فى مسيرة نشأة روزاليوسف وتطورها دروس لامتزاج السياسة والاقتصاد بالصحافة والثقافة وحرية التعبير، وتفاعلها جميعًا فى محاولات النهضة ومسارات التقدم. فليست من مصادفات التاريخ أن تتجلى إسهامات الصحافة فى عهد انتصر فيه الأمل الذى بثته ثورة 1919 فى عموم المصريين بإمكانية استئناف الحضارة والسعى للتحديث بعد عهود كئيبة من الاضمحلال والاضطهاد ونهب الثروات. ومن كلمات الرائدة فاطمة اليوسف المؤسسة لروزاليوسف اقتبس «ليس من عادتى أن أنظر كثيرًا إلى الماضي، فقد كان لدىَّ دائمًا من مشاكل اليوم والغد ما يشغلنى عن تأمل الأمس البعيد؛ على أن الماضى لا يموت أبدًا. إنه يعيش فينا بكل ما مر فيه من سعادة أو شقاء، وإنه ليكفى أحيانًا أن يمر بالإنسان حادث صغير، أو مناسبة بسيطة لينهار هذا السد الذى نقيمه دون الماضى، وتتدفق كل الذكريات كالموج الهادر».
لم يكن غريبًا أن تأتى سيرة السيدة فاطمة اليوسف فى مقدمة سير رواد الاستثمار، فى سلسلة عن رموز الاقتصاد الساطعة، قبل ثورة 1952، من أرباب الصناعة والزراعة والمال والتجارة والفنون. وكان من أغراض هذه السلسلة التى دشنتها أثناء عملى وزيرًا للاستثمار فى مصر، تعريف أبناء العصر بجذور اقتصادنا، وأنه لم ينشأ بصفقات متناثرة أبرمها محظوظون أو انتهازيون، وأن أفضل ما فيه وأعمقه أثرًا واستدامة لم يكن وليد إجراءات شعبوية، أو نزعات أيديولوجية.
وطلبت من القائمين على السلسلة تيسير الشرح دون إخلال بالمضمون، والإيجاز فى التحليل والوصف دون جور على أى معلم أساسى من معالم تجربة رواد الاستثمار الأفذاذ الذين تناولتهم هذه السلسلة. وقد حظيت هذه المجموعة من الكتيبات الوجيزة بكتّاب سلسى التعبير عميقى المعرفة، أختص منهم بالتنويه اسم الأستاذ مصطفى بيومى رحمه الله، وكان من كتّاب روزاليوسف المعتبرين، وقد كتب كتيبًا رائعًا تناول فيه عصامية البدايات الأولى لروزاليوسف كمطبوعة صحفية.
وفى التأكيد على عصامية النشأة ضرورة، لأن العصامى لا يدين بنجاحه لأحد، وليست عليه فواتير يسددها بولاءات تهدد مصداقيته، أو مجاملات تخصم من مهنيته. وقد شكل هذا المواقف السياسية لروزاليوسف من الأحزاب والقصر والمحتل الأجنبي، وهو ما استمر معها لتستدعيه فى تطورها عبر المائة عام الجديرة بالاحتفاء بها كمؤسسة ثقافية عتيدة ومدرسة صحفية متميزة بمبدعيها من صحفيين وكتاب ونقاد ورسامين وفنانى كاريكاتير ومصممى أغلفة ومحررين، ومعهم كتيبة من المحترفين فى الإدارة والطباعة والتسويق والأعمال المعاونة التى لا تستقيم شئون مؤسسة دونها.
وعبر أجيال، فى عالم شديد التغير، استمرت روزاليوسف حاضنة لأقلام واعدة، ومهدت لها ما جعلها تبرع ثم تبزغ كأسماء يشار لها بالبنان كنجوم متفردة، وهم أيضًا كالنجوم أكثر إبهارًا وهداية عندما تجتمع فتتلألأ فى سماء صافية من الغيوم.
وأجدنى فى عودة لماضى السياسة والاقتصاد، للفترات الأولى لروزاليوسف، فى أوج تصدى البلاد لما عرف وقتها بالمسألة المصرية المتعلقة بقضايا الاستقلال والهوية والتحديث وإعادة تشكيل أولويات المجتمع وارتباطاته واقتصاده. أثقلت الديون كاهل روزاليوسف، لما ألمَّ بها من تبعات فى معركتها من أجل الدستور، وبعد اختلافها مع نهج حزب الوفد ثم خلافها مع حكوماته، وحكومات أخرى، فتعثرت فى سداد التزامات شتى وكذلك الوفاء بأقساط قروض كانت مستحقة لبنك مصر. فساندها فى محنتها عظيم من عظماء البلاد ورائد لاقتصادها الحديث هو طلعت حرب، الذى رأى فى تعاضد المال مع الفن والثقافة سبل الفكاك من قبضات الاستعمار، وخدمة لشعب يشتاق للاستقلال التام. وفى مراسلات فاطمة اليوسف لطلعت حرب التزام بالوفاء بالدين المالى والدين الأدبى معًا لرجل وصفته بمن «مد يده الحنون أستند عليها، يوم تخلى عنى كل إنسان فى محنتى التى نزلت بى لأنى جهرت بعقيدتي، ولأنى جعلت من صحيفتى ميدانًا لأصحاب الأقلام الحرة».
ونحن على مشارف مائة عام جديدة تتطلع لها روزاليوسف بدروس تجربتها الملهمة، أراها وقد أدركت من جذور نشأتها الأولى، وحصاد مسيرتها السخية، أن عالمنا الجديد الذى تتشكل معالمه بتدافع القوى الصاعدة فى شرق الأرض، وتمسك القوى التقليدية بمكاسبها فى غربه، فى أشد الحاجة لحيوية الفكر الدافق المتمرد على قوالب مقيدة بالية. وأن هذا العالم لن يقوده، بل لن يصمد فيه أصلًا، إلا من صنع لتقدمه جناحين يحملانه بقوة. الأول هو جناح التحول الرقمى والذكاء الاصطناعى وثورة المعلومات وعمقها ودقة البيانات وسرعة ومهارة تحليلها. والثانى هو الاستدامة باقتصاد يدفع لتنمية تشمل الكافة باستثمار فى البشر ومعارفهم ومداركهم، ويحمى بيئتهم، وطبيعتهم وسلامة كوكبهم من المربكات والمعوقات والعلات. وأكثر العلات شرًا هى تلك الأفكار السيئة التى تنحى العلم جانبًا، وتجرى وراء ضلالات وخرافات ملهية عن تحقيق غايات التقدم وما فيه صالح عموم الناس.
مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة