بدا الخروج الهادر للجماهير للتصويت علي الدستور المصري الجديد تكريسا جديدا للشرعية الثورية التي أنتجتها ثورة الثلاثين من يونيو, وتعضيدا لملامحها الأصيلة في الاستقلال الوطني, والانتصار للهوية المصرية. تحقيقا للغايات الكبري للثورة المصرية الأم يناير2011: عيش/ حرية/ عدالة اجتماعية. وبما يعني أن الشرعية الشعبية التي تمثلت في ثورة الثلاثين من يونيو, قد باتت اليوم وعبر التصويت الباهر للمصريين أكثر تجذرا, مدعومة بشرعية دستورية ترتكن إلي أصوات الملايين من جماهير شعبنا. واللافت للنظر أن الدولة المصرية في رهانها الانتخابي الأول علي جماهير شعبنا قد ربحت الرهان تماما, وبما يعني أن الرهان علي الناس هو الرهان الأصيل والخيار الفاعل للانتقال بالبلاد إلي أفق ديمقراطي أكثر رحابة, وبما يملي علي الدولة أيضا أن تدرك أن نجاحها مرهون فقط بخيارات شعبها من جانب, وبقدرتها علي تحقيق أهداف الثورة بموجتيها من جانب آخر. بلورت المشاركة الشعبية الجارفة في الدستور أفقا جديدا للمواجهة بين الدولة المصرية المدعومة بشرعية مستمدة من ثورة شعبها, وقبول جماهيرها المعلن عبر صناديق اقتراع نزيهة من جهة, والجماعة الإرهابية المعزولة شعبيا, والغارقة في القتل والدماء منذ نشأتها عام1928 وحتي الآن, من جهة ثانية, وبما يعني أن الخندق الوطني الجامع والحاوي لعناصر الأمة المصرية بكافة تنويعاتها قد بات أكثر صلابة في مواجهة جحافل التتر القادمين من براري الرجعية, وكهوف الماضي السحيق, والمدعومين من نخب متواطئة تتبع السيد الأمريكي العولمي مباشرة!. علي أنه لم يكن الحضور الشعبي الهادر فحسب أهم ما يسم الاستفتاء في يومي14 و15 يناير2014, ولكن التنويعات الماثلة في الحضور ذاته, من طبقات اجتماعية مختلفة, وأجيال عمرية متنوعة, ومشاركة واسعة من المرأة المصرية, والتي حاول الإخوان قمعها كثيرا, ومصادرة حريتها, والتعاطي معها بوصفها عورة وكلنا يذكر المشهد العبثي لمرشحات الجماعة من قبل وحلفائها من القوي الرجعية وهن يضعن صور أزواجهن بدلا منهن أو يضعن صورة وردة برية أو فراغا يشبه علامة الفاي الرياضية الشهيرة! ومن ثم بدا الحضور الباهر للمرأة في شق منه تصويتا عقابيا ضد كل من حاولوا أن يسجنوا حريتها يوما ما, وبالمثل بدا حضور الأقباط بوصفهم شريكا أصيلا داخل الجماعة الوطنية المصرية كثيفا, خاصة وقد بدوا منزعجين من خطاب الكراهية ومكتوين بنيرانه التي طالتهم ولا تزال بفعل الممارسات الإرهابية لجماعة الإخوان وحلفائها الساعين لتكريس خطاب أحادي يحرض علي العنف ومصادرة حق الاختلاف. وفي ظل المشهد المصري المسكون بتداعيات جديدة ومختلفة طيلة الوقت, بفعل لحظة سيالة ومرتبكة بعض الشيء, يصبح التدشين للشرعية الدستورية عبر القبول الطاغي في الاستفتاء مهادا أساسيا لصيغة30 يونيو, وانتصارا لها في آن, وبما يستلزم الإسراع في حسم السؤال الرجراج الآن حول أيهما يسبق الآخر: الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية؟, علي أن تدرك السلطة أن المشاعر الشعبية للسواد الأعظم من الجماهير مع البدء بالانتخابات الرئاسية, وأن ولاءها لناسها وقراءتها الدقيقة للحظة الراهنة عاملان أساسيان في المستقبل. ويبقي الدستور الجديد بوصفه المحطة الأولي والمركزية في خارطة المستقبل رهانا مفتوحا علي أحلام المصريين وأمانيهم صوب عالم حر وإنساني وتقدمي تستعاد فيه قيمة المواطنة بحق وتغلب فيه دولة القانون, ومن ثم توجب اللحظة الراهنة تفعيلا أصيلا لنصوصه وقطعا لشوط التحول الديمقراطي إلي نهايته, ومواجهة حاسمة لقطعان الإرهاب لا لين ولا هوادة فيها, ليصبح إنجاز الموافقة بأغلبية كاسحة علي الدستور بمثابة الخطوة السياسية الحقيقية الأولي في قطع الطريق علي أعداء الحرية من الإرهابيين, متضافرة مع التضحيات الجسام التي يقدمها جنودنا البواسل في مواجهاتهم لجحافل المتطرفين, ويبقي علي الدولة المصرية أن تدرك أن الإنجاز السياسي عبر الدستور, والحسم في مواجهة الإرهاب دفاعا عن المصريين, يتطلبان مناخا تنويريا ثقافيا بحق, يمكن للديمقراطية أن تؤتي ثمارها, وتصنع أفقا تثقيفيا يحرر الوعي المصري. أصبح الدستور المصري استحقاقا شعبيا بامتياز, معبرا عن الروح المصرية المتجددة, في غناها وتنوعها الخلاق, وصارت مدنية الدولة خيارا حقيقيا أمام جموع المصريين بحثا عن عالم أكثر عدلا وجمالا وإنسانية, فالثورة الشعبية العارمة في الخامس والعشرين من يناير, امتطاها الرجعيون, وأحالوا الأمة المصرية إلي مجرد تابع في دولة الخلافة العثمانية المزعومة, وتعرضت مدنية الدولة لهزة عنيفة إبان حكم الإخوان الفاشيين, واستشري في عهدهم التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية, ثم جاءت ثورة الثلاثين من يونيو بزخمها الهائل لتسعي لاستعاة الهوية الوطنية المصرية, والتكريس لمدنية الدولة باعتبارها خيار الجماهير والثورة والنخب الطليعية الجديدة, وليصبح الدستور بمثابة العقد الجديد في لحظة بالغة التعقد والتشابك. لقد أظهر الدستور كما أظهرت محطات أخري أن الرهان الحقيقي يصبح علي الناس, وأن نجاح أي سلطة مرهون بإرادة ناسها, وأنه لا صك علي بياض, ومن ثم يجب أن يبقي الشعب خيار السلطة الرئيسي والاستراتيجي والوحيد, لأنه لا إنجاز بلا شعب يقظ, ومنتم, وشغوف بوطنه, كما يفعل ناسنا وأهلنا من المصريين, أما الهواجس المشروعة لدي جمهرة من المتثاقفين الغائبين عن راهن الناس والمتعالين عن أحلامهم البسيطة, وبعضهم مثلا انتقد ببلاهة طريقة التعبير عن الفرح بالدستور فإننا نكتشف يوما بعد يوم أن وعي الناس سابق علي وعي نخبها التي تآكلت بفعل التجريف السياسي والثقافي الحادث منذ أربعين عاما تقريبا. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله