حكاية هذا الأسبوع قصيرة لكنها صادمة. حكى لى رجل أعمال عربى يشرف هو وزوجته على مجموعة مدارس عصرية ومتقدمة فى بلد عربى شقيق وينفق الكثير من المال على العمل الخيرى فى مجال التعليم. قال لى إن حلم حياته فى خمسينيات القرن الماضى كان أن يدرس فى مصر. ومنذ عامين قامت لجنة خبراء تابعة لمدارسه بزيارة إلى مصر للتعاقد مع مدرسين مصريين. وأجرت اللجنة اختبارات لنحو ثلاثمائة من المدرسين الشبان. ثم سألنى ترى كم عدد الذين نجحوا فى اعتقادك فى هذه الاختبارات؟ رددت عليه: بضع عشرات قليلة ربما! قال لى فى صوت لا يخلو من تأثر: لا أحد! ثم كرر العبارة بالإنجليزية لا أحد! شعرت كما لو أن صدى صوته يتردد للمرة الثالثة: لا أحد! (1) فى نفس هذا المكان كتبت الخميس الماضى مناشداً الوزير السابق د. يسرى الجمل أن يتحلّى بالجسارة الوطنية فى مواجهة العديد من مشكلات وربما أزمات التعليم المدرسى «ما قبل الجامعى». واستخدمت تحت عنوان «عريضة أحلام إلى العام الجديد» تعبيرات ربما بدت مؤلمة لكنها على أى حال صادقة بشأن ما آل إليه حال التعليم فى مصر. وأقيل الدكتور يسرى الجمل وحلّ محله الدكتور أحمد زكى بدر. والتغيير الوزارى أمر طبيعى ووارد فى كل وقت، ولا يجب أن يثير تذمراً على المستوى الإنسانى وفقاً للمقولة الشائعة «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك»! وهى فيما يبدو مقولة نرددها كثيراً متظاهرين بتصديقها لكن أحداً منا لا يحبها! وقد أتيح لى -مثل كثيرين غيرى- أن أكتب عن قضايا التعليم. ولكن الآن وبعد تعيين الوزير الجديد د.أحمد زكى بدر أجدنى مضطراً وربما مدعواً لأن أتوقف مؤقتاً عن الكتابة فى قضايا التعليم (ما قبل الجامعى!) لأكثر من سبب. السبب الأول، أن الوزير الجديد هو صديق وزميل دراسة منذ تعاصرنا فى مدينة جرونوبل الفرنسية. أتذكر شهامته ولا أنسى مساعدته لى فى أيامى الأولى فى فرنسا باعتباره صاحب أقدمية، وكم عانى معى هو وصديقنا الخلوق د. أحمد خليل يوم نقل حاجياتى ولوازمى من المدينة الجامعية «برليوز» إلى مسكنى الجديد. وفوق شهامته كان يتسم بروح الدعابة والمرح التى لا أعلم إن كان ما زال يحتفظ بشيء منهما بعد هذه السنوات الطويلة حيث تقلقنى صورته فى الصحف وهو يبدو متجهماً صارم الملامح! السبب الثانى، أنه من الطبيعى أن تكون تهنئتى إلى الصديق القديم بالمنصب المرموق مصحوبة بتعبير نوايا أعلن فيه عدم إزعاجه مؤقتاً وإعطائه الفرصة كاملة لكى يعمل فى رويّة وهدوء بعيداً عن التذمّر والشكوى من مرفق التعليم فى مصر. وقد جرت العادة أن يمنح المسؤول الجديد فترة سماح تعطى له فيها الفرصة لأن يتعرف على أوضاع البيت الجديد ويدرس ملفاته ويضع الخطوط العريضة لسياسته. وعلى الرغم من أن الوزير الجديد أتى من قلب البيت التعليمى «الجامعى» فلا نظن أنه كان بعيداً عن واقع المدرسة المصرية، ومع ذلك فإعطاء د. أحمد زكى بدر فترة سماحٍ نتوقّف فيها عن الكتابة والانتقاد أمر واجب إن لم يكن بحكم الصداقة فبحكم العقل والاعتبارات الموضوعية. لكن كم تكون يا ترى فترة السماح التى سنتوقف فيها عن الكلام المباح؟ مئة يوم؟ فترة جد قصيرة ربّما يتيسر له فيها بالكاد أن يحفظ أسماء قيادات الوزارة ومسؤوليها وموظفى مكتبه وترتيب الملفات التى ستتكدس حوله! ألف يوم؟ فترة سماح قد تبدو طويلة نسبياً. والواقع أن أثقال وأوجاع وأزمات التعليم ما قبل الجامعى فى مصر يحتاج التخلّص منها بافتراض وجود رؤية شاملة، وقدر معقول من الموارد، وإرادة سياسية قوية لما لا يقل عن عشر سنوات. نتمنّى للوزير الجديد أن يبقى فى الوزارة لهذه المدّة وأكثر، لكن لن تكون فترة السماح بطول هذه المدة بطبيعة الحال. فمن الممكن بعد عام واحد من الآن أن نقيّم على الأقل منهج عمل الوزير الجديد ونتعرف على ترتيب الأولويات لديه، بل وأن نحكم على درجة ما يتمتع به من إرادة وجسارة فى إصلاح البيت التعليمي. إذاً لتكن 365 يوماً أيها الصديق والوزير الذى نعقد عليه الآمال أتعهد خلالها بالتوقّف عن الكتابة الشاكية المتذمّرة عن أوضاع التعليم، ولعلى أدعو غيرى إلى ذلك وإن كنت لا أطمئن لنوايا الأستاذ الكبير لبيب السباعي!! وإلاّ فكيف لنا أن نستقبل صباح كل «اثنين» بدون صفحته المشوّقة. وربما أقترح عليه– إذا سمح لى– أن يركّز هذا العام على «التعليم العالى»! (2) لكن وقبل أن يبدأ «عدّاد» فترة السماح فى الدوران فإنى أضع الملاحظات الأخيرة التالية: أولاً: من المؤكّد أن الوزير الجديد يعلم كل شى عن واقع قطاع التعليم قبل الجامعى فى مصر، فللوزارة مراكز تطوير وأبحاث ومعلومات ودراسات تضع أمام الوزير الجديد – أو هكذا يفترض – كل ما يحتاج إليه من معطيات ومعلومات عن المدرسة المصرية. كما أن الكثير من المؤسّسات الدولية والإقليمية أعدت وتعد تقارير سنوية بالرقم والمعلومة والدراسة عن التعليم فى مصر من بينها مؤسسة الفكر العربى التى تصدر تقريراً سنوياً حول التنمية الثقافية فى الدول العربية يتضمن ملفاً ثابتاً عن التعليم ولو أنه مخصص فى العامين الماضيين عن التعليم الجامعى. ومن المؤكّد أن د. أحمد زكى بدر يطلع على هذه التقارير الدولية والوطنية. إذن هو يعرف كل شىء عن الواقع التعليمى وما هى مشكلاته وأزماته الظاهرة وأين تكمن أسبابها وجذورها الكامنة. أتصوّر الآن أن أحد الأسئلة المطروحة عليه وعلى كل مسؤول مصرى هو قضية ترتيب الأولويات. تُرى هل سيبدأ بمواجهة كل شىء أم سيضع ترتيباً للأولويات؟ وفى الحالة الأخيرة ما هو معيار هذه الأولويات التى يمكن البدء بها؟ من المؤكد أن للوزير الجديد رؤيته فى هذا الخصوص، فهناك أولويات تحتاج لموارد وامكانيات (بناء مدارس جديدة وتحديث ما هو موجود والوصول بعدد التلاميذ فى الفصل الواحد إلى مستوى معقول). وثمة أولويات أخرى تحتاج لفترة زمنية مثل القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية التى كادت أن تصبح تعليماً موازياً بكل معنى الكلمة تنفرد به مصر عن غيرها من مجتمعات العالم غنية أو فقيرة. على أى حال ربما يحتاج الوزير إلى وقت يضع فيه قائمة أولوياته الإصلاحية. ولعلَّ قدر كل وزير للتعليم فى مصر ألا يواصل التطوير بل «يصلح» ما هو كائن. وعلينا أن نعترف أن المطلوب الآن هو «الإصلاح» لكى يأتى عقب ذلك التطوير، فالقضاء على الدروس الخصوصية مجرد إصلاح، وبناء مدارس جديدة والحد من تكدس الفصول هو مجرد إصلاح، وتحسين ظروف عمل المدرسين ورفع مرتباتهم هو مجرد إصلاح. ليس عيباً أن نعترف بذلك، فالمهمة شاقة ولا يجدر بنا أن نخدع أنفسنا، فالشجعان والعقلاء هم الذين يعترفون بمواطن التقصير والخلل، لكن هذا لا يعنى أن التطوير مستحيل، بل هو ممكن وغير مكلف أحياناً! وهذا هو موضع الملاحظة التالية. ثانياً: هناك مساحة للتطوير الممكن وغير المكلف فى ملف التعليم فى مصر، وهو تطوير لا يحتاج لأكثر من «إرادة» المسؤول عن التعليم. وظنى يا دكتور أحمد أنك تمتلك هذه الإرادة. انظر إلى المقررات والكتب الدراسية فى المضمون والشكل، وضعها جنبا إلى جنب مع ما نطلق عليه الكتب الخارجية أو الكتب المساعدة أو بعض الكتب التى يعدها الآن «نجوم» الدروس الخصوصية ودعنا نتساءل: لماذا لا يتم تطوير المقررات والكتب الحكومية التى تعدها الوزارة وتنفق عليها المليارات بحيث نتخلص من هذا الحشو والتكرار، وننفض هذه الرداءة فى الطباعة والورق والتصميم. وإن لم يكن التطوير على هذا النحو ممكناً من قبل الوزارة نفسها لأن هناك مصالح وأعشاشاً للدبابير لا تريد أن تقتحمها فعلى الأقل يمكنك توفير هذه المليارات التى تنفق على كتب نعلم جميعاً أن أبناءنا وتلاميذنا لا يعتمدون عليها وفى مقابل ذلك تقرر أن تكون الكتب الخارجية الناجحة والتى يتلهف عليها تلاميذنا هى الكتب الرسمية التى تعتمدها الوزارة فى المدارس ثم تدفعون لأصحاب هذه الكتب حقوق التأليف والنشر. وبذلك تضمنون كتباً متطوّرة حديثة من ناحية، وتوفرون على ميزانية الدولة (حقوق التأليف والورق والطباعة والتوزيع) كل هذه الأموال الطائلة التى تنفق دون جدوى. وسواء فعلت ذلك أم لم تفعل فإننى أقترح عليك أن تلقى مجرد نظرة على كتاب مدرسى حملته معى من المغرب، وهو كتاب مقرر على تلاميذ الصف الثالث الثانوى يمكننى إرساله إليك إذا رغبت.. ما هذا المضمون وهذا الإبداع وهذا الجمال فى صناعة الكتاب بدءاً من محتواه وحتى طباعته وتصميمه وألوانه. هل أصبحنا نحتاج يا صديقى إلى إرسال بعثة مصرية للمغرب للاطلاع على كتبهم المدرسية؟ ثالثاً: وجه آخر للتطوير «الممكن» الذى تتمثل تكلفته الوحيدة فى «إرادة» التغيير هو إعادة الاعتبار الوطنى والتربوى لمؤسسة المدرسة التى أغلق المعلمون والمتواطئون أبوابها وانشغلوا بالدروس الخصوصية. ولست أقصد بإعادة الاعتبار الوطنى والتربوى لمؤسسة المدرسة سوى أن نرى مرة أخرى حصص «الموسيقى»، و«الألعاب الرياضية»، و«الأنشطة»، وأن نرى المسابقات الثقافية والفنية والرياضية تعود للمدارس من جديد. هذه ليست مجرد أنشطة ومسابقات فقط، إنها مساحات للتواصل التربوى، وعوامل لتحقيق التجانس الاجتماعى، ومحفزات للانتماء الوطنى، ومناسبات لاكتشاف المواهب واحتضان القدرات والبراعم الصغيرة. لقد طغت الحصص المدرسية التقليدية، وشاعت ثقافة التلقين، وانتشر العنف، وسادت السلبية فى مدارسنا. مثل هذه الأنشطة والمسابقات ستعلم أبناءنا قيم الحوار، والابتكار، والاحترام، والإيجابية، والانتماء.. هل لديك شك يا عزيزى أن مجتمعنا قد تراجع يوم تراجعت هذه القيم؟ المدرسة أملنا ووسيلتنا وفرصتنا لكى نعيد الاعتبار لهذه القيم من جديد. رابعاً: مازلت أعتقد أن كل الرؤى والسياسات التعليمية تحتاج لأن توضع فى إطار إستراتيجية بعيدة المدى لتطوير التعليم فى مصر. إستراتيجية تتسم بالتكامل والشمول. التكامل بين الكثير من عناصر العملية التعليمية التى تشبه الأوانى المستطرقة، فمهما كان التطوير هائلاً فى عنصر ما فإنه يتوقف فى النهاية على تطوير آخر مطلوب فى عنصر أو عناصر أخرى. والشمول فى معنى تحقيق الانسجام بين قطاعى التعليم المدرسى والتعليم الجامعى، فلا يمكن حسم مسألة أسلوب الالتحاق بالتعليم الجامعى وتحديد العدد الأمثل للطلاب المقبولين بمعزل عن مخرجات التعليم قبل الجامعى. ثم إن قضية التعليم الفنى قبل الجامعى لا بد أن تأخذ ما تستحق من اهتمام وتطوير. خامساً: لماذا لا ننشئ مجلساً وطنياً للتعليم يضع خطط التعليم قبل الجامعى، والتعليم الجامعي، وربما البحث العلمى أيضاً ضمن استراتيجية واحدة بحيث يكون الوزراء فى هذه القطاعات الثلاثة معنيين بتنفيذها لما بينها من ارتباط وتكامل؟ إن وجود مجلس وطنى للتعليم يكون تابعاً مباشرة– ولو فى مرحلة أولى– لرئيس الجمهورية هو ما يجعله قادراً من ناحية أولى على اتخاذ إجراءات إصلاح جذرية قد يخشى وزير من اتخاذها منفرداً فى ظل ما يقال عن ضعف ثقافة التضامن الحكومى! ويضمن من ناحية ثانية تكامل وتجانس خطط الإصلاح فى قطاعى التعليم قبل الجامعى والجامعى معاً، ويكفل من ناحية ثالثة ألا تتغير السياسات التعليمية بتغير أشخاص الوزراء. وفى النهاية هآنذا أعلن توقفى عن الكتابة فى التعليم لمدة عام كامل وأدعو الآخرين أن يحذوا حذوى لنعطى الفرصة لوزير جديد أن يعمل فى هدوء فلديه الآن من الدراسات والتقارير والحكايات ما يكفى! [email protected]