طالعتنا الصحف مع أول امتحانات الثانوية العامة بخبر نشر امتحان اللغة العربية على الصفحات المنشأة خصيصاً لتسريب امتحانات الشهادات العامة. وظاهرة الصفحات الإلكترونية المخصّصة للغش، التى تحمل أسماءً مثل «بلوتو» و«غشاشون فدائيون» و«بردو (مكتوبة هكذا) هانغش» عرفتها مصر منذ عدة سنوات، ودخلت السياسة أحياناً على مسمياتها، كما حدث عندما اتخذت إحداها، فى ظل حكم محمد مرسى اسم «الحارة المزنوقة». وعلى الفور حدث استنفار فى وزارة التربية والتعليم، وتم اتخاذ مجموعة من الإجراءات داخل اللجان لمنع تكرار التسريب، لكن سواء مرت باقى الامتحانات بسلام أم لا، فإن ظاهرة الغش فى الامتحانات تستحق التوقف أمامها بمنتهى الجدية، فلا تطوى صفحتها بمجرد انتهاء مولد الثانوية العامة، انتظاراً لمفاجآت جديدة فى العام المقبل. بداية، عندما نتكلم عن هذه الظاهرة، فإننا نشير إلى عالميتها، وشخصياً هالنى وأنا أتجول بين صفحات الإنترنت للبحث فى الموضوع أن دولة عظمى مثل الصين خصصت طائرة من دون طيار لرصد أى إشارات تصدر من داخل لجان الامتحان أو خارجها، بما يمكن الطلاب من الغش! وفى الهند المعروفة بتطورها فى مجال التقنيات والبرمجيات انتشرت صورة لعشرات الأهالى يتسلقون سُور إحدى المدارس لمساعدة أبنائهم فى الامتحان، على نحو أعجز الأمن عن احتواء الموقف! لكن ذيوع الظاهرة عالمياً لا يُكسبها شرعيتها، خاصة أن لها أثمانها الاجتماعية الفادحة. وفيما يخص الحالة المصرية فأول ما يلفت النظر فيها هو التطور المذهل لظاهرة الغش من مجرد عمل فردى، إلى فعل جماعى داخل اللجان، إلى تشكيل روابط فى الفضاء الإلكترونى تتحدّى سلطة الدولة وتهزم قدرتها على مجرد تنظيم امتحانات لعدة آلاف من الطلاب. تقفز تلك الروابط على العلاقة بين الوزارة المعنية وبين الطلاب وتقيم معهم علاقة مباشرة على طريقتها، تتلقى الشكر منهم متى نجح التسريب كما حدث فى امتحان اللغة العربية قبل أيام، وتطولها سخريتهم المؤلمة متى فشلت فى انتهاك سرية الامتحان كما حدث مع مادة الميكانيكا فى عام 2013، حين علق بعضهم على هذا الفشل بالقول: «النهارده وصمت (كُتبت هكذا) عار على جبين الغشاشين!». روابط تجتمع على تأسيسها ودعمها ونشر بياناتها مصالح بعض الطلاب والمدرسين والمراقبين وأيضاً المعارضين السياسيين، ومثل هذا التشابك يوضح مدى تغلغل الفساد فى قطاعات وشرائح مجتمعية مختلفة، هذه واحدة. الأخرى أن الظاهرة التى نتناولها لا تقتصر فقط على التعليم المدنى، لكنها تمتد، وهذا أدهى إلى التعليم الدينى أيضاً، ومن متابعات الصحف خلال هذا الأسبوع وحده نقرأ عن الغش الجماعى فى عدة معاهد للثانوية الأزهرية، لا بل تورط رئيس منطقة تعليمية ورئيس لجنة وعدة مراقبين فى تسريب مادة الحديث، وهذا لا معنى له إلا أن هؤلاء قد التمسوا لأنفسهم من الأعذار الشرعية ما يحلل لهم فعل الغش ويسوغه، وبمثل تلك المزاجية فى التعامل مع النصوص الدينية سوف يعتلى هؤلاء المنابر ليحللوا ويحرّموا على هواهم وتبعاً لمصالحهم، وبالتالى فقبل أن نتحدث عن أهمية تجديد الخطاب الدينى وفائدته، علينا أن نسأل أنفسنا أولاً عن موضع الدين فى خطاب أمثال هؤلاء. والثالثة أن ضلوع الأهالى فى إعانة أولادهم على فعل الغش يكشف عن وجه آخر من أوجه الازدواجية الأخلاقية التى تمارسها تلك الأسر بامتياز، فالأرجح أن الأهالى الذين لا يَرَوْن أى غضاضة فى ترديد إجابات الأسئلة على مسامع أبنائهم عبر مكبرات الصوت خارج اللجان تميزهم صرامة ملحوظة فى مواجهة مظاهر أخرى للانحراف السلوكى لأبنائهم، كالكذب والسرقة، وكأن الغاية أصبحت معيار الحكم على الفعل قبولاً ورفضاً. هنا نلحظ أيضاً أن هذا التشوّه الأخلاقى لا يطال الجيل الذى لم يدرك العشرين من عمره، لكنه يمتد إلى ما قبل ذلك بنحو ثلاثين عاماً. إن هذه الظاهرة تستوجب اهتماماً على أعلى مستوى يتجاوز التعامل معها كمرض، إلى النظر إليها كأحد أبرز أعراض تشوه العملية التعليمية، أما الأعراض الأخرى فتشمل مضمون المادة التعليمية ووسائل التعليم، وبالطبع طريقة التقويم. ومن هنا فإن الأمر يحتاج إلى جهد مؤسسى متواصل يتم فى إطار المجلس القومى للتعليم، وينفتح على مساهمات تربويين وعلماء اجتماع وسياسة، للبحث فى كيفية إعادة التعليم إلى المدرسة وعندما يعود التعليم سيعود الطالب، وعلى هامش هذا الهدف المحورى من المهم التفكير فى تطوير أسلوب تقييم الطلاب من الاعتماد الصرف على نتيجة الامتحان إلى تكليف الطلاب بأنشطة بحثية على مدار العام وانتداب مدرسين من خارج المدرسة، لإجراء اختبارات شفهية وتغيير شكل الامتحان النهائى نفسه باستمرار، مع تغليظ عقوبة الغش والالتزام بتطبيقها. إن بين يدى أكثر من رسالة جامعية فى كليات التربية أعدت من سنين وتناولت جوانب مختلفة لظاهرة الغش: أسبابها وأشكالها وسبل مواجهتها، ولست متأكدة من أن تلك الرسائل وجدت طريقها للاهتمام، وأظن أن الاستعانة بها والتواصل مع معديها فيه فائدة. وفى كل الأحوال فإنه من دون الإيمان بأنه لا تنمية دون تعليم سوف يظل الغش مجرد ظاهرة نطاردها عاماً تلو عام، فننجح مرة ونفشل أخرى، فيما يبقى حال التعليم على ما هو عليه.