لم تتوقف ماكينة إنتاج الرطان العام منذ اللحظة المجيدة التى صنعها المصريون فى الخامس والعشرين من يناير 2011، هذه اللحظة التى كان لا بد أن يتلوها عمل حقيقي، من تكريس لمدنية الدولة، وحراك حقيقى للأحزاب فى الشارع المصري، وتقديم خطابات جديدة من النخبة المصرية تعبيرا عن خيال جديد ووعى ممكن ومسئول معا باللحظة الثورية، غير أن واقع الحال وما آل إليه أفضى إلى مزيد من عزلة النخبة عن جماهيرها من زاوية، وتراجع مفهوم مدنية الدولة فى ظل سطوة التيار الدينى من جهة ثانية. إذن غاب كل شيء حقيقي، وحضر كل ما يتعلق بالرطان الفارغ، بدءا من توهم البعض بامتلاك فكرة الثورة ذاتها، والقبض عليها، واحتكارها، ووصولا إلى أن تصبح الثورة ذاتها صكا يمنحه البعض للبعض الآخر، أو يمنعه عنه، تبعا لعشرات الأشياء التى تعبر فى جوهرها وتحليلها النافذ عن ذهنية غضة أحادية التصور صوب الحياة والعالم. وبدت ما كينة الرطان العام تحمل صراخا يوميا، المزايدة فيه باتت العملة الرائجة، وعرفنا تيمة المناضلين بأثر رجعي، والزاعقين صباح مساء بأن مفتاح الثورة معهم، فكل منهم يعتبر نفسه راعى الثورة ومؤرخها ومانح صكوكها ونبيها المزعوم!. لقد مثلت هذه الحالة العصابية عنوانا على فهم رجعى للعالم، ينطلق من يقين دامغ، ويتجه صوب تدشين قناعات ماضوية تليق بفصائل التيار الدينى ومتثاقفيه المتمترسين خارج التاريخ، غير أن هذه الحالة العصابية/ الماضوية/ المرتبكة التى تضع قدما هنا وقدما هناك، سرعان ما تسربت لمتثاقفين آخرين من خارج التيار الدينى لكنهم ليسوا أفضل حالا فى الحقيقة، لا على مستوى الوعى ولا على مستوى السقوط القيمى فى اختبار الفرز المستمر بدءا من الثورة المصرية وحتى اللحظة الراهنة. وبدت جماعات من الليبرالية الجديدة، مع سواقط التيار الدينى من المتثاقفين الذين قضوا شطرا من عمرهم داخل تنظيماته المتخلفة، مع مزايدين آخرين من دعاة هدم الدولة، وتمجيد الفوضوية، بدا هؤلاء جميعهم معتقدين بقدرتهم على توجيه الرأى العام عبر صكوك الثورة المحتكرة والمخنوقة فى أسوار الصخب الزاعق، وبدا هذا التعامل الأبوي، اليقينى المحتكر للحقيقة وللثورة ولكل معنى نبيل، جزءا من وعى قديم للغاية، بائس وتعيس، يعبر عن هوس بالذات أكثر مما يعبر عن رغبة موضوعية فى الانتصار للمقولات الكبرى التى تراجع الاهتمام بها تحت مظلة الاهتمام بالذاتي، ولم تعد الثورة الآن سوى رطان يلوكه البعض ضد البعض الآخر، فى ظل عدم قدرة من الدولة المصرية على وصل الطريق المشترك ما بين الدولة والثورة. فقط ليتوقف الرطان قليلا، لنسع ولو لمرة واحدة لعمل جاد وحقيقي، ينبيء عن تصور جديد حيال عالم معقد ومتشابك، صارت فيه المعرفة قوة، غير أننا رضينا بسبات عميق، وبجدل عقيم لم ولن يجدى نفعا. إن من يملك القدرة على إنتاج أفكار جديدة هو من يقود العالم الآن، ومن يدرك جدل السياسى والثقافى يضع قدمه على حافة التقدم، ومع ذلك كله تبقى حاجات الناس بوصلة لا تخطيء، وأمانيهم فى غد أفضل غاية لدولة كبيرة صنع شعبها ثورتين خالدتين فى ثلاث سنوات. لكن للأسف الشديد تستمر ماكينة إنتاج الرطان بفاعلية مدهشة لن تفضى سوى لمزيد من العبث، هذا العبث الذى لم يزل يتعاطى مع الدولة باعتبارها فى نزهة خلوية، وليست فى معركة حقيقية مع وكلاء لمستعمرى الأرض، من القوى الكبرى من جانب، ووسطاء للسماء من جانب ثان، فالإرهاب يشتد، والقوى الرجعية مدعومة من سماسرة المنطقة وقوى الاستعمار الجديد تلقى بثقلها فى المعركة، وتوهم جماهيرها البعيدة عن العقل بأنها تحارب حربا مقدسة!!، وبينما يخوض جيشنا الباسل معركته الضارية ويقدم فيها بوطنية تليق به شهداء أبرار من أبنائنا، ترى جماعات من هؤلاء المتثاقفين منفصلين عن الواقع، ولا يعنيهم سوى عدد مرات الإعجاب التى ينالونها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أن يرتدوا دوما مسوح الأبطال المزيفين الذين ليس بينهم وبين البطولة بمعناها الدال والعميق أية صلة، ومن ثم تراهم يزايدون على كل شيء، وأى شيء، وفى الآن نفسه لا يتوقفون عن حصد الغنائم وانتظار المكاسب من الكل. إنها حالة من الشيزوفرينا تصيب بعض الأفاقين الذين يناضلون زيفا بأفواههم، ويمارسون فى الآن نفسه كما من الفساد المهنى والفكرى والثقافى بأفعالهم، تكريسا لحالة من الخداع للذات قبل أن يكون خداعا للعالم. وتتواتر حالات المزايدة ويستمر الزيف مطلقا صراخه اليومي، عابثا بأى شيء، وبأية قيمة، لاعنا كل مبدأ، منحازا لتصوراته العبثية صوب الحياة والوطن والعالم والأشياء. إن تقدم أية دولة يظل مرهونا بقيمة المساءلة والمراجعة لواقعها، هذه المهمة التى ينهض بها المجموع، وتبدو النخبة فى متن هذا الفعل المهم، لكن ما نراه من البعض ليس مساءلة للواقع، ولكنه مزايدة عليه، والمزايدة لا تنتج شيئا سوى إثارة الهواجس والجدل العقيم، والابتعاد الفعلى عن أية خطوة تهدف إلى المصلحة الوطنية العليا، لذا تبقى الكتابة فى الشأن العام مسئولية وطنية وقيمية قبل أن تكون أى شيء آخر، وللأسف هذا ما نفتقده كثيرا الآن، فتتحول الشائعات إلى حقائق فى عرف المزايدين، وترتقى لديهم الأكاذيب إلى مرتبة الحجج الدامغة، وهذا ما لا يقره منطق ولا عقل ولا ضمير ولا وعى حقيقى براهن الناس ومعاشهم اليومي، وأحلامهم فى وطن دافعوا عنه ليبقى ويتقدم. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله