كم من فرصة للإصلاح والتطوير في هذا البلد لاحت ثم راحت بسبب الغش الذي ينخر في عظام بعض مؤسساتنا. ميدان التعليم في مصر مثال حاضر وصارخ علي أحد مظاهر الغش في حياتنا. وليست شهادة الدكتور أحمد زويل مؤخراً حين تحدث عن مهزلة تقييم الطلاب في شهادة الثانوية العامة سوي مجرد مثال. يقع هذا الغش حهاراً نهاراً تحت أبصارنا وأسماعنا فيما يشبه بلغة القانون حالة التلبس أو الجرم المشهود . لكن أحداً لا يحرك ساكناً. وإذا تحدث أحد أو انتقد كان رد الفعل هو التشكيك والتشويش وخلط الأوراق بمهارة الحواة وربما ما هو أكثر. بالطبع هناك أصوات محترمة وقامات جليلة تسعي للإصلاح لكنها تمثل أقلية وسط أكثرية ساحقة تلوذ بالصمت . فلم يعد مفيداً أن يكتب أستاذ جامعي كبير وشريف اشتهر بالتصدي للسرقات العلمية عن حالات نجح فيها طلاب حصلوا علي نصف درجة من عشرين بقرار من إحدي الكليات وتم إلصاقه (شاً) بالجامعة زاعمة أنها تنفذ قرار الجامعة . ولم يتحرك أحد في بر مصر عن واقعة كانت جديرة باستقالة ليس فقط المسؤول المباشر عنها بل باستقالة وزير التعليم العالي نفسه. ولم يعد يكفي أيضاً أن يعتذر أستاذ جامعي جليل عن عدم حضور اجتماعات مجلس أكاديمي عريق احتجاجاً علي مثل هذه الظواهر واصفاً إياها «بالخبل» لكن أحداً مرة أخري لم يحرك ساكناً . بل تُطوي الملفات سريعاً وتُنهي الاجتماعات أسرع ويستمر شعور المسؤول عن انتاج الظاهر بأنه فوق المعايير وفوق المراجعة وبالتالي فوق المسؤولية. فكيف ومتي وبأي وسيلة أخري تنصلح الأحوال في وقت تخوض فيه مصر تحديها الأكبر للنهوض والتقدم ؟ بماذا نسمي حصول آلاف من الطلاب في الثانوية العامة علي مجموع يناهز المائة في المائة وأحياناً اكثر من ذلك بفعل حيلة ما يُسمي بالمستوي الرفيع ؟ لم ينطق مسؤول تعليمي حين صرّح الدكتور أحمد زويل مؤخراً بأن عباقرة الثانوية العامة الحاصلين علي 100% و98% قد حصلوا علي 72% فقط في اختبارات القبول في جامعة العلوم والتكنولوجيا . وكيف وصل بنا الاستخفاف بمعايير التقييم العلمي الجاد إلي حد أن أصبح منح الدرجات النهائية أمراً مألوفاً وشائعاً ليس فقط في الثانوية العامة بل أيضاً في بعض الكليات الجامعية. يوجد بالطبع طلاب أذكياء وربما نابغون يستحقون تقييماً عالياً لكن هؤلاء يمثلون قلة قليلة في كل مجتمع أما لدينا فقد استشرت الظاهرة وأصبح النبوغ تقييماً زائفاً وصورياً يمنح لجحافل من الطلاب بأقل المعايير وأحياناً بلا معايير. هذا بذاته ظلم غير مباشر للطلاب المتفوقين بالفعل الجديرين بالتميز لأنه إذا أُعطي من لا يستحق نفس تقدير من يستحق فما قيمة الاجتهاد والموهبة إذن ؟ ثمة ملاحظتان في ظاهرة الغش العلمي الأولي أنه هذا الغش الممجوج يختلف عن مسألة التفاوت في التقييم العلمي من أستاذ لآخر. والنوع الأخير وارد ومفهوم ونسبة التفاوت بين تقييم وآخر لا تكون عادة كبيرة. لهذا فإن التفاوت النسبي في التقييم العلمي لا يمثل خطورة تذكر لكن الخطورة كلها تتجلَّي في الغش العلمي الناتج من انفلات المعايير . فليس معقولاً مثلاً أن تمنح درجة الدكتوراه لأعمال تفتقر إلي الحد الأدني من الحد الأدني للبحث العلمي وفيها ما هو أقرب للسرقات العلمية بحث تصبح المعاقبة أولي من المكافأة والتقدير. وليس مقبولاً مثلاً أن تمنح درجات الدكتوراه في بعض تخصصات العلوم الإنسانية وبأعلي تقدير لأعمال تتولي مكاتب محترفة إعدادها وبيعها بمقابل مالي كبير، المفارقة ان هذه المكاتب تمارس نشاطها علناً وتعلن عنه بمختلف وسائل الإعلان والدعاية ؟ الملاحظة الثانية أن ظاهرة الغش في التقييم العلمي تتفاقم في خطورتها بانتقالها من التعليم الأساسي إلي التعليم الجامعي في بعض التخصصات ثم تتفاقم أكثر بانتقالها إلي ميدان البحث العلمي في الدراسات العليا في بعض الكليات. وفي الأحوال كافة فإن الآثار الوخيمة لظاهرة الغش في التقييم العلمي تتجاوز أسوار الجامعات لتضرب المجتمع نفسه وتقوّض جهود البناء والتنمية . فإذا كنا اليوم ننتقد مستوي التدني المهني الذي يطال مهناً ومجالات ووظائف عديدة فنحن ننسي أننا ساهمنا ( ولو بقدر ما ) في إنتاج هذا التدني وتواضع الكفاءات يوم تساهلنا وترخّصنا في إعمال معايير التقييم العلمي. والمؤلم أن ظاهرة الاستخفاف بالتقييم العلمي في بلادنا قد وصلت أصداؤها إلي بلدان عربية شقيقة حولنا. والمؤلم أكثر أن يعترف طالب من بلد عربي شقيق بأن الحصول علي درجة الدكتوراه من بعض الجامعات المصرية ( ومن بينها جامعات توصف بالعراقة ) أصبح أسهل وأيسر من الحصول عليها في بلده العربي. فبعض هذه البلدان الشقيقة التي صنعت مصر يوماً نهضتها التعليمية أصبحت تقدم تعليماً أفضل وتأخذ بمعايير أكثر جدية من معاييرنا ( أو اللا معاييرنا ) جاء أوان الاعتراف أن الطلاب ليسوا وحدهم من يمارسون الغش في امتحاناتهم أحياناً ، نحن أيضاً بتساهلنا المخلًِ واستخفافنا بالمعايير قد نقع تحت طائلة ممارسة الغش حين نستهين بدرجاتنا العلمية ونهين سمعة مؤسساتنا . فمع كل الاحترام والتقدير للقابضين علي القيم والمعايير التعليمية والأكاديمية كما القابض علي الجمر فإن الوقائع مؤلمة ومخزية. لم أحاول في هذا المقال شخصنة القضايا أو الإشارة لمؤسسة بعينها ، وتفاديت التعميم . كل هدفي ( وحسبي ) أن أثير قضية عامة جديرة بأن ندق لها الأجراس. ------- قال معاوية بن أبي سفيان « العقل ثلثه فطنة وثلثاه تغافل» ... هل لهذا لم تتغير أحوال العرب عبر الزمن ؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم