استوقفني كما استوقف كثيرين غيري ما قاله الرئيس السيسي خلال لقائه بالأدباء والمثقفين ردًا علي سؤال حول رؤيته فأجاب بسرعة وحسم بأنها تتخلص في الحفاظ علي الدولة ومؤسساتها مضيفًا إن تلك هي الأمانة التي وضعها الشعب في عنقه يوم اختاره رئيسًا للبلاد ولهذا فهي أولوية قصوي عنده !! الحفاظ علي الدولة قوية ناهضة تضطلع بدورها إزاء مواطنيها والمنطقة والعالم . تمارس دورها الذي حملها القدر تبعاته حين حباها الله بهذا الموقع وذاك الموضع وهي مهمة لو تعلمون عظيمة فهي امتداد لحلم محمد علي باشا الذي أسس مصر الحديثة الإمبراطورية البازغة في الشرق التي وصلت حدودها لأقصي الجنوب وأقصي الشمال بالعلم والجهد والعرق والرؤية السديدة والتضحيات وهي أيضًا استلهام لحلم عبد الناصر في الوحدة العربية والإلهام الثوري في الفكر والمفاهيم وعودة مصر العملاقة التي تقزم دورها في عقود مضت نتيجة اغفال أهم مقومات الأمن القومي بتحصين الامتداد الإفريقي والانتماء العربي والإسلامي والدور الدولي وتلك هي ضمانة الحفاظ علي الدولة التي أحسب أن الرئيس السيسي قصدها. ويتطلع إليها !! وإذا عدنا لاستخلاص دروس وعبر التاريخ وتحديدًا سنواته الأربع الماضية العجاف بعد ثورة يناير لأدركنا أن الحفاظ علي الدولة ومؤسساتها فريضة لا غني عنها لأي استقرار وتقدم فما عاناه المصريون من عنف واستقطاب ديني بدأت ملامحه الفجة بالدعوة والحشد لاستفتاء 19 مارس علي أساس ديني لإنفاذ تعديلات دستورية مشوهة كانت هي الأساس المتهرئ الذي تراكمت فوقه الأخطاء السياسة تباعًا ثم آل بنيانها إلي زوال وانهيار كان حتميًا فالبدايات الخاطئة ليس لها إلا نهاية واحدة وهي الزوال والعدم فالدول تبني وفق عقد اجتماعي يجري التوافق عليه شعبيًا بدستور وتشريعات مكتوبة .وهو ما قفز عليه الإخوان وأشياعهم من الرافعين شعارات دينية لا علاقة لها بالدين ولا بالدولة ولا بالفكر السديد فكانت النهاية المتوقعة سقوط ذلك البنيان الهش الذي ارتفع بسرعة صاروخية بلا أعمدة ولا جذور ولا رؤية سليمة بل ظل معادياً للدولة ومؤسساتها غافلاً أنها ضاربة الجذور في التاريخ فدولة عمرها يتجاوز السبعة آلاف عام من الصعب علي أي كيانات أو تنظيمات ابتلاعها. علينا اليوم ونحن نستقبل الذكري الرابعة لثورة يناير أن نقف لنرصد كيف كانت مصر والأم صارت.. ماذا كان يراد بها وكيف أصبحت .. لماذا انحرفت المسارات .. وكيف جري السطو علي ثورة يناير وتفريغها من حراكها الشعبي لصالح تيار الإسلام السياسي المدعوم أمريكيًا وقطريًا وتركيًا.. من يتحمل أوزار الاستنزاف الاقتصادي والتدهور والعنف والتردي والانقسام والاحتقان الذي تجرع الشعب ولا يزال مرارته وتبعاته.. من الذي هوّل من حجم الإخوان وأشياعهم في الشارع واستسلم لهذا الهاجس حتي تسلموا البلاد واحتكروا المناصب والدولة لفئة قليلة انكشفت حين خرج الشعب غاضبًا عليها في 30 يونيو.. كيف تخلت النخبة عن دورها في التوعية والصمود إلا ما رحم ربي.. لماذا زادت الاحتقانات الطائفية غداة تسلم المجلس العسكري إدارة البلاد.. ولماذا زاد السعار الطائفي ووقعت الحادثة تلو الأخري حتي انحرف هذا الصدام فأصبح بين مؤسسات الدولة وطائفة من أبنائها كما جري في ماسبيرو بفعل فاعل .. من دفع الأمور لحافة الاحتقان والغضب علي الدولة.. من سعي لتفريغ مؤسسات الدولة وهدمها تمهيداً لإحلال تنظيماته وميليشياته محل تلك المؤسسات.. كيف جري الصدام مع القضاء والتشكيك فيه ومحاولة إخضاعه وتركيعه.. لماذا انخدع البعض بممارسات التهويل الإعلامي بحجم الإخوان في الشارع..ومن الذي صك شعار "يسقط حكم العسكر" تمهيداً لهدم المؤسسة العسكرية وتغيير عقيدتها وتوجهاتها.. إذا توصلنا لإجابات لهذه الأسئلة لأدركنا لماذا يأتي الحفاظ علي الدولة في أعلي اهتمامات الرئيس السيسي!! ثمة من حاول الإيهام بأن الثورة حالة غضب وهدم دائمة لا غاية لها إلا السخط والرفض والإقصاء وثمة من صك مصطلح ¢ الفلول ¢ عامدًا ليرمي به برءاء اضطرتهم ظروفهم للتعامل مع النظام القديم ومن منا لم يتعامل مع ذلك النظام الذي قال عنه مرشد الإخوان يوماً "مبارك الأب الروحي لنا جميعاً وان من حق ابنه جمال الترشيح للرئاسة شأنه ِشأن أي مواطن مصري" فهل نسي الإخوان وأنصارهم ذلك .. أم أنها ¢ التقية ¢التي تبيح الكذب والموالاة حتي تحين لحظة التمكين والغلبة؟! لقد اهتز المجتمع المصري هزات عنيفة بعد ثورة يناير .. هزات زلزالية أخرجت أسوأ ما فيه كما قدمت في بدايات الثورة أجمل ما عنده .. هزات زلزلت منظومة القيم والأخلاق التي يصر الرئيس السيسي علي عودتها إلي المجتمع فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإنه همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.. لقد علت لغة السباب في الشارع والإعلام وجري الافتئات والتطاول علي كل شيء وأي شيء بدعوي التغيير والثورة علي الفساد .. تغيرت مفاهيم وتهاوت قيم اجتماعية تحت سنابك الثورة وتعرض المجتمع لخطر حقيقي بدأ بالنيل من رموزه ومحاولات هدم الدولة واختراع معارك الهوية التي برزت فجأة علي السطح وكأن مصر كانت بلا هوية منذ آلاف السنين!! بدا من الوهلة الأولي أن الهدف هو هدم مؤسسات الدولة ونقض أركانها من جيش وشرطة وقضاء وإعلام لإحلال نظام جديد أشبه بالنموذج الإيراني ونظام الملالي والحرس الثوري الذي كان هو الأقرب في أذهان من صنعوا الفوضي .ودفعوا البلاد إليها في غير رحمة ولا إحساس بالذنب تجاه الوطن فالوطن عندهم ليس حدودا جغرافية بل تنظيمًا ممتداً بلا هوية. الحفاظ علي الدولة والإصلاح التدريجي حتي لا تنهار مقوماتها هو ما يراه الرئيس السيسي أفضل وأصلح في تلك المرحلة »نظراً للظروف الإقليمية المحيطة .قياسًا بما عانته ولا تزال دول الجوار أو دول ما يسمي بالربيع العربي وهو نهج يقابل دعوات البعض بضرورة نسف الحمام القديم وتفكيك مؤسسات الدولة وإعادة بنائها .. وهو نهج يستمد وجاهته من دروس التاريخ القريب في دول مجاورة »فالعراق مثلاً سُرح جيشها إبان الغزو الأمريكي 2003 والأمر نفسه في ليبيا بعد سقوط القذافي فهل عادت الدولة فيهما أم أن هذا التفكيك كان مقصوداً به إشاعة الفوضي الخلاقة التي بشرتنا بها كوندليزا رايس يوماً في سياق حديثها عن "الشرق الأوسط الجديد". الرئيس السيسي يعول كثيراً علي دور الإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية والتعليمية والمفكرين والعلماء في تغيير المفاهيم المغلوطة والتصدي لأفكار التطرف والعنف والإرهاب ومن ثم فلا يترك الرجل مناسبة دون التركيز علي هذه الرسائل والدفع إليها .. لكن هل قامت مؤسسات الدولة المنوط بها خوض معركة الإرهاب بدورها .. وهل هي مؤهلة بتكوينها الحالي لممارسة هذا الدور؟! ان قوة مصر الناعمة تراجعت في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة وهو ما تجلي بعد ثورة يناير حين تسابقت النخبة لنفاق الثوار الذين كثرت انشطاراتهم وائتلافاتهم وزادت سقوف طموحاتهم دون أن يكون لديهم رؤية واضحة للبناء بعد أن انخراط الجميع في الهدم بلا هوادة .. جرت المطالبة بسقوط النظام فسقط .. لكن لم تكن هناك إجابة عن السؤال الأهم .. وماذا بعد سقوط النظام .. هل يملك أحد رؤية كاملة لكيفية إعادة البناء والإجابة معروفة بما جري من كوارث في جنبات المشهد العام طيلة السنوات الأربع الماضية. ولو كان المتاجرون بأحلام الناس وأشواقهم للتغيير يملكون إجابة تعبر بصدق عن آلام المواطن وتطلعاته لما دخلت البلاد في أتون الصراع والعنف والانقسام وهو ما أسقط ورقة التوت الأخيرة عن نخبة منعزلة عن واقعها واكتف بشعارات باطنها الكذب والفساد وظاهرها الإصلاح. وأظهرت الأحداث المتوالية عجزاً وشللاً واضحاً لدي النخبة وسبقت الجماهير بوعيها الفطري تلك النخبة ولم تستطع الأحزاب قديمها وحديثها أن تتبني مشروعًا مجتمعياً يعيدها للشارع .ولا أن تطور منطقة عشوائية واحدة كتلك التي أنجزها الفنان القدير محمد صبحي ولا تزال تلك الأحزاب حتي هذه اللحظة تحارب معركة غير التي خلقت لأجلها ولو أنفقت وقتها ومالها في الاحتكاك بالشارع وقضاياه لكان أفضل ألف مرة من التربيطات والتحالفات التي تلهث وراءها الآن استعداداً لمعركة مجلس النواب المقبل لكن يبدو أنها لم تستوعب درس الإخوان الذين تركوا القوي الثورية في ميادين الاحتجاج والرفض ونزلوا إلي القواعد الشعبية حتي استولوا علي البرلمان بأغلبية ليست كبيرة. * أما حكومات ما بعد الثورة فقد تراخت في تطبيق القانون علي الخارجين عليه وتبأطات في الاستجابة لمطالب مستحقة للمواطنين أو التعامل معها بما يليق حتي صار الاحتجاج لغة ووسيلة للي ذراع الدولة والحصول علي المستحق وغير المستحق وتضاعفت الفجوة بين الشعب وحكومته وأحزابه ونخبته وازداد الانقسام والاحتقان والاستقطاب ورغم تعامل الحكومة مع الاحتجاجات بصدر واسع لكن تفاقمها قدم دليلاً أكبر علي تراجع دور الحكومة والمجتمع المدني في حلها . ودل أيضاً بوضوح علي غياب دور فاعل للأحزاب وعدم واقعية كثير من النخبة التي رفعت شعارات لفظياً للتغيير دون أن تقدم هي الأخري دليلاً واحداً عملياً علي قدرتها علي قيادة الجماهير نحو حلول عملية تمتص عضبهم وتعيدهم إلي مستقبلهم ورغم أن المشهد العام بدا في جانب منه حراكاً سياسياً واجتماعياً فإنه لفرط عشوائيته أحياناً ووقوعه في غواية المال السياسي وأجندات الخارج أحياناً أخري تحول لفوضي هدامة تناقض أهداف الثورات وغاياتها بل تجافي روح الشرائع والأديان ودعواتها والسؤال هل تغير شيء في الأحزاب أو المجتمع المدني أو القوي السياسية وهل انخرطت في أولويات هذا الوطن .. أروني دليلاً واحدا علي ذلك؟!