شاهدت في مهرجان الجونة السينمائي قبل أيام ضمن قسم الإختيار غير الرسمي ، خارج المسابقة ، فيلم «السادة الأفاضل»، للمخرج لمخرج كريم الشناوي الذي يقدم عملاً يجمع بين الجرأة الفكرية والذكاء السردي، ليضع المشاهد أمام مرآة حقيقية لمجتمع مأزوم تتبدّى فيه التناقضات بين الشكل والمضمون، بين ما نعلنه من قيم وما نمارسه من سلوك. الفيلم الذي كتبه مصطفى صقر وفريق من الكتّاب، وبطولة محمد ممدوح وأشرف عبد الباقي وبيومي فؤاد وناهد السباعي وطه دسوقي ومحمد شاهين وهنادي مهنا، ينتمي إلى نوع من الدراما الاجتماعية التي تقترب من الكوميديا السوداء، لكنها لا تكتفي بالسخرية، بل تحفر عميقاً في أخلاق الطبقة الوسطى المصرية وما يعتريها من تحولات وقيم زائفة. يستند الفيلم إلى حبكة تقوم على مفارقة أخلاقية: شخصيات تبدو "محترمة" في المظهر والقول، لكنها تُظهر فسادها عندما توضع تحت ضغط التجربة أو المصلحة، من خلال هذا البناء، يشتغل النص على تفكيك مفهوم "الإحترام الإجتماعي" الذي بات قشرة خارجية تخفي وراءها هشاشة القيم. يعتمد كريم الشناوي في إخراجه على الإيقاع الهادئ والتصعيد النفسي التدريجي، دون الوقوع في فخ الوعظ المباشر، بينما تُوظَّف الكوميديا كأداة كشف وليست كوسيلة ترفيه فقط، هذا التوازن بين الواقعية والرمزية يمنح الفيلم بعداً فلسفياً يقترب من سؤال جوهري: من هم فعلاً "السادة الأفاضل"؟ يقدّم محمد ممدوح أداءً متقناً يجمع بين الطيبة المكسورة والتناقض الداخلي، في شخصية تمثل المواطن العادي الذي يسقط في شبكة النفاق الاجتماعي دون وعي، أما أشرف عبد الباقي فيظهر بنضج لافت، متخلياً عن النمط الكوميدي الخفيف لصالح دور مركّب يكشف عن وجه آخر للسلطة الأخلاقية الزائفة، كما يضيف بيومي فؤاد بعداً ساخراً مقاوماً للخطاب الجاد، بينما تتألّق ناهد السباعي في أداء يجمع بين الهشاشة والقوة، لتصبح أحد أكثر عناصر الفيلم صدقاً وتعبيراً عن التناقض الأنثوي في مجتمع أبوي متناقض. اقرأ أيضا| كوميديا وتشويق في انتظارك.. موعد عرض «السلم والتعبان 2» قريبا يتعامل مدير التصوير«مصطفي فهمي» مع الإضاءة والألوان كوسيلة سرد موازية للنص؛ الألوان الباهتة والضوء الخافت في كثير من المشاهد يعكسان اختناقاً وجودياً يعيشه الأبطال. المونتاج «باهر رشيد» يعتمد على إيقاع متصاعد متوتر، بينما تُستخدم الموسيقى« » بتقشف واضح لتترك المجال للصمت أن يتكلم ، ذلك الصمت الذي يعبّر عن القهر أكثر من أي حوار. الفيلم في جوهره ليس فقط عن شخصيات محددة، بل عن منظومة كاملة من التواطؤ المجتمعي. إنه يقول إن الفساد لا يسكن المؤسسات فقط، بل يسكن التفاصيل الصغيرة لحياتنا اليومية: في الكلمة، في التبرير، في الخوف من المواجهة. وهكذا، يصبح الفيلم صرخة ضد «الأفاضل» الذين يصنعون من الأخلاق واجهة بينما يغيب الفعل الأخلاقي الحقيقي. «السادة الأفاضل»عمل يستحق التوقف أمامه لأنه يستفز الوعي لا ليُدين فحسب، بل ليفضح ويحرّض على التفكير، إنه تجربة فنية متماسكة تؤكد أن السينما المصرية لا تزال قادرة على تقديم خطاب نقدي جاد في قالب جماهيري جذّاب، يجمع بين المتعة والسؤال، بهذا المعنى، يمكن القول إن الشناوي وفريقه صنعوا فيلماً أدبياً بامتياز، يحمل نَفَس نجيب محفوظ في تشريح المجتمع، لكن بلغة بصرية معاصرة ووعي سينمائي جديد.