لم تكن ثورة الثلاثين من يونيو2013 المجيدة محض استكمال لما بدأته الموجة الأولي من الثورة المصرية يناير2011 فحسب, ولا حتي مجرد تصويب لمسارها الذي اختطفته القوي الرجعية طمعا في تفتيت الأمة المصرية, وتهديد هويتها الحضارية. بل كانت ثورة الثلاثين من يونيو دافعا جديدا للأمل, وحارسا له, وتعبيرا جليا عن أن الأمة المصرية ساعية صوب عالم أكثر عدلا, وجمالا, وإنسانية, وأن التلاحم ما بين جموع المصريين, وجيشهم الوطني الباسل أمر جوهري في الوجدان الجمعي للشعب المصري, وأن أي فرز طائفي مآله إلي الهاوية, ولذا لم يكن مدهشا لكل قارئي التاريخ المصري بتراكماته الحضارية, وحقبه المختلفة, أن يدركوا أن الثورة كان ولا بد أن تكون, وأن كل الدارسين الحقيقيين- لا عملاء الأمريكان وصبيانهم- للتحولات السياسية, والاجتماعية, التي تختمر في بنية المجتمع المصري, يلحظون أنها كانت تدفع دفعا إلي فكرة الثورة بوصفها حلا جذريا أصيلا لأمة هوت في بئر سحيقة, يحيط بها غلمان الرجعية, وحلفاء الإرهاب, من كل صوب وحدب, مدعومين من آلة استعمارية ممثلة في السيد الأمريكي الرأسمالي التعيس, ولذا كانت ثورتنا مشتملة علي أمرين أساسيين: الأول استعادة القرار الوطني المصري ليخرج من رحم القاهرة وحدها, لا من موائد واشنطن, والثاني استعادة الهوية الوطنية المصرية الجامعة التي حاول الإخوان المسلمون تغييبها كثيرا لصالح نظرة أحادية, معتمة, وضيقة للحياة وللعالم, نظرة ماضوية قائمة علي اجترار التراث القديم, ومعاداة اللحظة الراهنة بحداثتها ومنجزها الجديد. لذا كنا أمام جماعة رجعية تحكم أمة عريقة, ومتنوعة الجذور, في مفارقة بالغة الأسي والدلالة في آن. لقد كشفت مصر في ثورتها الباهرة عن جوهرها الثري, والمعبر عن تراكم حضاري قادر علي أن يمصر أي شيء بداخله, فإذا أبي فإنه يلفظ بسلاسة لا تدركها سوي الأمم المتجهة صوب المستقبل, وفي حال الأمة المصرية فإنها قد لفظت جماعات العنف والإرهاب المتمسحة في الدين, والغارقة حتي النخاع في صفقات انتهازية لا يعرفها سوي أنصاف التجار, لفظت مصر وباختصار كيانا رجعيا سعي إلي التقسيم الطائفي معتقدا أن وجوده سرمدي, واستمراره فريضة, وحينما تكتب الثورة المصرية المجيدة النهاية العادلة والمنطقية للصراع بين مفاهيم الوطن والجماعة, بين الدولة والولاية, بين مصر والكيانات المتطرفة, يكشف التيار المتأسلم عن وجهه الحقيقي فيستدعي ميراث الإرهاب الذي تربي في أحضانه, فيشن التكفيريون ومن والاهم حربهم القذرة مزعومة القداسة علي الأمة المصرية, مستخدمين سيناريو الإرهاب التسعيني الأسود, ولكن بآليات جديدة تليق بجماعة مغلقة تستدعي التدخل الأجنبي في عمالة علنية, لا لبس فيها, لا يقوم بها سوي فاقدي الانتماء للمعني العميق للوطن. ويستمر سيناريو الإرهاب تحت مظلة دينية لقادة الجماعة التابعة للأوامر الأمريكية, وللحي مهترئة خارج اللحظة والتاريخ, ومدعومة في الآن نفسه من أبواق وصنائع الاستعمار في الداخل, ولذا لم يكن مدهشا أن تصبح أصوات عدد من المحللين السياسيين المصابين بعمي التبعية الذهنية, وعماء الدولار في آن, ممثلة لخطاب مائع مثلها يتعاطي مع الثورة الشعبية بوصفها انقلابا, في تدليس مفضوح, وكذب فج, يليق بترخصهم وانتهازيتهم, ويستمر التدليس من تلك النخب الزائفة حين تمارس تبريرا للإرهاب, وغطاء فكريا للتطرف, وتبذل جهودها البحثية الركيكة مثلها في محاولة تبرئة ساحة القتلة والإرهابيين مما يدور في مصرنا من حوادث, إن هذا الصنف من المثقفين الانتهازيين الذين يؤجرون أدمغتهم لمن يدفع أكثر, يمارسون خيانة لناسهم وجماهيرهم, ويلعبون أدوارا بالغة الوضاعة في التكريس للرجعية, وكأن المتطرفين ومن في خندقهم من أطياف التخلف والعتامة, تعنيهم أصلا فكرة الوطن ومقدراته. ولذا فعلي الدولة المصرية بعد ثورة الثلاثين من يونيو ألا تعيد إنتاج الماضي بسياساته وشخوصه, بل عليها أن تسعي إلي التأسيس لوعي معرفي مغاير, يؤمن بالهوية الوطنية المصرية الجامعة, وبتجلياتها المختلفة, فتنتصر لكل ما هو إنساني, وتقدمي, وحر, ونبيل, وهذا مرهون بأمرين: إرادة سياسية حقيقية ترغب في إحداث قطيعة مع الماضيين المباركي, والإخواني البليد, وثانيهما نخب طليعية آتية من رحم الثورة ومعبرة عنها, وبما أن الثورة لحظات مستمرة من الفرز, فالمعيار الرئيسي هو القدرة علي تخليق أفكار وطنية تقدمية, تؤمن بالخيال الجديد, والتنوع الخلاق, وتدرك مسئوليتها تجاه ناسها وأمتها المصرية والعربية. لقد سعت الموجة الثانية من الثورة المصرية علي أن تنهي حالة الزيف الاجتماعي الفادحة التي صنعها كل من يمتطي الدين كوسيلة لتحقيق مآربه السياسية, وأصبحنا أمام لحظة من المكاشفة, وهذا يستوجب فعلا ثقافيا كبيرا يسعي إلي تخليص الأمة المصرية من آثار العتامة التي لحقت بها عبر العدوان السافر للتيار المتأسلم علي الهوية المصرية, كما أن علي النخب الطليعية ذاتها أن تستعيد الدور التاريخي للمثقف بوصفه تعبيرا عن الوجدان الجمعي للجماهير في سعيها نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, لنصبح أمام نخب جديدة قادرة علي بلورة أحلام البسطاء والمهمشين في عالم أكثر عدلا وإنسانية, فتؤدي دورها التنويري الحقيقي لا المزعوم تجاه ناسها وجماهير شعبها, لمواجهة القوي الرجعية المتحالفة مع الفساد, دفاعا عن قيم الدولة المدنية الحديثة بنت التنوع الخلاق, والصيغة الوطنية للدولة المصرية بنت التراكم الحضاري, لتظل ومن ثم- معركة النخب الطليعية هي كشف وتعرية العصابات الرجعية, والفاسدة, التي تريد أن تغتال أنبل ما في هذا الوطن, تغتال ثقافته الوطنية, ومبدعيه, وكفاءاته. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله