فى لحظة مفصلية وفارقة من عمر الأمة المصرية ودولتها الجديدة، يصبح من العبث إعادة إنتاج الماضى بشخوصه وأنفاره، ممن كرسوا للفساد الثقافى وتقزيم الدور المصرى فى عهدى مبارك ومرسي وعبر سياسات ثقافية امتدت لأكثر من ثلاثين عاما من تحالف الفساد والرجعية، وبما يعنى أن أى محاولة جادة لاستعادة القوة الناعمة المصرية تعنى تغييرا جذريا داخل متن وزارة الثقافة المصرية، هذا التغيير الذى يجب أن يتحرك على مسارين، يتعلق أولهما بتغيير السياسات الثقافية، لتصبح أكثر عونا على التعاطى مع اللحظة، وأكثر سعيا لخلق بنية تنويرية حقيقية تدفع ناسنا وجماهير شعبنا صوب عالم أكثر حرية وجمالا وعدلا وإنسانية، بدءا من إعادة تمليك وزارة الثقافة للشعب المصري، والانتقال بها من خانة أن تكون وزارة لمجموعة من المثقفين لتصبح وزارة للمصريين، وصولا إلى التكريس لمشروع الثورة الثقافي، وخلق سياق وطنى الملامح والهوى، ينفتح على مراكز إنتاج الثقافة المختلفة، فيخلق حالة من التفاعل الندى بين الثقافة المصرية وغيرها من الثقافات، دون الوقوع فى فخ التبعية الذهنية للآخر الأورو/ الأمريكي، ومع الانحياز الواضح - بلا لبس أو مواربة- لقيم التقدم والحداثة والاستنارة والإبداع، والمجاوزة الفعلية لكل ما هو ماضوي، أملا فى غد سكنته أحلام الشهداء ودماؤهم. أما المسار الثانى فيتمثل فيمن ينهض على التغيير ذاته، فالسياسات الثقافية الجديدة تحتاج نخبا جديدة بحق، وضربا للمعيار السرمدى الحاكم لأفق الحياة المصرية من تغليب أهل الثقة على أهل الكفاءة، وبما أورثنا واقعا مسكونا بالعتامة، ومن ثم فلا بد من إعادة الاعتبار لقيم النزاهة والكفاءة بعد أن أوصلنا أهل الثقة ورجالات كل الأنظمة والعصور إلى فساد زكمت رائحته الأنوف. الثقافة المصرية تحتاج إلى خيال جديد، بعيدا عن الفساد المباركي، وعن المتحالفين مع الفاشية الدينية، ومن ثم يمكن مواجهة قوى الرجعية والتطرف، وتدشين حالة ثقافية بامتياز داخل مجرى الحياة المصرية وفى ربوعها المختلفة، حالة تبتعد عن كرنفالية سياسات فاروق حسنى وتلاميذه، فتصبح أصيلة بحق، وبما يؤسس لوعى ممكن قادر على الاستشراف والتخطي، يعد ابنا لتنوير حقيقى لا مزعوم أو متخيل، يفض فيه التحالف المشبوه بين الاستبداد والرجعية. ومن العجب أننا مازلنا نرى ونسمع أرامل الدولة الشمولية من المتثاقفين يتربعون على كرسى الديكتاتور داعمين الفساد الثقافي، ومازلنا نرى متثاقفين من معدومى الموهبة يغادرون دور الخدم ليتبوأوا مقاعدهم ، ما يعنى أن واقع الحال فى وزارة الثقافة يؤكد غيابا للرؤية الثورية لحساب سيطرة جماعات الضغط والجيتوهات والشللية وكافة مظاهر القمع والفساد. ثمة مشكلتان مركزيتان فى الثقافة المصرية إذن، الأولى نظرية تتعلق بالمفاهيم، فنحن بحاجة ماسة لتعريف جديد للثقافة ينتقل بها من الخانة النخبوية المحضة إلى التعاطى معها بوصفها حالة مجتمعية بامتياز، وبما يعنى تكريسا للتصورات الجديدة جميعها حيال الحياة والعالم، وتدشينا لخيال جديد ووعى مبتكر ان أوانه، ومستقبله فى آن. أما المشكلة الثانية فتبدو مشكلة إجرائية تتبلور فيمن يقوم على الفعل الثقافى ذاته، بعد ثورتين مجيدتين منحت فيهما جماهير شعبنا للمحروسة أعز ما ملكت من نبلاء. إن محاولة استعادة أهل «الحظيرة» إلى صدارة المشهد، وكأننا لم نزل فى المربع واحد، وكأن ثورتين لم نصنعهما، ونظامين لم يسقطا بعد، يبدو أمرا عبثيا بامتياز، وإصرارا على «تأبيد» اللحظة وتثبيتها من أجل خلق خطابات استهلاكية فارغة، تشكل تمثيلا متواطئا للنخب الثقافية، هزليا وغير موضوعي، وبما يعنى إقصاء عمديا لكل الخطابات الطليعية المنحازة إلى ناسها، والمدركة للجوهر العميق لمعنى الثقافة. وعلى الدولة المصرية أيضا فى سبيل استعادتها لقوتها الناعمة، تشجيع المبادرات الفردية الثقافية والكيانات الأهلية شريطة ألا تكون بديلا عن وزارتها المترهلة والتى تحتاج حلولا حاسمة وجذرية، وبما يعنى تدشينا واعيا لحالة تنويرية بامتياز، تقف بثبات ضد قوى التطرف فى مسعاها الأكثر انحطاطا لإعادة الواقع المصرى إلى القرون الأولى!. ومن ثم فلا بد من مجابهة الفكرة الظلامية، ومقاومة من يتعيشون عليها داخل الثقافة الرسمية، ممن ساندوها أيام حكم المعزول مرسي، وجماعته الفاشية، ومن كسر الصيغة الصنمية»الفساد/الرجعية»، وفض التلازم المشبوه بينهما. إن تآكل النخب المصرية بدا سببا مركزيا من أسباب تراجع قوانا الناعمة، خاصة فى ظل واقع عجوز بامتياز، شائخ، ومسكون بالماضوى ومولع به، لم يسع يوما للنظر لما هو أبعد مدى، ناهيك عن التعاطى حتى مع راهنه!. هذا الواقع العجوز معنى لا مبنى فحسب، والمطعم بديكور من المدجنين والمستأنسين، من ثعالب «الحظيرة «وخدمها الصغار، لن يستعيد قوانا الناعمة التى كرس لها تراكم حضارى ممتد يصل لسبعة آلاف عام، وجذور حضارية غنية ومتنوعة تنبئ عن أمة تملك من جينات القوة الداخلية ما يجعلها قادرة على تخطى لحظتها والانطلاق صوب عالم يليق بها، جديد، وحر، وإنساني، نبيل، وتقدمي. وفى سعيها لاستعادة قواها الناعمة، على الدولة المصرية أيضا أن تخلق مناخا إبداعيا لأبنائها، بدءا من الارتقاء بجودة التعليم المقدم لتلاميذنا فى المدارس، وصولا إلى الجامعة، وبما يعنى حتمية التماس بين التعليم والثقافة، كما يجب الاهتمام بجعل الثقافة حالة مجتمعية بالأساس، بدءا من الاهتمام بالكتاب بكل تنويعاته الفكرية والإبداعية، والفنون بكل صيغها الجمالية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله