ستبدو الأسئلة نمطية للغاية، والإجابات سابقة التجهيز، لو تعلق الأمر بالراهن المصرى بعد أربع سنوات من قيام الثورة الشعبية المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير 2011، ومن ثم نحن بحاجة حقيقية لقراءة موضوعية للمشهد المصرى بتحولاته السياسية/ الثقافية العاصفة التى مرت بنا فى السنوات الماضية. فى البدء كانت يناير. هكذا بدت الثورة المصرية فى حراكها العام، مشغولة بالخلاص من الفساد والاستبداد السياسى الذى جثم على صدر الأمة المصرية لأكثر من ثلاثين عاما، وخضعت الدولة المصرية ذاتها لتآكل فى دورها ونخبتها وقوتها الناعمة طيلة أربعين عاما من حكم ( السادات/ مبارك)، ولاحت أشواق المصريين فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، وبدا القادم أجمل نظريا، لكن ثمة غربانا تسكن العتمة دائما، وكان مشهد ميدان التحرير نبيلا ومؤثرا، فضاء مختلف لسياق جديد يتشكل فى مصر، بقيت من رائحته قدرة المجموع على تحدى السلطة ومقاومة بطشها وخلعها أيضا كما حدث بعد عامين ونصف تقريبا، فى ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة. أعربت لبعض الأصدقاء فى الميدان عن هواجسى صوب سماع نداء «إسلامية إسلامية»، والذى رددته بعض جموع الإخوان والسلفيين فى الأيام الأخيرة التى سبقت خلع مبارك، وما يحمله الهتاف من اختزال مسبق للثورة فى طابع أحادى المعنى والدلالة والصيغة، وتمهيد أولى لدولة ولاية الفقيه المنشودة من قبل أنصار التيار الديني. تلك الهواجس التى بدت مشروعة تماما فى عرف بعض المثقفين وشاركونى إياها، ومبالغة فى عرف البعض الآخر آنذاك، لكن قدرة الميدان على طرح القواسم المشتركة والمتمثلة فى مطالب الجماهير التى زحفت للجماهير عبر أزقة وحارات تحيلك إلى عوالم نجيب محفوظ بامتياز، كانت أشد حضورا. لكن فى الأيام التى تلت انفضاض المجموع بدأت تتكشف عوالم جديدة، سبقتها مساومات وصفقات أبطالها الإخوان المسلمون، وما بين إبطاء عمدى لكل ما ينتظره الناس بعد ثورة نبيلة راح فيها شهداء أبرار وسقطت دماء ذكية، وتسريع مثير للتساؤل لوتيرة أشياء وأحداث ستصب فى نهاية المطاف فى خدمة التيار الدينى بفصائله التى تعددت وصارت أحزابا دينية تعمل كذراع سياسية لحركات إسلامية! فى مفارقة كوميدية لا تحدث سوى فى بلدان العالم الثالث، وأصبح الحزب الإسلامى من هؤلاء يقدم باعتباره الذراع السياسية لجماعة كذا أو لتيار كذا، وكان استفتاء 19 مارس الشهير وشيوع أصوات الجنة والنار، وغزوة الصناديق المباركة وفضائيات الخرافة والدجل الدينى والسياسي، ولأن النخب السياسية والثقافية كانت قد تعرضت لما سميته من قبل ب «تآكل النخبة المصرية»، فقد راج حضور الإخوان ووجدوا مشايعين لهم من قبل كثيرين من غلمان محسوبين على القوى المدنية، وللحق هؤلاء كانوا جميعهم رجعيين بامتياز، ومن ثم فلا غرابة فى ذلك، ومعظمهم ارتحل مع الإخوان إلى قطر ثم إلى تركيا الآن، لكن الأدهى تمثل فيما بعد، أى فى دعم بعض المشتغلين بالسياسة والثقافة من الراديكاليين والمؤمنين بدولة المواطنة والدولة المدنية الجديدة لحراك الإخوان وتلاعبهم بثورة يناير وامتطائهم إياها، فى ظل استمرار صيغة التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية. وبدت الفاشية الدينية تطل بوجهها القبيح محتمية بغطاء سياسى فى الحكم، تمثل فى حصد مقاعد البرلمان المصرى على دماء الثوار فى محمد محمود، ثم حدثت أمور فى حكم العجائب، فقرات بهلوانية لأبطال وهميين وكذبة وأسماء يتعرف عليها المصريون ربما للمرة الأولى من قبيل فقرة أبو إسماعيل وحازمون، وضرب فكرة الدولة لمصلحة مفهوم الجماعة. وكان قدوم محمد مرسى استمرارا لحالة العبث بالثورة والدولة المصرية معا، بعد أن بدا الخيار أمام المصريين غارقا فى المأساوية والبؤس بين نظامين قديمين بامتياز، مبارك من جهة، والإخوان من جهة ثانية، وبدأت حالة التكريس لدولة الملالى الجديدة تتم على قدم وساق منذ اللحظة الأولى عبر خطابات تمييزية ( أهلى وعشيرتي)، ووصلت فى منتهاها إلى خطابات طائفية وتحريضية بغيضة ( التحريض على قتل الشيعة فى زاوية أبى مسلم، التحريض على المسيحييين وعدم تهنئتهم فى الأعياد المصرية)، وقمع الحريات الفكرية، والتفكير فى منح أفراد الجماعة حق الضبطية القضائية، ومحاصرة الفضاء العام، فى محاولة لخنق مصر وثورتها، وتحويلها لولاية عثمانية فى تاج السلطان التركى المزعوم. بعد سنوات أربع من الثورة المصرية يجب علينا أن نراجع ما كان، وننظر بعين مفتوحة لما هو قادم، فدموع الأمهات لم تجف بعد، وعيون أنبل ما فينا راحت، ولا سبيل سوى إقامة العدل بوصفه ميزانا للحياة على الأرض، وغاية كبرى تهفو إليها كل روح حرة فى وطن حر، وأن تحدث قطيعة حقيقية مع الماضى بكل تفاصيله المخزية وأنفاره المتثاقفين من حقبتى مبارك ومرسي. فى سياق مسكون بالتحدى على جميع المسارات، تخوض فيه الدولة المصرية معركة حقيقية مع قوى التطرف والإرهاب يجب أن تدرك السلطة حتمية التأسيس لمناخ ثقافى وفكرى جديد، ابن خيال مختلف، وروح وثابة. وفى لحظة مفصلية من عمر أمتنا المصرية والعربية استعادت فيه الدولة المصرية عافيتها بعد محاولات طمس الهوية الوطنية من قبل الإخوان ومن والاهم، يجب أن تتلمس الدولة المصرية طريقا لناسها عبر ممر الثورة وغاياته الكبري، فتحقق لجماهير شعبها ما ترنو إليه من آمال وتطلعات، وتؤكد للمصريين أن ما خرجوا إليه لم يكن سرابا، بل كان حلما باتساع المدي، عينه على الحرية والعدل الاجتماعى واستعادة جدارة الإنسان. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله