فى حديث فضائى دار بين أحد وزرائنا المرموقين وإعلامية شهيرة، عرجت المناقشة فجأة بعد مناقشة مشكلة سداد شركات السكر لاستحقاقات مزارعى القصب، إلى الإصلاح الزراعى وكيف أن هذا القرار الخطير قد أساء إلى الزراعة المصرية لأنه فتت الملكية الزراعية بحيث أثر بالسلب على إنتاجها المحصولي. لم أكد أصدق ما يقال أمامى خاصة فى هذه المرحلة التى يصرح فيها الرئيس السيسى بأن الأرض التى ستقوم الدولة باستصلاحها ستوزع على الشباب فى إطار مشروع لبناء ريف مصرى جديد وحديث. كما أنى تعجبت من مضمون الحوار لأنه حوار يناقض الحقيقة التى عاشتها أراضى الإصلاح منذ توزيعها على معدمى الريف. فالحقيقة التاريخية المؤكدة والتى لايمكن إنكارها هى أن مشروع الإصلاح الزراعى الذى أقره مجلس قيادة الثورة فى سبتمبر عام 1952 قدم للزراعة المصرية فكرة احترام الملكية الخاصة مع عملية تجميع الزراعات فى حوض زراعى واحد. فصدر، مع قانون الإصلاح الزراعي، قانون آخر هو القانون 178 لعام 1952 الذى وضع أسس تجميع أراضى الإصلاح وعدم تركها للتفتيت. قدم المشروع للزراعة المصرية فكرة قيام الزراعات المجمعة الكبيرة. ليس هذا رأيى أواجه به رأيا آخر ولكنى أنقل ما تقوله الكتب والإحصائيات والبيانات والتاريخ ذاته. فى البداية لابد من ذكر أن نسبة الأراضى التى تم توزيعها على المعدمين الريفيين كانت باستمرار تشكل نسبة ضئيلة بالنسبة لمساحة الأراضى الزراعية المصرية. أدارت الدولة الزراعة المصرية من خلال نوعين من التعاونيات الزراعية. لكل منها تكوينها وقانونها. الأولى والأكبر هى الجمعيات التعاونية للائتمان الزراعى التى تضم 4246 جمعية بعضوية ثلاثة ملايين وربعمائة خمسة وسبعين مزارعا. تنظمت هذه التعاونيات الزراعات فى القرى التى لم يطبق فيها قانون الإصلاح. والثانية هى الجمعيات التعاونية للإصلاح الزراعى والتى لم يزد عددها عن758 جمعية بعضوية ثلاثمائة وخمسمائة ألف مزارع. أدارت الدولة بهذه الجمعيات الأخيرة الزراعة من خلال تجميع الزراعات فى الحوض الواحد وتطبيق دورة زراعية موحدة وتوفير إرشاد زراعى يُعلم المزارعين الصغار طرق الزراعة الأكثر حداثة واستخدام التقاوى الجديدة. ويمكن قياس نتائج هذه السياسات إذا ما قدمت الجهات المسئولة بيانات كافية عن الفرق فى حجم غلة للفدان الواحد لكل المحاصيل فيما بين فترة الخمسينيات وفترة الستينيات. لكن النقد الحقيقى الموجه لهذه التعاونيات أنها كانت تحت إدارة وسيطرة الدولة ولم تقدم نموذجا ديمقراطيا للنظام التعاونى الذى يساعد على تطوير وتمكين الإنسان والريف كما هو حادث فى مئات الدول المطبقة للرأسمالية بعلاقاتها الخاصة بالسوق وفى الوقت نفسه المطبقة للنظام التعاونى فى الزراعة والصناعة والخدمات. يشير هذا الواقع إلى أن السياسات الزراعية فى العقدين الخمسينى والستينى لم تكن السبب فى تفتيت الزراعات. العامل المؤثر فى تزايد التفتيت الحيازى وزراعاته هى علاقات السوق التى بدأت تنفذ فعليا من الموسم الزراعى 1993\1994 من خلال خصخصة الزراعة. فى الموسم الزراعى 1981\1982 كان عدد الحيازات الصغيرة الأقل من الفدان تحتل 339 ألف فدان إرتفعت المساحة بفعل علاقات السوق فى الموسم الزراعى 2003\2004 إلى 1219 ألف فدان. فأى السياسات هى التى ساعدت على تفتيت الحيازات؟ العاملان الأساسيان فى التفتيت الزراعى الذى نشاهده اليوم فى الزراعة المصرية والذى يؤثر بالسلب على إنتاجية المزارع وعلى الاقتصاد الزراعى بدأ عند إلغاء الدورة الزراعية عام 1976 ثم صدور القانون 96 لعام 1996 الذى أعطى الملاك حرية التصرف ببيع الأرض مما قضى تماما على فكرة نظام التجميع الزراعي. فوضحت عشوائية التعامل مع الأرض الزراعية دون رقيب ولا رادع يقفان أمام التعدى على الأرض الزراعية بكل الطرق أو حتى فكرة تطويرها.بمعنى آخر عندما أخذت الدولة بسياسات االتكيف الهيكليب وترك القطاع الزراعى للتعامل مع قوى السوق والعرض والطلب. فتم القضاء على فرص الحصول على التقنية والتمويل الميسر الذى كان يحصل عليها المزارع قديما من التعاونيات. خسر المزارع نظام الإرشاد الزراعى كما فقدت الزراعة جانبا من الإنتاج ثم فرصة تطوير الزراعات الكبيرة التي، كما ذكرنا حافظت على الملكية مع تجميع الزراعات فى حوض واحد على مستوى القري. بناء على كل السياسات التى سميت تحرير الزراعة وضحت البيانات الآتية، والتى لا أملك منها إلا لعام 2004. كان عدد الحيازات التى تقل عن الفدان الواحد 1005900 حيازة عام1990 . ارتفع العدد عام 2004 إلى 1971000 حيازة. فى عام 1990كان عدد الحيازات التى لا تقل عن فدان ولا تزيد على ثلاثة فدادين 1566100 حيازة. ثم انخفض العدد فى عام 2004 إلى 1293000 حيازة. ويعود هذا التراجع للعدد فى الأساس إلى عامل التوريث. تبرز الحقيقة الواضحة فى هذا الشأن وهى أن نسبة الحيازات الزراعية التى تقل عن الثلاثة أفدنة تصل إلى 94٫1% من العدد الكلى للحيازات الزراعية المصرية. والخطير فى هذه النسبة هى أن الحيازات التى تقل مساحتها عن الفدان الواحد تصل إلى 8 56٫ % من العدد الكلى للحيازات الزراعية المصرية. يقع العدد الأكبر من هذه الحيازات فى صعيد مصر. وهو ما قد يفسر أحد عوامل وجود الألف قرية الأكثر فقرا فى محافظات الصعيد. هذه المساحات الصغيرة التى تقل عن فدان تسمى زراعات الاستهلاك لأنها لا تقدم إنتاجا كبيرا يتجه إلى السوق. كما أن إنتاج حيازتها لا يفى بمطلبات حياة أسرها لذلك يجنح غالبية عوائلها إلى الهجرة الداخلية لزيادة الدخل وإطعام الأسر تاركين الأرض للنساء والأطفال للعناية بها. ومادامت المرأة وأطفالها غير مدربين كالرجال فإن إنتاج الأرض يستمر فى التراجع مما يضطرهم فى النهاية إلى بيع الأرض. ومادام لا توجد فرص عمل فى القرية أو فى جوارها يزداد عدد معدمى الأرض وفقراء الريف. لتعود ظاهرة تمركز الملكية فى ال واحد أو الاثنين فى المائة من الملاك. والخطير فى الأمر أن يحدث هذا فى الأرض السمراء الطينية التى نعتمد عليها فى الإنتاج المحصولى التقليدى الموجه لسلة الغذاء، القمح والأذرة و و. لذلك عندما نناقش قضايا الزراعة لا يجب أن نحمل القضة فكرنا الليبرالى الجديد و نلتقط موضوعا واحدا لا علاقة له بالتراجع فى الإنتاج الزراعي، كموضوع الإصلاح الزراعى الذى طبق عام 1952 لمجرد معارضته لأنه مس الملكية الزراعية الكبيرة واعترف بمعدمى الريف المصرى ووقف بجانبهم وحاول أن يقدم للزراعة نمطا إنتاجيا جديدا. والآن ماذا نريد؟ هل نريد إصلاحا زراعيا جديدا؟ بالقطع لا! ! ولكننا نريد أن نبنى على خبراتنا السابقة لنطور من زراعتنا وريفنا الذى لا يزال يعيش على أرضه نسبة 51% من التعداد المصري. لن يخرج مطلبنا عما ورد فى دستور مصر2014 الذى يؤكد ا تحمى الدولة الملكية بأنواعها الثلاثة، الملكية العامة والملكية الخاصة والملكية التعاونية». نريد هذه الملكية الأخيرة لتكون النمط السائد فى إدارة زراعية حديثة تنظم الزراعة المصرية وتفتح فرصا واسعة لتمكين الريف وتمكين الفلاح المصري. ولا يجب أن نخاف من المؤسسات الدولية أو غيرها من المؤسسات التى خضعنا لإرادتها فى القضية الزراعية وهى السياسات التى أدت بنا إلى ما نحن عليه الآن. والمثال. فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. بها 30 ألف تعاونية تعمل فى 73 ألف موقع. تملك أصول إنتاج قيمتها 3 تريليونات دولار. تحقق أرباحا سنوية تصل إلى 500 مليار دولار وتوفر 2مليون فرصة عمل.والآن كيف نبدأ فى مصر؟ لمزيد من مقالات أمينة شفيق