موجات من الارتزاق السياسى والثقافى تكشف عن تآكل حقيقى للنخبة، والمحصلة غياب دور المثقف أو على الأقل تراجعه، فالتناقضات الفادحة أصابت الكثيرين، فبدوا أشباه مناضلين فى جانب، ومرتزقة فى جانب آخر، فالنضال لم يكن حقيقيا، ولم تكن القيمة سوى قبض ربح لديهم. كيف يقبل مثقف أن يؤجر دماغه؟! سؤال يشغلنى منذ فترة لأنه يعرى انحطاطا قيميا يلوح أمامنا صباح مساء، مثقفون يقفون فى خندق اليمين الرجعي، وينافحون عنه بامتياز، ويلوكون الحجج والأجوبة الجاهزة، فيبررون خطاب المظلومية الإخوانى فاقد المصداقية والجدوى، ويمارسون دور محامى الشيطان ببراعة، فتتحد مواقفهم مع الإرهاب ذاته، عبر شعارات جوفاء، بنت حالة عصابية أكثر منها ابنة تصور نظرى عميق صوب حركة المجتمعات وتحولاتها، حالة مستمرة من الكذب والرطان معا، تجد تحققها فى تنطع عقيم، وحوارات عبثية، وادعاء بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، هؤلاء ينطلقون من ذهنية منغلقة على ذاتها، فيتلاقون مع الإخوان والتيارات الرجعية فى كونهم جميعا أبناء لفكرة «الجيتو» وللعوالم سابقة التجهيز، والتصورات محدودة الأفق، أما الأدهى فيتمثل لديهم فى الاعتقاد المطلق باحتكار الثورة والنضال، وكأن الثورة ربطت بأقدامهم، ودارت معهم حيثما يدورون!!، وهذا الوعى القشرى يخلق أشخاصا مرضى بذواتهم وأفكارهم معا. لم يكن ثمة شيء أقسى على قلوب المصريين من أكاذيب انطلقت لتخالف الحقيقة، وتزيف الوعى المصري، وتدعى بهتانا وزورا بأن شهداءنا من الجنود البواسل الذين راحوا ضحية الإرهاب الغادر فى كرم القواديس بسيناء، قد ماتوا فى ليبيا، وتم نقلهم لسيناء!، هذا الكذب الصراح الذى امتلأت به المواقع الإخوانية، والأخرى الموالية لها، من صحف مملوكة لرأس المال الانتهازى المتحالف مع الرجعية، وصفحات لمرتزقة ومأجورين ولجان إلكترونية تقف فى خندق التطرف والإرهاب والجريمة، ثم سرعان ما تداوله بعض الناشطين الوهميين، والمتثاقفين ممن يؤجرون أدمغتهم لمن يدفع أكثر، فتراهم يتقلبون فى كل اتجاه، وحينما تصبح الحقيقة ساطعة ولا يصبح ثمة مجال للجدل العقيم، يعاودون الكرة فى سياقات جديدة، وأحداث أخرى، وتصبح بغيتهم الوحيدة مزيدا من إثارة الفوضى والبلبلة لصالح الممول الإخوانى بريالاته ودولاراته التى لا تنقطع عن أوغاد يرتدون ببراعة مسوح القديسين، فيرفعون رايات الثورة بيد، بينما يغتالونها باليد الأخرى، مثلما قتلوها من قبل حين دعموا الإخوان ومرسيهم لكرسى الحكم بعد سنة ونصف السنة من المزايدات والادعاءات وبيع الوهم للجماهير التى أحسنت الظن فى نخبتها الجديدة، والتى لم تكن فى معظمها سوى جملة من المحافظين والأدعياء، من أبناء اليمين الرجعى بصيغته الاستهلاكية التابعة فى الاقتصاد، وتصوره المتخلف فى الفكر والثقافة، وهؤلاء جميعم يريدون أن نظل فى نفس الحلقة المفرغة، وأن تستجيب الجموع الهادرة لانحيازاتهم الفوضوية، وخياراتهم المشئومة على البلاد والعباد، مستغلين فراغا عجزت كثير من النخب الرسمية المتكلسة عن أن تملأه، بضعفها، وجهلها، وفسادها، بل تحالف بعضها مع قوى اليمين الديني، وانتصارها له فى أكثر من موقف، وأكثر من سياق. ويزداد الأمر وضوحا فى صحف مملوكة للمال السياسي/ الإخواني، تجعل من نفسها مظلة تبريرية للإرهاب الإخواني، مدعومة بكتائب من مثقفين ومرتزقة لا هم لهم سوى ما سيقبضونه من أثمان، ولتذهب الناس والمقولات الكبرى والقيم النبيلة إلى الجحيم، لنصبح أمام أدمغة للإيجار، ترهن نفسها لمن يمنحها ذهب المعز، دون وازع من ضمير أو وطن أو قيمة، والأمثلة كثيرة لحالات مخزية من كتاب باعوا أنفسهم بثمن بخس، هؤلاء يصنعون معارك هلامية فى كثير من الأحيان انتصارا لسيدهم المرشد، التابع بدروه للسيد الأمريكى الذى لطالما تغنوا برفضهم له، وقدموا رطانا لم يتعد حلوقهم عن رفضهم ثقافته الإمبريالية، وهؤلاء ستجدهم فيما بعد لا يتورعون عن التكريس للعولمة الأمريكية ذاتها، فقد صاروا أذنابا لها، وارتضوا بدور «الزمار» الذى يعرف الكل من يدفع له. لقد تشكل لدينا إذن نموذجان متصلان ببعضهما، أحدهما مثقفو اليمين الديني، والآخر مثقفو العولمة الأمريكية، وهما يرتبطان معا ويتشاركان فى خدمة التحالف المشبوه بين الرجعية والاستعمار، ومعهما مجموعات من القوى الفوضوية، ترفض فكرة الدولة بالأساس، ويحيا هؤلاء الفوضويون من دعاة هدم الدولة وفق أوهام تخصهم وحدهم، وتخص منظريهم الأشاوس، والذين عمل بعضهم فى الحملات الرئاسية لمرشحى التيار الإسلامى فى الانتخابات الرئاسية التى أعقبت ثورتنا المجيدة فى الخامس والعشرين من يناير. وفى وجه مماثل لهؤلاء، تجد متبرعين كثيرين للدفاع عن خطايا ترتكبها الأنظمة الاستبدادية، فيصبحون ملكيين أكثر من الملك، هؤلاء تفضحهم انتهازيتهم، والدولة المصرية الجديدة - لو أرادت أن تكون جديدة بحق- يجب أن تلفظهم، لأنهم عبء عليها، ويجعلونها عرضة مستمرة للمآخذ والانتقادات الحادة، والدولة نفسها يجب أن تدرك أن الأمم تتقدم بتفعيل قيمة المساءلة والمراجعة، وأن الأمم التى تتخلى عن ذلك تتجه بإرادتها الحرة إلى العدم والفناء. وبعد.. يبدو الواقع السياسى / الثقافى المصرى معقدا ومركبا فى آن، تتقاذفه الأمواج، ويلعب فيه الحواة دورا قذرا فى تضليل الرأى العام والكذب عليه، يدعم ذلك بنية سياسية/ ثقافية رسمية مهترئة تحوى بدورها حواة آخرين، ومرتزقة، وقارعى دفوف وطبول، ولا أمل سوى بتخليق وعى يرتكن إلى رشد سياسي/ ثقافى حقيقي، ذى خيال جديد، ونخب مختلفة تدرك حاجة الأوطان لمثقفين حقيقيين لا بهلوانات وشماشرجية وقاطعى طريق. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله