًا عن كونها امرأة ديكور في حياة أحدهم (من أجمل لقطات الفيلم التى تجسد ذلك الصراع الداخلي للبطلة مها هو تمردها على ديكور ذلك الفيلم الذي تراه رديئًا وقيامها بحرقه). قد يرى الكثيرون أن فيلم «ديكور» هو فيلم نسائي بامتياز.. عمل عن النساء اللاتي يعشن في منطقة «بين البين» ويعانين من المجتمع الذكوري والرجل الشرقي المتسلط، سواءً كان تقليديًا أو مدعيًا للتحرر وهذا حقيقي جدًا، كما أنه في إطار تعدد مستويات السرد قد تري من خلاله مصر «المأزومة سياسيًا». سيناريو الفيلم متعدد المستويات أو لنكن أكثر دقة معقد ويحتاج الى تركيز شديد في التلقي.. فيلم «ديكور» من الأفلام المهمة التى تحتفي فنيًا بالسينما،كما أنه يحمل نضجًا فكريًا وبصريًا، ويدعو الكثيرين للتفكير فى الكثير من مسلمات الحياة،أو استسلامنا لحالة القهر . الفيلم من بطولة خالد أبو النجا، ماجد الكدواني، حورية فرغلي، وسمر يسري، ومن تأليف محمد وشيرين دياب، ومن إخراج أحمد عبد الله.