منذ اندلاع ثورات الربيع العربى تشكك البعض في نجاحها وتحقيق أهدافها وطرح الثمرات المرجوة منها, فما زالت تتعثر فى بعض البلاد وظلت بلاد أخرى تعج فى الفوضى, وفى مصر ليس الحال بأفضل حال, فكثير من الباحثين والنشطاء السياسيين يرون أن الثورة المصرية ما زال أما مها فصول أخرى إن لم تقطعها بالإصلاح فستصل إليها بانفجار جديد, وفي حواره ل «الوفد» تحدث د. عمار على حسن الباحث فى علم الاجتماع السياسى حول رأيه فى الثورات العربية ووضع ثورة مصر ضمن هذه الثورات, وهل الثورة المصرية تتقدم بالفعل وهل اقتربت من تحقيق أهدافها؟ خا?ة بعد أن شارفت الدولة على الانتهاء من الاستحقاق الثانى - وهو الانتخابات الرئاسية التى يشتد أوار حملاتها الانتخابية هذه الأيام - فى خارطة الطريق التى دعمتها القوات المسلحة والقوى الوطنية والسياسية منذ قامت ثورة 30 يونيه والتى أطاحت بجماعات الإسلام السياسى وعلى رأسها الإخوان المسلمين التى ترنح قادتها فى الحكم وفى مقدمتهم الرئيس المعزول محمد مرسى ولم يحققوا طموحات الشعب المصرى وآماله الذى طالما حلم بتحقيق طفرة فى أحواله الاجتماعية ونقله من حالة الفقر والبؤس إلى مستوى يرقى بآدمية أفراده, فما قامت الثورات إلا ل?حقيق أهداف نادت بها جموع الشعب وهى: «عيش, عدالة, حرية» لكن تلك المعادلة لم يستطع قيادات الإخوان تحقيق ولو جزءاً بسيطاً منها حتى يشعر المواطنون بتحسن أحوالهم, ونكبوا فقط على السلطة لتستتب لهم مقاليد الحكم, إضافة إلى اتخاذهم «الدين» مطية لتحقيق أهدافهم السياسية فى الاستحواذ على كل أركان ومفاصل الدولة, لكن لم تشأ إرادة الله إلا أن تقوم ثورة 30 يونيه, ولو لم تقم الثورة لظل الإخوان يتمددون فى صمت ومكر حتى يمسكوا بمزيد من ركائز القوة المادية والبشرية, حتى إذا حازوا السلطة بقوة بعدها يكون من الصعب, إن لم يكن من ا?مستحيل إزاحتهم عنها سنين طويلة, كما يقول د. «عمار» الذي يكشف أيضاً عما خسرته مصر وما ربحته بعد قيام ثورتين كبريين وكيف سيسطر التاريخ فترة حكم الإخوان فى حياة مصر, فإلى نص الحوار: مر أكثر من ثلاث سنوات على ثورات الربيع العربى.. فما تحليلك لها وأين تضع ثورة مصر فى سياق الثورات العربية؟ وإلى أى حال سيتوقف قطار الربيع العربى؟ - هي لا تزال ثورات ناقصة، بعضها قد يتقدم ببطء وينجح في نهاية المطاف، وبعضها قد يترنح وينكسر أمام قوى الثورة المضادة، وبعضها قد يقف في مكانه، وثوار قد يقولون في نهاية المطاف «رضينا من الغنيمة بالإياب»، وما لم تقدم إحدى هذه الثورات نموذجا يحتذى فقد لا يمتد هذا الربيع إلى بلدان أخرى، لكن في كل الأحوال فهذه الهزة العنيفة كانت شروطها الموضوعية متوافرة، ولو لم تكن المجتمعات العربية مهيأة لها ما وقعت، كما أن عناد السلطات العربية في البلدان التي شهدت ثورات وعدم اهتمامها بقضية الإصلاح جعل تفادي ما جرى مستحيلا. والث?رة المصرية لا يزال أمامها فصول أخرى، إن لم تقطعها بالإصلاح ستصل إليها بانفجار جديد. أمر مؤقت ما أكثر ما خسرته مصر بعد ثورتين، خاصة أن المواطن البسيط يشعر بسخط شديد؟ - قد تكون مصر قد خسرت اقتصاديا، لكن هذا أمر مؤقت وليس من الصعب تعويضه، كما أن الطريق الذي كان يسير فيه الاقتصاد المصري لم يكن بوسعه أن يحقق التنمية التي يحلم بها الشعب. والمصريون ربحوا من هذه الثورة عدة أشياء جوهرية يمكن ذكرها على النحو التالي: انكشاف الإخوان، فهم استعملوا الثورة وسيلة لاقتناص السلطة، ليصعدوا إلى خشبة المسرح فيرى الناس عوراتهم، بعد أن كانوا يتعاطفون معهم أيام مبارك، بدعوى أنهم ضحايا أو مناضلون أو شهداء أو أصحاب حلم ووعد وأمل ويمتلكون حلا للمشكلات التي يعاني منها الشعب. ولو لم تقم الثورة لظل الإخوان يتمددون في صمت ومكر حتى يمسكوا بمزيد من ركائز القوة المادية والبشرية، وحين يحوزون السلطة بعدها يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إزاحتهم عنها سنين طويلة، سواء بصندوق الانتخابات، الذي كانوا سيزورونه بعد أن تعلموا كل دروس الحزب الو?ني الفاسد في هذا وزادوا عليها الكثير، أو من خلال احتجاج، كان أنصارهم الكثر وقتها سيتصدون له بقسوة. تهافت المسار السلفي: فقبل الثورة كان بعض الشيوخ المحسوبين على هذا المسار لهم في نفوس الناس هيبة ومكانة، فكلامهم مصدق، ووعظهم مستساغ، وطلبهم مستجاب، وكان هؤلاء يقومون حثيثا بتغيير طبيعة التدين المصري الوسطي، ويغتالون في بطء المؤسسات الدينية التي بناها المصريون في قرون طويلة، وعلى رأسها الأزهر، ويغيرون وعي الناس حيال الكثير من أمور الحياة، ولو لم تقم الثورة لظل هؤلاء يتمددون بلا توقف، حتى يصبح أتباعهم بعشرات الملايين، ووقتها سيصلون إلى السلطة، بتحالف مع الإخوان أو من دونهم، ولن يستطيع أحد إزاحتهم للأسباب ا?سابقة ذاتها. وحتى لو لم يطلبوا الحكم أو يسعوا إليه فإنهم سيحرثون الأرض أمام إخواني أو متطرف ليقتنص العرش، وإن لم يفعلوا ذلك، فعلى الأقل سيغيرون الكثير من قيم المصريين واتجاهاتهم ومعارفهم، وهذا يشكل خطرا داهما على المجتمع، وعلى طبقاته الحضارية والثقافية التي تراكمت عبر آلاف السنين. ويضيف «عمار»: حققت الثورة ما نسميه «الاقتدار السياسي» الذي يعني ثقة الناس في أنفسهم، وهو شرط أساسي لأي حكم رشيد أو ديمقراطي، فالمصريون كسروا حاجز الخوف وأسقطوا الصمت، وصارت لهم هيبة في نفوس أهل الحكم، ولم يعد بوسع من يجلس على الكرسي الكبير أن يسخر منهم أو يستهتر بهم، ما يشكل ضغطا متواصلا عليه كي يعدل أو يستجيب لما يريده الناس. وإن لم يفعل كان بوسعهم أن يخرجوا ويسقطوه مثلما جرى في ثورة يونيو العظيمة. وقد غيرت الثورة حتى بعض من كانوا ينتمون إلى الحزب الحاكم قبلها، ممن تعلموا الدرس، بعد أن كانوا يعتقدون أن سب?ل التغيير الوحيد هو الانخراط في صفوف السلطة، أو نفاقها، ليتقدموا خطوات نحو المواقع السياسية أو المنافع المالية، وكانوا يتصورون أن الشعب عاجز عن الفعل، وأن الرافضين للحكم مجموعة من المجانين الذين يطلبون المستحيل. كما غيرت من نفوس الملايين الذين كانوا مستسلمين لكل ما يجري، المعروفون إعلامياً ب«حزب الكنبة» والذين رأيناهم في الشوارع بعشرات الملايين يسحبون الإخوان من على العرش. تعززت المشاركة السياسية بعد الثورة، حيث كان الإحجام عنها آفة مصرية، ومرضا عضالا، مما مكن السلطات المتعاقبة من تزوير إرادة الناس، والانفراد بالقرار، وتوظيف إمكانيات الدولة الرمزية والمادية ضد مصالحهم. فبعد الثورة بدأنا نعرف ظاهرة طوابير الانتخابات الطويلة، وبات المواطن مدركا أن صوته يمكن أن يغير التاريخ، أما قبل الثورة فكان الشعار السائد: «ستفعل الحكومة ما تريد رضينا أم أبينا». وقبل الثورة كان أقصى أماني المعارضة أن تتم تنقية الجداول الانتخابية، أو يسمح بالتصويت بالرقم القومي، وهو ما تم بعد الثورة، علاوة عل? ضمانات عديدة للنزاهة، عبر إشراف القضاء، ووجود لجنة عليا مستقلة لإدارة الانتخابات، ونقل عملية التصويت على الهواء مباشرة في وسائل إعلامية عديدة. ومن ثمار الثورة انها عدلت الكثير من الأطر السياسية والقانونية الحاكمة، بعد تهذيب صلاحيات الرئيس، وإقرار توازن بين السلطات في الدستور، وتحديد قواعد للتعددية السياسية وتداول السلطة. وفي هذا خير كبير، إذ إن أغلب الآفات التي أصابت مصر قبل الثورة جاءت من باب تأبيد الحاكم في موقعه، لا يبدله سوى القبر، فتكونت حوله شلة من المنتفعين الفاسدين، واستمرأ تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، وتوحش الجهاز الأمني، وانحرف عن مهمته، وكبر أصحاب الاحتكارات واتسعت الهوة بين الطبقات. - فضحت الثورة كثيرا من المنافقين والمرجفين، فمع تقلب الأوضاع السياسية تعرى اللاعبون على الحبال، ومن يفضلون مصالحهم على مصالح الوطن، والساعين بقوة إلى حماية ما حازوه من مناصب أو ثروات بغير حق. خارطة الطريق كيف ترى مصر بعد تنفيذ بنود خارطة الطريق؟ - حالها أفضل كثيرا مما كانت عليه أيام حكم الإخوان، رغم التعثر والهواجس التي تنتاب قطاعاً من الناس حيال المستقبل، فعلى الأقل الآن لدينا دولة يجب أن نفكر في تغيير ظروفها أما قبل ثورة 30 يونيو كانت الدولة نفسها أمام تحدي الانهيار أو التغييب التام. مصر تحت حكم الإخوان.. كيف سيكتب التاريخ أسطر هذه الفترة؟ - واحدة من السنوات العجاف التي عاشتها مصر طيلة تاريخها المديد، تضاف إلى أيام المحن الكبرى. هل ترى أن الإسلام السياسى يعرقل المشاريع التنويرية فى مصر؟ - هذا النمط من التفكير والممارسة السياسية أعاق تقدم الديمقراطية في بلادنا، فكلما كانت مصر تقبل على تغيير حقيقي كان هذا التيار يشدها إلى الوراء، من خلال الصفقات المتوالية التي يبرمها مع الحكومات أو السلطات أو الأفكار الرجعية التي يرسخها في أذهان الناس، أو تقويض مسألة الوطنية، أو محاولة بناء أشكال اجتماعية بديلة للدولة أو متحدية للتحديث والعصرنة. هل تتوقع أن يحتل السلفيون صدارة المشهد السياسى فى الفترة المقبلة خاصة فى الاستحقاق الثالث من خارطة الطريق وهو الانتخابات البرلمانية؟ - أعتقد أنهم خسروا كثيرا برحيل الإخوان، فالمواطن البسيط لا يفرق بين الفصيلين، ولذا لا أتوقع أن يحصد السلفيون من المكانة السياسية ما ظفروا به عقب ثورة يناير، سواء على مستوى البرلمان أو الصيت الاجتماعي أو القدرة على فرض إرادتهم على صانع القرار ومتخذه. ماذا عن أخطاء الإسلاميين التى عجلت بسقوطهم الحكم؟ - الخطأ الأكبر أنهم توهموا أن المصريين صوتوا في انتخابات البرلمان والرئاسة على مشروعهم الفكري والسياسي، وأن لحظة تمكينهم قد حانت، وأن بوسعهم أن يخدعوا الجميع على التوالي أو التوازي. هل ترى أن المشروع الإسلامى سقط بفشل جماعة الإخوان المسلمين ؟ - سقط بفعل مقولاته وأطروحاته على أنه يمتلك الحل، ويمثل الوعد والأمل، وإن لم يصلح أفكاره ويحدثها فلن يعود إلى المشهد. هل ترى أن الأصولية الدينية خطر على المجتمعات العربية ؟ - ما لم نواجهها فكريا، ونصلح الخطاب الديني، ونعلي من قيم العلم، وندخل بقوة في الزمن الحديث، فهذه الأصولية لن تضمر، وستظل تعيقنا على الدوام. ما رؤيتك لتعامل قطر مع ملف ثورة 30 يونيه ولماذا تصر على مساندة جماعة الإخوان المسلمين حتى الآن بالرغم من أن الموقف العربى منها صار متأزما؟ - قطر مجرد وكيل سياسات لأمريكا وإسرائيل، وهي تتصرف وفق الخطة المرسومة لها من قبل واشنطن وتل أبيب، ولن تغير سياستها إلا إذا طلب منها هذا. قرار المحكمة الجنائية الدولية بحفظ الدعوى المقدمة من الإخوان ضد مصر كيف تنظر إليه؟ - هذه دعوى فارغة من الأساس، فمصر لم توقع على اتفاقية المحكمة، وما جرى بعد 30 يونيو لا يدخل في اختصاص المحكمة، الذي تنظر في جرائم منظمة من قبيل التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وهذا لم يجر. ما رؤيتك للتفجيرات التى تحدث من حين لآخر وهل ستشهد تصعيدا خلال الفترة القادمة؟ - نحن نعيش الموجة الخامسة من الإرهاب، ولن تنكسر في يوم وليلة، وستستغرق وقتاً، لكنها تتراجع وتتراخي من حيث القدرة على التدمير أو الفترة الزمنية بين كل عملية إرهابية وأختها. وعموما لا توجد دولة في العالم استهدفها الإرهاب ونجت منه مائة في المائة. هل تؤيد كلام المرشح الرئاسى المشير السيسى بأنه لن يوجد إخوان فى مصر أو بالأحرى انتهاؤهم فى فترة رئاسته؟ - هذا قرار المجتمع المصري، حتى الآن، ولن يستطيع أي حاكم أن يتجاهله، فالإخوان هذه المرة لا يصطدمون بسلطة، مثلما كان يحدث في الماضي، إنما بالمصريين، ولذا فإن محنتهم أشد وأنكى. كيف تقيم الثقافة المصرية الآن؟ - علينا ابتداء أن نعترف بأن الثقافة المصرية قد انحدرت إلى مستوى مخيف، رغم حديث رسمى مستفيض عن التحديث والتنوير والإصلاح، فالواقع العملى شهد بجلاء غياب مشروع ثقافى يليق بأعرق دولة فى تاريخ الإنسانية، وأكد بما لا يدع مجالا للشك فيه عدم وجود أى استراتيجية ثقافية تخرج مصر من ضيق الآنى والحالي إلى براح الآتى والتالي، وتعزز ثقافتها الوطنية لتصد وترد الثقافات الغازية الموزعة على تفلت ونزعة استهلاكية ظاهرة وتشدد فقهي مقيت. ومن أسف أن عددا كبيرا من المثقفين قد انسجموا أو تواطأوا مع هذا الوضع المزرى، ومضوا فى صمتهم ?لمريب وانتفاعهم المخزى، ورضوا بتراجع دورهم الطليعي، واكتفوا بالفتات المتاح الذي تهبه الفرصة وقبلها السلطان الجائر، وتماهوا بشكل مثير للاستغراب والاشمئزاز في آن مع تحول الثقافة، في الغالب الأعم، إلى عمل مظهرى يتقدم فيه الشكل على المضمون، والمهرجان على الأثر، والعابر على المقيم، والفرد على الجماعة، والتشتت على التوحد، والأثرة على الإيثار، والأمس على الغد، فى ظل غياب التفاعل الخلاق بين المؤسسات الثقافية الرسمية والواقع المعيش، ومع الاكتفاء برطانة زاعقة وبلاغة جوفاء، في ضجيج بلا طحن، على حساب عمل يتوخى العلم و?نهجه، وممارسة تنتصر للنهوض والتقدم والتحقق، وتصور ينحاز إلى أشواق المصريين جميعا إلى الحرية والعدالة والكفاية والكرامة والسمو الأخلاقي والامتلاء الروحي. وماذا عن جوائز الدولة؟ - إن دور وزارة الثقافة يجب ألا يُختزل فى نشر مشروط للكتب، ولا في التوزيع الموسمي للجوائز، ولا فى إنشاءات وترميمات ينهض بها المقاولون وتحسب فى سجل إنجازاتهم، وتتقدم بها المبانى على المعانى، ولا فى محاولات مستميتة لتدجين أرباب الفكر والفن، بغية توظيفهم فى تبرير السياسات الاعتيادية الارتجالية القائمة مهما كانت هابطة، واستعمالهم فى تجميل التصورات القبيحة التى تشد كل شىء فى حياتنا إلى الوراء، وضمان سكوتهم على أي قوانين وتشريعات تقيد حرية التفكير والتعبير والتدبير، ومحاصرتهم حتى يستسلموا للمحاولات الماكرة التى ت?يح الثقافة كى تصبح شيئا ثانويا فى حياة المصريين المعاصرين، وتسعى إلى تفريغ كل عمل ثقافى من مضمونه، وتحاول إبعاد الفن والفكر عن أداء دورهما فى الأخذ بيد الناس وتبصيرهم وتنويرهم والانتصار لجهدهم الدؤوب فى سبيل تحسين شروط العيش، أو على الأقل في سبيل توسيع الزنازين التي يحملونها فوق ظهورهم من فرط مآسي الحياة. ومن يمعن النظر فى حال مصر الثقافى طيلة العقود الفائتة سيصدمه على الفور تبخر الشعور بالانتماء من بين جوانح العديد من المثقفين، لفقدانهم الثقة فى قدرة المؤسسات الثقافية على تقديم شىء إيجابى، وسيكتشف هذا الفصام النكد بين قطاعات عريضة من منتجى الفنون والمعارف والحراك السياسى الذى كانت تموج به مصر بشكل لا يخفى على كل ذى عين بصيرة وعقل فهيم، وسيضنيه غياب مشروع ثقافى حقيقى لدى السلطة وفى برامج أحزاب المعارضة وممارساتها، وسيفجعه استشراء الروح الجامدة والمتزمتة على التفكير الدينى بما يضرب فى مقتل الثقافة المصرية ا?راسخة والأصيلة التى طالما انحازت إلى الوسطية والاعتدال، وحافظت على التسامح والتنوع الخلاق، وشجعت على الإنجاز، وستروعه كذلك حالة الاحتقان الطائفى والطبقي والجهوي التى راحت تتزايد يوما إثر يوم، وسيوجعه تخلى أغلب المثقفين عن الناس، مرة تحت وهم «موت الأفكار أو السرديات الكبرى»، ومرات تحت وطأة اللهاث وراء المجد الذاتي، وفق معادلة جهنمية تقول: «دعه يخطف دعه يمر»، أو تحت نير الحذر والخوف استجابة لهاتف الخائرين: «انحنوا للعاصفة». إن الوقت قد حان لانخراط المفكرين والمبدعين فى بناء تصور بديل، يعيد الثقافة إلى أصحابها، وينزعها من التجار الذين حولوها إلى سلعة رخيصة وتكسبوا بها دون أى وازع من دين أو وطنية أو أخلاق، وصمتت السلطة على هذا المسلك الوعر، لأنها لم تكن تروم نهضة ولا تقدما إنما كانت تستخدم الثقافة والمثقفين مجرد قلائد للزينة تضعها على جسدها المتحلل، لعل الناس لا يلتفتون إلى تداعيه وتعفنه، وينشغلون بهذه الزينة العابرة. وكانت تستخدم العلم مثل «الصلصة» التى توضع على السمك المشرف على التعفن لعلها تجعله مستساغا. لماذا يبدو دورها غالباً؟ - كان من الخطل والخطأ بل والخطيئة أن تتداعى وزارة الثقافة لتكون مجرد وزارة للمثقفين، بينما يتراجع نصيب الفرد المصري من ميزانية الوزارة ليقترب من العدم، ويتدهور نظام التعليم فيعتمد على الترديد لا التجديد، وينسى القائمون عليه ذلك المثل الصيني الرائع الذي يقول: «أخبرني سأنسي. أرني فقد أتذكر. أشركني سأعي وأفهم» وعلى التوازي اكتفى الباحثون بجمع المتفرق وترتيب المبعثر وتطويل المختصر واختصار المطول، وإن أحسنوا يقومون بإتمام الناقص وإجلاء الغامض، لكن أغلبهم لم ينتقل أبدا إلى نقد السائد وإبداع الجديد، فاتسعت الفجوة?بيننا وبين الأمم التي ضاعفت معارفها ومواردها وإنتاجها في العقود الثلاثة الماضية بأشكال وأحجام وأنواع مذهلة. ولا يسعنى في هذا المقام سوى تذكيركم بأيام توقيع صك على بياض لنظام مبارك في تسعينيات القرن المنصرم من أجل مواجهة الإرهاب، فانتهى الأمر إلى دولة باطشة قاهرة مستهينة بالعلوم والفنون، لا ترى مستقبلا لها إلا على أطراف هراوة شرطي متجهم. أيامها كان يمكن للمثقفين أن يفرضوا شروطهم، ويقولوا للسلطان بملء الأفواه: إننا لن ننتصر في المعركة ضد الإرهابيين إلا بالعلم والحرية والعدل الاجتماعي واستقلال القرار الوطني واحترام إرادة الشعب. وعلي المثقفين اليوم أن يعوا هذا الدرس جيدا وحتى لا يلدغوا من الجحر مرتين، لأن من يدفع ال?من هو مصر، ولن يغفر الشعب ولا التاريخ ولا التلاميذ لمن ينسى أو يهمل أو يقع في الفخ من جديد. لقد قامت الثورة السياسية، في يناير 2011 ويونيو 2013، فانخرط فيها بعض المثقفين والدهشة تعلو وجوههم من قدرة شعب كان من بينهم من كفر به، أو تصور غيابه الأبدي عن المشهد. ورأوا بعيونهم رئيسين وراء القضبان، وهتف أغلبهم من الأعماق «فعلها الشعب المعلم»، لكن هناك من عاد، أو يستعد للعودة إلى سابق عهده من الانكفاء والانزواء، وممارسة رذيلة «حضور الذات» أو تضخمها، أو تقديم الخاص على العام، وما للبيت على ما للوطن، من دون أن يدري أن الثقافة بوسعها أن تصلح ما أفسدته السياسة. وماذا بعد؟ - نحن نعيش صراعاً ضارياً فى معركة الهدم والبناء، وتنافساً شديداً متعجلا وانتهازيا بين التيارات السياسية على قطف الثمار أو الحفاظ على المكاسب والمنافع الزائلة، وإرباكاً أمنياً واقتصادياً كان متوقعاً، وطغيانا واضحا من بعض الماضي على الحاضر، من الضرورى أن يستعيد المثقفون دورهم الطليعي، ويؤمنوا بأن بلدنا فى حاجة ماسة إلى ثورة ثقافية، تشكل رافعة ضرورية وواجبة لاستكمال انتصار الثورة السياسية، وتخط معالم مشروع ثقافى، جامع مانع، يحفظ لمصرنا الغالية قيمتها، ويرفع قامتها بين الأمم، ويلبي رغبة متجددة للذين يعيشون عل? ضفاف النيل الخالد فى صنع المعجزات. ما الدور المأمول الذى يمكن أن يلعبه المثقفون أمثالك لمواجهة التطرف الدينى؟ - دورهم أساسي وأصيل، فالمعركة مع التطرف ليست معركة أمنية بحتة، إنما هي معركة فكرية بالأساس، وعلى المثقفين أن يعوا هذا جيدا، ويؤدوا ما عليهم من دور لإنقاذ بلدهم من التفكير المتخلف والمتطرف والمتعصب. هل ترى ثمة أملا فى التعايش بين التيارات الدينية و المدنية والعلمانية بهذا الخليط من الفكر والثقافة؟ - لابد من قواعد تقوم على مبادئ راسخة مثل الوطنية والمدنية والإيمان بالتعددية وتداول السلطة واحترام دولة القانون والمجتمع المدني واحترام مؤسسات الدولة والموروث الشعبي والجينات والطبقات الحضارية للمصريين. هل ترى أن العقلية الثقافية والسياسية فى مصر مستعدة لتقديم نهضة حقيقية للوطن بعد الثورة؟ - نحتاج في الحقيقة إلى ثورة ثقافية كاملة، وهذا يبدأ بالتعليم، الذي يجب أن يفارق محطة مخاطبة الذاكرة والاعتماد على الحفظ والترديد إلى محطة النقد والإبداع وتعلم التفكير العلمي بلا حدود ولا قيود. أخيرا .. ما جديدك فى عالم الأدب؟ - في الطريق هناك رواية ستطبع قريبا بعنوان «السلفي» وبعدها مجموعة ق