غاية التعليم النهائية هي تحويل المرايا إلي نوافذ هكذا يقول الكاتب والناقد الأمريكي سدني هاريس المنشغل بقضايا التعليم. المغزي واضح في مقولته ففي المرايا لن نشاهد سوي أنفسنا أما النوافذ. فإننا نري العالم من خلالها. ونحن نحتاج لأن نكف عن النظر لذواتنا حتي نري الآخر المتقدم. وقبل صدور التقرير الأمريكي الشهير أمة في خطر في عهد الرئيس الامريكي رونالد ريجان كان سبقه بسنوات الرئيس ليندون جونسون حين كتب من المكتب الذي أجلس فيه تعلمت الحقيقة: أن الحل لكل مشاكل بلادنا ومشاكل العالم يرجع إلي كلمة واحدة هي التعليم. أما نحن في مصر فقد قامت ثورة عظيمة لكنها ستظل ناقصة النتائج محدودة الأثر ما لم تصل إلي نظام التعليم فتهزه هزا. كانت خاتمة مقالة الأسبوع الماضي أن هناك أسبابا لانهيار منظومة التعليم في مصر. وقد تساءل الكثيرون عن هذه الأسباب. وفي هذا الشأن لدي ملاحظتان أوليتان. أولاهما أن أسباب انهيار منظومة التعليم في مصر تبدو واضحة للجميع وليس في استقصاء هذه الأسباب أدني ابتكار. ولدينا الكثير من الكتب والكتابات المتعمقة في هذا الموضوع. لكن وبرغم وضوح هذه الأسباب فإن ما ينقصنا هو البحث عن جذورها حتي يمكننا أن نفرق بين الأسباب الظاهرة والأسباب الكامنة. الملاحظة الثانية أن البحث عن الجذور الكامنة والعميقة لانهيار التعليم في مصر يكشف الكثير من الملفات والوقائع التي تحفل بها حكايات النميمة في مصر وما أكثرها. وهذا منهج للكتابة قد يبدو مثيرا وشيقا لكنه يبعدنا في الغالب عن جوهر القضية ومقتضيات المعالجة الموضوعية ويجرنا الي مساحات شخصية يجب ان تكون الكتابة النزيهة بعيدة عن بواعثها. لهذا أفضل للحديث عن قضية انهيار التعليم اعتماد منهج نقدي ينطلق من الأولويات ويدلل بالوقائع لا بالأشخاص. انهار التعليم في مصر أولا لأننا نفتقد إلي النزعة الإصلاحية. لم نكن يوما جادين في مسألة إصلاح التعليم إصلاحا جذريا مثلما فعلت دول أخري غيرنا. هذا الإصلاح له أثمان وأعباء يتعين دفعها ليست فقط مادية بل سياسية واجتماعية وثقافية ونحن غير مستعدين لذلك حتي الآن لا المجتمع ولا الحكومة ولا المؤسسة التعليمية نفسها. مجتمعنا تنقصه النزعة الإصلاحية وصناع القرار الحكومي يفتقدون بدورهم الي الإرادة السياسية لتنفيذ مثل هذا الإصلاح. لننظر الي ردود فعل الأسرة المصرية من رفض وغضب وصراخ حين تتضمن امتحانات الثانوية العامة سؤالا من خارج المقرر لقياس قدرات الطلاب المميزين وهو أمر شائع في كل دول العالم. المجتمع نفسه يتحمل نصف المسئولية عن ظاهرة الدروس الخصوصية وهي مظهر العار في منظومتنا التعليمية. رجال أعمالنا الأثرياء لا يتبرعون بحفنة ملايين صغيرة كل عام لجامعاتهم التي تعلموا مجانا في رحابها كما يفعل أثرياء العالم الذين يتبرعون بجزء كبير من ثرواتهم لمؤسساتهم التعليمية. أما حكوماتنا المتعاقبة فهي ما زالت تتخبط علي مدي عقود طويلة في رسم سياسة تعليمية تتغير كل عدة سنوات الي حد التناقض ليصبح اهتمامها المتواصل هو فض التناقض بين هذه السياسات المتغيرة بدلا من الاهتمام بمستقبل التعليم. وسؤال الي المعلم المصري المكافح صاحب التاريخ التعليمي المجيد: بأي حق تمنح الآلاف من طلابك في الثانوية العامة الدرجات النهائية وشبه النهائية في الرياضيات والعلوم متباهيا بنسبة ال100% التي تضحك علينا العالم بينما آخر تقرير للتنافسية الدولية يضع تقييم تعليم الرياضيات والعلوم في مصر في المرتبة 145 من بين 148 دولة في العالم؟ دولة مثل لبنان لا تعرف ظاهرة ال100% في الثانوية العامة لكن تعليم الرياضيات والعلوم لديها احتل المرتبة الرابعة علي مستوي العالم!! والأردن المرتبة الثلاثين. في المسألة إذن خلل عميق. وكل خلل عميق يحتاج بالضرورة إلي إصلاح عميق وشامل. فهل لدي المجتمع والحكومة والمؤسسة التعليمية القدرة (والرغبة) في مثل هذا الإصلاح؟ لدينا خوف غامض ومتأصل من كل إصلاح جذري عميق في التعليم او غيره من المجالات. والأمثلة الشعبية المصرية كاشفة عن هذا النمط الغريب من التفكير. قد يبدو ذلك سمة للمجتمعات النهرية التي تلتصق تاريخيا بنهر كبير مثل نهر النيل. لهذا نردد مثلا سلبيا عدميا هو اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش. قارن هذا مع ما تقوله الكاتبة الامريكية آن مورولندبيرج مؤلفة كتاب هدية من البحر الذي ترجمته الناقدة الراحلة د. سهير القلماوي في عام 1957 من أننا لن نجد الأمن الحقيقي إلا في التطور والإصلاح والتغيير رغم ما قد يبدو في هذا من تناقض ظاهر. هذا يعني أن الأمية المتفاقمة ومحاولة كسر ظهر الأسرة المصرية بالدروس الخصوصية والإصرار علي مناهج تربي علي التبعية ولا تحرض علي التفكير الحر... كل هذا لم يمنع المصريين من الثورة حيث كان البعض يعتقد أن مثل هذا المناخ التعليمي كفيل بإماتة روح الثورة لدي الشعب. هذا ما ترمي اليه مقولة الكاتبة الامريكية وهذا هو الدرس الذي كان يجب أن يلتقطه الساسة. كان علي الساسة وعلينا جميعا أن ندرك أن ظواهر العنف والتعصب والكراهية والفوضي والانفلات هي الحصاد المر لنظام تعليمي هذه خصائصه وملامحه. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم