يحتاج خريج كليات الطب اليوم إذا أراد معادلة شهادته المصرية في إنجلترا أن يخضع لإعادة دراسة العديد من المقررات واجتياز اختباراتها. يحدث هذا بعد أن كانت تفتح له الأبواب منذ أربعين سنة مضت مستفيدا من السمعة العلمية الطيبة لشهادة بلاده. واكتشفنا أخيرا أن خريج كلية الهندسة من الجامعة الألمانية في مصر تطلب منه الجامعات الألمانية في ألمانيا دراسة ثلاث مواد هندسية إضافية إذا أراد معادلة شهادته الممهورة بخاتم الجامعة الألمانية! وفي إعارات السلك القضائي استحدثت دول الخليج منذ سنوات نظاما بموجبه يشغل رجل القضاء درجة فنية تقل عن تلك التي كان يشغلها في مصر صاحبة أقدم وأرفع نظام قضائي في المنطقة العربية. حكي لي رئيس تحرير صحيفة يومية كبيرة في إحدي دول الخليج أنهم أعلنوا منذ عدة سنوات عن فرص عمل لصحفيين من مصر وعندما أجري اختبار في اللغة العربية والثقافة العامة كانت النتيجة أنه لم ينجح أحد من علي الرغم من أن المتقدمين مسجلون في نقابة الصحفيين. أعرف بالطبع أن الأمثلة السابقة لا تجيز التعميم وإطلاق الأحكام, وأن مصر تبقي من أهم بلدان الكفاءات والطاقات البشرية المميزة في محيطها الإقليمي بل وعلي مستوي العالم كله. لكن علينا أن ندرك أن بعض هذه الكفاءات والعقول تكون في ظل حقبة تعليمية ماضية والبعض الآخر يمثل استثناءات فردية ناجحة لا يجوز القياس عليها. أما الملاحظة العامة فتظل في ذاتها صحيحة وهي أن تدهور منظومة التعليم في مصر قد أنتج تدهورا مماثلا في نوعية المخرج التعليمي وبالتالي تواضع المستوي المهني بل ورداءته في الكثير من المجالات. للظاهرة كما نعرف جميعا أسباب وعوامل شتي من بينها الخلل الذي يصل الي حد الاستخفاف في مسألة التقييم المدرسي والجامعي( والتقييم أحد المستويات المهمة في كل إنجاز إنساني) في التعليم المصري تعاني مسألة تقييم الطلاب من خلل وتدن في المعايير أدي عملا إلي غياب هذه المعايير نفسها. تجلت هذه الظاهرة في الثلاثين سنة الأخيرة وهي للمفارقة الفترة ذاتها تقريبا التي بدأ الاختلال فيها يلحق معظم جوانب المنظومة التعليمية في مصر. كيف يمكن مثلا تفسير حصول طلاب في الثانوية العامة علي100% من مجموع الدرجات أو ما دون ذلك بقليل؟ هذا أمر تنفرد به مصر ولا نكاد نجد له نظيرا في البلدان المتقدمة. يحدث هذا في الوقت الذي يضع فيه آخر تقرير للتنافسية الدولية مستوي تعليم الرياضيات والعلوم في مصر في المرتبة ال145 من بين148 دولة علي مستوي العالم لتحتل مصر بذلك الترتيب الأخير بين الدول العربية! تمتد الظاهرة نفسها إلي الجامعات لنشاهد حصول أعداد كبيرة من الطلاب علي الدرجة النهائية. بالطبع هناك طلاب متفوقون شديدو التميز يستحقون الحصول علي أعلي الدرجات والتقديرات. لكن هذا لا يبرر استشراء الظاهرة حتي كادت أن تصبح أمراشائعا. يقودنا تأمل هذه الظاهرة إلي أنها لا تعني بالضرورة النبوغ بقدر ما تعني أن معايير النبوغ لدينا قد تواضعت إلي حد أنها أصبحت تنتقص من مفهوم النبوغ ذاته. الملاحظة أن أحدا منا لم يسأل نفسه لماذا لا نري في الدول الأخري ظاهرة ال100% بل وما فوقها بإضافة ما يطلق عليه مواد المستوي الرفيع؟ وهل حدثت طفرة مفاجئة في مستوي نبوغ الطلاب المصريين خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية بينما كان التراجع يلحق كل شيء آخر في حياتنا؟ حين نقارن ظاهرة المائة أو ال99% بما كان عليه تقييم طلابنا حتي منتصف سبعينيات القرن الماضي نكتشف أن معاييرنا في التقييم والحكم علي الأشياء هي التي أصابها الخلل. فالمؤكد أن الطلاب المصريين قبل ثلاثة أو أربعة عقود لم يكن ينقصهم الذكاء والتميز ولا نبوغ بعضهم ومع ذلك فقد كان المتفوقون منهم يحصلون علي ما دون ال99% بكثير. ولم تكن امتحانات هذه الأيام بأسهل من امتحانات هذه الفترة. والواقع أن تدني معايير تقييم مستويات الطلاب لدينا سمة لظاهرة أعم وأشمل تجتاح الكثير من مظاهر حياتنا وهي المبالغة. فنحن في الواقع مبالغون في نظرتنا لأنفسنا إلي حد تضخيم حقيقتنا بأكثر مما يجب من حيث الموضوع وإلي شعورنا بالزهو الشديد, فليس هناك شعب غني لنفسه وامتدح ذاته بأوصاف تقترب من الأساطير مثلما فعل الشعب المصري. إن مصر التي تعاني اليوم تواضع مستوي اللغة العربية حتي لدي من تعتبر اللغة أداة أساسية لعملهم المهني هي التي يتحمل نظامها التعليمي المسئولية حين أتاح النجاح بل والتفوق لمن يجهلون أبسط القواعد الأساسية في اللغة. لهذا كان المشهد صارخا يوم تابع العالم العربي كله أهم محاكمة في تاريخ مصر( محاكمة الرئيس الأسبق مبارك) بينما كانت اللغة العربية تذبح علي ألسنة القائمين علي هذه المحاكمة. كان مؤلما سماع تعليقات مرة لمثقفين عرب وهم يتساءلون حول ما آل إليه مصير اللغة العربية في بلد الأزهر ودولة النظام التعليمي الأقدم في المنطقة. كثر من هؤلاء المثقفين العرب تعلموا في مصر يوم كان التعليم تعليما. وجه الخطورة فيما تنطوي عليه معايير تقييم طلابنا من مبالغة وخلل أنها تغرس في عقولهم منذ سن مبكرة الشعور بالتساهل وربما الاستخفاف بأصول ومتطلبات العمل المهني وهو ما يكرس ثقافة الاكتفاء بالحد الأدني.الأمر المؤكد في النهاية أننا حين نتساهل في تطبيق معايير تقييم الطلاب فنحن نختزل قدراتهم دون أن ندري. وستظل هذه القدرات كامنة معطلة لأنها لم تجد النظام التعليمي الذي يفجرها ويحسن توظيفها. مجرد تساؤل لماذا الإصرار علي إصدار قوانين تشعل الأزمات بدلا من السعي لإصدار قوانين تسهم في إطفائها؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم