حين بدأت كطفل الإدراك ، عرفت جريدة « الأهرام « . كان ذلك فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى . فقد كان والدى نجيب المستكاوى موظفا فى وزارة الشئون الإجتماعية ، وبطلا سابقا فى مائة متر عدو ، وإداريا وحكما فى ألعاب القوى ، وعضوا فى لجنة تصفية اللجنة الأوليمبية القديمة بتكليف من جمال عبد الناصر .. كان أبى أيضا كاتبا فى جريدة المصرى عام 1948 ، وله مقال إسبوعى على صفحة كاملة ، وهى الأخيرة عن أعلام الفلسفة فى التاريخ . وله مؤلفات وترجمات فى هذا الشأن . وهكذا جمع بين الرياضة وبين الثقافة والأدب والصحافة . ولكنه تخلى عن وظيفته فى وزارة الشئون الإجتماعية لينتقل إلى الأهرام حين صدر قانون عدم الجمع بين وظيفتين . وكنا نحن أفراد أسرته نشعر أنه الوحيد الذى إلتزم بالقانون ! منذ الطفولة إرتبطت بجريدة الأهرام التى يكتب بها أحد نجومى فى الصحافة وهو أبى . وأحببت الجريدة التى منحته الشهرة ، ومنحته ماهو أعظم من الشهرة ، وهو محبة الناس . وزرت الأهرام لأول مرة عام 1959 .. فى مبنى الجريدة القديم بشارع الشريفين . حين كان القسم الرياضى يضم الأساتذة كامل المنياوى وإسماعيل البقرى رحمهما الله . ومازال حتى اليوم صوت دوران المطبعة فى أذنى . ثم زرت مبنى الأهرام الجديد عام 1968 . وكان المبنى أيامها يسبق عصره ومحيطه بنصف قرن على الأقل .. ولم أفهم علاقتى بالمبانى إلا عندما زرت أيضا مبنى الأهرام فى الإسكندرية ، ومازلت أتوق لزيارته ، لأننى فى كل زيارة أدق باب التاريخ .. هل هى النوسنتالجيا .. الحنين إلى الماضى ؟! تلك الزيارات رغم فروق الزمن كانت تعكس حلما دفينا ، بأن أكون يوما ما عضوا فى أسرة تحرير الجريدة .. وتعكس كذلك حنينا دفينا إلى الكيان وإلى نجومه ، وإلى سنوات الشباب . وعلى مدى سنوات الحلم والإنبهار بعالم الصحافة ، ونجومها ، حين كانت الكتابة تصنع النجوم . عرفت أسماء هيكل ، وعلى حمدى الجمال ، وكمال نجيب وصلاح هلال ، وصلاح جلال ، وكمال الملاخ وصلاح جاهين ، وعبد والوهاب مطاوع وإبراهيم نافع وصلاح منتصر و..وعشرات .. وعرفت كافتريا ال 12 ، أى الطابق رقم 12 . بما كانت تقدمه من أصناف طعام وشراب فائقة الجودة ، وحتى اليوم تسكن ذاكرتى رائحة سيجار الأستاذ كمال نجيب ، ومذاق سحلب الدور 12 . ورائحة صف الرصاص ، وصوت ألات الطباعة العملاقة ، وكنت أشعر معها أننا نصنع الحدث ، ونعلم بالحدث قبل أن يعلم به الجميع .. ضمن صور وروائح ومشاهد لم تغادر الذاكرة أبدا .. دخلت الأهرام صحفيا تحت التمرين عام 1976 .. وكنت أسير على أطراف أصابعى كى لايسمع الديسك المركزى صوت خطوتى فى صالة التحرير . حيث كان صوت الصمت يخيم على الصالة ، التى كانت بالنسبة لنا نحن الشباب الجديد بمثابة معبد التحرير . وكنت أتيه فخرا لأننى كتبت خبرا من ثلاثة أسطر بالضبط ، بدون إسمى ، ونشر فى الجريدة . ولكنى غادرتها فى العام نفسه لأن القواعد كانت لاتسمح لى بأن أعمل بالقسم الرياضى الذى يرأسه أبى . وخضت تجربة العمل بدار التحرير مع الاستاذ حمدى النحاس الرجل الذى شجعنى وفتح لى أبواب الفرص . لكنى فى النهاية سافرت وأبتعدت عن العمل فى مؤسسات صحفية مصرية لمدة تقترب من عشر سنوات ، حتى عدت إلى الأهرام عام 1984 . ويشاء القدر أن يتحقق حلمى بالعمل فى الجريدة التى أحببتها لأنها منحت أبى حب الناس ، ويشاء القدر أن أعمل فى نفس القسم ، ونفس المكتب ، ونفس المنصب ، ونفس الزملاء . تعملت من أبى قراءة الرياضة وقيم الرياضة وأخلاق الرياضة ودقة المعلومة والخوف من القارىء . وكيف أن الرسالة تصل أسرع وأعمق ببعض السخرية . وتعلمت من الأستاذ هيكل قراءة السياسة.. وكيف يمكن أن يكون للإسلوب صوتا يطربك . ففى الأسلوب موهبة وفن وقدرة وإيقاع وكانت صياغات الأستاذ عندى مثل صوت أم كلثوم .. فأقرأ الجمل والفقرات، ثم أعيد قراءتها طربا . كنت أقرأ مقالات الأستاذ بشغف ، فهو صديق عبد الناصر ، وحين ألتقيته بعد سنوات طويلة سألته سؤالا ظل يشغلنى : : «حضرتك كنت تخاطب عبدالناصر بكلمة ياريس، أم باسمه مباشرة؟ قال: «أمام الناس هو الرئيس وأمامى فقط هو الصديق « . كنت أرى الأستاذ هيكل عملاقا بطول قامة عبدالناصر. كنت أراه كذلك مما يكتبه، ومما يعلمه، ومما يعبر عنه. فالقامة تطول بالقيمة، وتقصر بقلة الحيلة. وكنت أربط بين الأستاذ هيكل وبين عبدالناصر. فكلاهما يملك الكاريزما، والقوة. لكن قوة هيكل فى مهنته. وقوة عبدالناصر فى سلطته .. أحببت الأهرام بسبب أبى وبسبب الأستاذ هيكل . وكنا جيل يقرأ ليعرف وكنا نرى أن الأستاذ يعرف ، ويعبر عنا وعن الوطن وعن أحلامنا وأحلام الوطن .. وهويفسر لنا معارك نخوضها، وأحلام نبنيها..ومن أخطاء مجتمعنا أنه ينظر إلى الماضى بعين الحاضر ، ولايرى ظرف الزمن ، ولا اللحظة التى حتمت إتخاذ القرار .. اليوم كنت فى زيارة جديدة للأهرام .. كم أنت جميل أيها الكيان الذى كان وسيكون وكم صنعت من النجوم وكم كان الزمن مختلفا .. لكن هل تعود الأزمان ؟!.