وصول سفينة عملاقة لتداول 1539 حاوية مكافئة في ميناء دمياط    كتائب القسام تعلن تسليم جثمان أسير إسرائيلي في الثامنة مساء    فرديناند ينتقد سلوت: على ليفربول أن يتعامل مع الكرة الثانية في البريميرليج    وزير الرياضة يُهنئ النوساني بعد فوزه على لاعب إسرائيل في بطولة كندا للإسكواش    جوارديولا يوضح موقف رودري وهالاند قبل مواجهة سوانزي سيتي    الداخلية تكشف ملابسات تغيب طالب عن منزله في القاهرة    الآثار: استعدادات مكثفة تسير على قدم وساق داخل المتحف تمهيداً للافتتاح المتحف الكبير    قبل الشتاء.. 7 عادات بسيطة تقوّي مناعتك وتحميك من نزلات البرد والإنفلونزا    مستقبل وطن يواصل دعمه لمرشحي القائمة الوطنية في المحافظات (فيديو)    جامعة بني سويف ترفع كفاءة أطباء الأسنان.. تدريب علمي حول أحدث تقنيات التخدير الموضعي وحشو العصب    فرج عامر: ماحدث من لاعبي سموحة أمام الجونة " كارثة ومأساه"    تطوير شامل بمحيط المتحف المصري الكبير يشمل 14 محورًا و90 ألف متر من المسطحات الخضراء    بعد تسريب بيانات 183 مليون حساب.. تحذير عاجل من الهيئة القومية للأمن السيبراني لمستخدمي Gmail    رسميًا مواعيد المترو بعد تطبيق التوقيت الشتوي 2025 2026 بالخطوط الثلاثة    رسميًا| مجلس الوزراء يعلن بدء التوقيت الشتوي اعتبارًا من الجمعة الأخيرة بالشهر الجاري    ببث مباشر وعروض ليزر.. مكتبة الإسكندرية تحتفي بافتتاح المتحف الكبير مع جمهورها    أخبار الفن.. استعدادات لتصوير "حين يكتب الحب" و"ابن العسل".. طرح "السلم والثعبان2" و"برشامه" قريبا.. وارتباك وغموض في "شمس الزناتى 2"    محافظ كفر الشيخ يفتتح مدرسة الشهاينة للتعليم الأساسي بالرياض    اللجنة الفنية باتحاد الكرة: حلمي طولان محق في تصريحاته ويجب الحفاظ على شكل المنتخب    ماليزيا تعلن استعدادها للانضمام إلى "بريكس" فور قبولها    «تعمير» تعلن عن شراكة استراتيجية مع «The GrEEK Campus» بمشروع «URBAN BUSINESS LANE»    رؤية نقيب الصحفيين للارتقاء بالمهنة في ظل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي    روزاليوسف.. ساحة الاختلاف واحترام التنوع    مسؤولون: إن لم تستطع الحكومة اللبنانية نزع سلاح حزب الله فلن يكون هناك مفر من تنفيذ عملية مركزة ومحددة ضد أهداف للحزب    افتتاح المبنى الإداري الجديد لكلية الهندسة جامعة الأزهر في قنا    كيف تؤثر مرحلة انقطاع الطمث على الصحة العقلية للمرأة؟    محافظ الفيوم يتفقد سير العمل بالمركز التكنولوجي بطامية    زلزال سينديرجي يعيد للأذهان كارثة كهرمان مرعش في تركيا.. تفاصيل    فوزي إبراهيم بعد حلقة الحاجة نبيلة مع عمرو أديب: «المؤلفون والملحنون شاربين المر ومحدش بيذكر أسماءهم»    قوافل جامعة قناة السويس تتوجه إلى قرية أم عزام لتقديم خدمات طبية    الطائفة الإنجيلية: التعاون بين المؤسسات الدينية والمدنية يعكس حضارة مصر    نجم اتحاد جدة السابق يضع روشتة حسم الكلاسيكو أمام النصر    شوبير يكشف حقيقة العرض الليبي لضم أشرف داري من الأهلي    كييف تعلن إسقاط 26 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    قبل العرض الرسمي.. إليسا تطلق أغنية «السلم والتعبان – لعب العيال»    وزيرة التخطيط: تهيئة بيئة الاستثمار لتوسيع نطاق مشاركة القطاع الخاص    الداخلية تعلن البدء فى إجراء قرعة الحج بعدد من مديريات الأمن بالمحافظات    افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. مصر تبهر العالم في أضخم حدث ثقافي بالقرن الحادي والعشرين    الإفتاء توضح الحكم الشرعي لتقنية الميكرو بليدينج لتجميل الحواجب    حملات أمنية مكبرة بكافة قطاعات العاصمة.. صور    موعد مباراة أتالانتا وميلان في الدوري الإيطالي    ضمن «صحح مفاهيمك».. واعظات «الأوقاف» يقدمن لقاءات توعوية لمكافحة العنف ضد الأطفال بشمال سيناء    الرئيس السيسى يثنى على الخدمات المُقدمة من جانب صندوق تكريم الشهداء    محافظ أسيوط يستقبل الرحلة الجوية المنتظمة بين القاهرة وأسيوط دعما لمنظومة النقل والتنمية بالصعيد    عشرات شاحنات المساعدات تغادر رفح البري متجهة إلى غزة عبر كرم أبو سالم    مقتل ثلاثة أشخاص في جامايكا أثناء الاستعدادات لوصول إعصار ميليسا    الشبكة هدية أم مهر؟.. حكم النقض ينهى سنوات من النزاع بين الخطاب    دراسة: زيارة المعارض الفنية تُحسن الصحة النفسية    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 2026 ومكانته العظيمة في الإسلام    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأمريكي لبحث تطورات الأوضاع في السودان وليبيا    غيران ولا عادي.. 5 أبراج الأكثر غيرة على الإطلاق و«الدلو» بيهرب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 28-10-2025 في محافظة الأقصر    ضبط 3 أطنان دقيق في حملات مكثفة لمواجهة التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    14 شاشة لمشاهدة احتفالات افتتاح المتحف المصري الكبير بأسوان    بالأرقام.. حصاد الحملات الأمنية لقطاع الأمن الاقتصادي خلال 24 ساعة    الباعة الجائلون بعد افتتاح سوق العتبة: "مكناش نحلم بحاجة زي كده"    خالد الجندي: في الطلاق رأيان.. اختر ما يريحك وما ضيّق الله على أحد    بعد خسائر 130 دولارًا| ننشر أسعار الذهب في بداية تعاملات الثلاثاء 28 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنوات رسم خريطة جديدة لمصر

إن الاحتفاء بالذكرى المئوية الأولى لصدور مجلة روزاليوسف لا يكون فقط باستدعاء ماضيها، ولكن بالبحث والتطلع إلى دورها فى القرن المقبل. لم تكن روزاليوسف مُجرد مطبوعة صحفية، بل مدرسة سياسية وإعلامية جمعت بين جُرأة الفِكر ورصانة الكلمة وجِدة الشكل والمظهر. تبدأ روزاليوسف رحلة القرن الثانى، ومصرُ تخوض غِمار عملية إعادة بناء شاملة لكُل مقومات مُجتمعها، وحياة مواطنيها. ولذلك، يتكاثر الغُبار، ويضيع الاتجاه العام أحيانًا وسط تلاحق الأحداث اليومية وتقلباتها، ولذلك فمن الضرورى أن ينظر المرء فى التوجهات الكُبرى، والمعانى التى تحملها من أجل مُستقبل زاهر.

حلُم المصريون منذ مُنتصف القرن التاسع عشر بإنشاء مجتمع عصرى ودولة مدنية حديثة، وانتهجوا فى سبيل ذلك مسالك عدة منها: مُكافحة الاحتلال والنفوذ الأجنبى، والمُطالبة بالدستور والديمُقراطية، وإجراء الانتخابات البرلمانية، والانخراط فى مدارج التعليم الحديث، والتصنيع والتنمية والعدالة الاجتماعية، وتحرير المرأة، والحفاظ على الهوية الوطنية، وإنشاء المؤسسات اللازمة لتحقيق كل ذلك.

كان الهدف إقامة دولة قوية ومُجتمع ناهض ينبضُ بالحياة وأن تتحول «مِصر الهرمة» إلى «مِصر الفتاة» بتعبير الزعيم مُصطفى كامل أو بتعبير الأستاذ توفيق الحكيم «عودة الروح» فى وصفه لثورة 1919، وما عبّر عنه جموع المصريين فى مظاهرات الثورة بهُتاف «عاش الهلال مع الصليب». لم يكُن طريق مصر نحو تحقيق أهدافها سهلًا بل كانت هُناك نجاحات وإخفاقات، وظهرت معوقات وتحديات داخلية وخارجية لكن التيار الرئيسى فى مِصر تمسك ببوصلة التغيير والإصلاح والتحديث والنهضة.

فى هذا السياق، تمثلت أهم التحديات التى واجهت مِصر فى الحقبة الثانية من القرن الحادى والعشرين فى التحديات الثلاث التالية: أولها تحدى التطرُف والإرهاب واستخدام العُنف على يد التنظيمات التى وظفت الدين لتحقيق أهدافها السياسية، وثانيها تحدى الانقضاض على مؤسسات الدولة الوطنية وقيمها والعمل على إضعافها لصالح منطق الجماعات من أجل أن تصبح الجماعة بديًلا عن الدولة، وثالثها تحدى تذويب الهُوية الوطنية فى أُطر ثقافية وأيديولوجية أكبر اتخذت أشكالًا دينية وشرق أوسطية وعولمية.

لم تكن هذه التحديات مُنعزلة عن بعضها البعض، بل تفاعلت وتداخلت فيما بينها واتسع تأثيرها فلم تقتصر عند حدود الخلاف السياسى، وإنما امتد إلى مرحلة «الانقسام الاجتماعى»، وإلى تهديد العناصر الأساسية لهُوية المصريين. وهذا ما يفسر الخروج الجماهيرى الكبير فى يونيو 2013 لاستعادة الدولة والهُوية، وتلى ذلك تبلور مجموعة من سياسات المواجهة لتلك التحديات نُجملها فيما يلى:

التحدي الأول : اسعادة الأمل
فى مواجهة التحدى الأول، كان الهدفُ هو استعادة الأمن والاستقرار الاجتماعى وحُكم القانون، وتبنت الدولة استراتيجية متكاملة لها جوانبها العسكرية والفكرية والتنموية. على الجانب العسكرى، شملت استخدام قوات الشُرطة والجيش فى مواجهة من رفعوا السلاح ومارسوا أنشطة إرهابية عامى 2014 - 2015، والتى هدفت إلى إثارة الفزع لدى المواطنين وإشعارهم بأن الدولة غير قادرة على حمايتهم، كما شملت تجفيف منابع التمويل والتجنيد لهذه التنظيمات ومُلاحقتها أولًا بأول، وصولًا إلى قيام الجيش بدحر هذه التنظيمات فى عملية حق الشهيد عام 2015، ثم العملية الشاملة «سيناء 2018». وعلى الجانب الثقافى والفكرى، شملت تفنيد التفسيرات الخاطئة التى تبنتها هذه التنظيمات كمفاهيم الجهاد وتكفير الحاكم والمُجتمع، وتطوير مضمون المُقررات الدراسية فى مرحلة ما قبل التعليم الجامعى بما يُكرس قيم المواطنة والمبادئ الصحيحة للأديان. وعلى الجانب التنموى، بدأت الدولة فى إقامة مشروعات اقتصادية وانتاجية فى عموم البلاد وخصوصًا فى مُحافظة شمال سيناء والمُحافظات الحدودية.


التحدي الثاني : استعادة هيبة مؤسسات الدولة

وفى مواجهة التحدى الثانى، كان الهدف هو استعادة هيبة مؤسسات الدولة وإعادة بناء قُدراتها وتوطيد أركانها بما يُدعم ثقة المواطنين فيها وفى قُدراتها على حمايتهم. لم يقتصر ذلك على المؤسسات المسئولة عن حفظ الأمن وإنما امتد التحديث المؤسسى وبناء القُدرات وإعادة تأهيل العاملين إلى كُل المجالات، وأصبح التحول الرقمى على أولويات توجهات الدولة، وتوسع استخدام الإنترنت فى مختلف المجالات وفى الخدمات التى تقدمها الحكومة للمواطنين، وفى تعاملاتهم اليومية. ودعم من هذا التطور الرقمى الآثار المُترتبة على جائحة مرض كورونا فى عامى 2020-2021.

واتصالا بذلك، اتسع الدور التنموى للدولة فتبنت عددًا من المشروعات القومية العملاقة والطموحة فى مجالى: البنية التحتية المادية والبشرية. ففى مجال البنية التحتية المادية، قامت بإنشاء طُرق وكبارى وأنفاق وموانئ ومطارات ومُدن ومحطات كهرباء ومياه وصرف صحى. وفى مجال البنية التحتية البشرية، قامت بجهود ومبادرات كبيرة فى قطاعى التعليم والصحة، وتطوير القُدرات الاقتصادية، وخلق مصادر جديدة للثروة وزيادة إجمالى الناتج المحلى مع تطوير برامج الحماية والعدل الاجتماعى. وكان من نتيجة هذه الجهود، ارتفاع ترتيب مصر فى عدد كبير من المؤشرات الدولية فى هذه المجالات.

إن بناء الطرق والكبارى أمر صعب لكنه ممكن، والأصعب هو التعامل مع الآثار الاجتماعية لهذا التغيير المادى. وفى هذا الصدد، يتفق الباحثون فى العلوم الاجتماعية على أن هناك قيمًا مُحفزة للتغيير والتقدم وأُخرى مُعوِقة ومُحبِطة له. لذلك، فإن العمل على تغيير القيم السلبية فى مجالات العمل وتنفيذ القانون والثقة الاجتماعية والعمل الجماعى هى أمور ضرورية. يرتبط بذلك القيم الخاصة بالحفاظ على ما حققته الدولة ومن ذلك مثلًا تغيير قيم ساكنى الإسكان الاجتماعى حتى يتم صيانة مساكنه واستدامته بالصورة اللائقة التى تم إقامتها وفقًا لها. وبنفس المنطق، تغيير قيم كبار الأثرياء الذين يُشكل سلوكهم أو تصرفاتهم استفزازًا اجتماعيًا. ويرتبط بذلك أيضًا القيم والمُمارسات السلبية التى أبقت مُشكلتى الزيادة السُكانية والأمية دُون حل.

التحدي الثالث : الهوية الوطنية

وفى مواجهة التحدى الثالث، كان التأكيد على الهُوية الوطنية المِصرية ومبدأ المواطنة الذى يؤكد على المُساواة بين جميع المصريين دون نظر لأى اعتبار آخر. وامتدادًا لهذا التوجه، تبنت الدولة سياسات تمثيل الفئات المُهمشة والتى لم يكن لها تمثيل مُناسب فى المؤسسات السياسية كالمرأة والشباب والمصريين فى الخارج وذوى الاحتياجات الخاصة.

ترجع أهمية زيادة مشاركة تلك الفئات إلى أن المجتمعات تحتاج فى مسيرتها إلى الممارسات والقيم والرموز التى تُشجعُ أبناءها على التماسُك والتكاتف لتحقيق التقدم. لذلك، كان من الطبيعى أن تشهد هذه المرحلة تركيزًا على إحياء وتجديد ثقة المصريين فى وحدتهم وفى قُدرتهم وذلك بعد سنوات من الاضطراب والارتباك السياسى والاجتماعى. فكان إنجاز المجرى الجديد لقناة السويس فى أغسطس 2015 اللبنة الأولى على هذا الطريق. ومن ذلك أيضًا، قيام الرئيس عبدالفتاح السيسى بتجاوز حاجز نفسى قديم بزيارته سنويًا للكنيسة المُرقسية وتهنئته للمصريين الأقباط فى عيد الميلاد المجيد منذ 6 يناير 2015، فكانت خُطوة كرّست روح الوطنية المصرية والتلاحم الوطنى بين المصريين. ومثَل ذلك جُزءًا من تصور أكبر لتعايُش المصريين مع مُكونات تاريخهم الحضارى والثقافى الطويل بمراحله الفرعونية والهيلينستية الرومانية والقبطية والإسلامية والحديثة، دون افتعال تعارض أو تناقُض بينهم.

وصف الباحثون ما حدث فى مصر بعد عام 2013 بأوصاف عديدة، ويمكن أن نسميها بسنوات رسم «خريطة جديدة لمصر»، فما يحدث على أرض الواقع هو تشكُل خريطة عمرانية ومادية وبشرية جديدة. لعل من أبرز مظاهرها البرنامج القومى لتحديث الريف المصرى المعروف إعلاميًا باسم «حياة كريمة» والذى يهدف إلى توفير الخدمات الأساسية لأهالى الريف والتى حرموا منها لسنوات طويلة، فلم يعد من المقبول فى القرن الحادى والعشرين أن يعيش أكثر من %50 من المصريين بدون خدمات الصرف الصحى. مما يجعل هذا البرنامج نقلة حضارية وإنسانية توفر للمُستفيدين منه حقوقهم فى حياة أفضل. وهو ما يدخل فى صلب حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.


الجمهورية الجديدة

كل ما تحقق يشير إلى أن مصر تنتقل نوعيًا من مرحلة إلى مرحلة جديدة، وأن مسيرتها تسير صوب بناء «الجمهورية الجديدة» وهى التسمية التى أصبحت عنوانًا للمرحلة الراهنة، بعد فترة تردد فيها أكثر من تعبير مثل «الدولة الجديدة»، و«الجمهورية الثانية»، و«الجمهورية الجديدة». ثم استقر التعبير الأخير بعد تأكيد الرئيس عبدالفتاح السيسى عليه فى كلمته أمام مؤتمر إطلاق برنامج «حياة كريمة» فى 15 يوليو 2021 واستخدامه بعد ذلك فى مناسبات عديدة.

ونُشير هُنا إلى عدة معانِ تتعلق بهذا المُصطلح فينبغى عدم فهم تعبير الجمهورية الجديدة فى إطار الخبرة الفرنسية فى هذا الشأن والتى تعرف تعبيرات الجمهورية الأولى والثانية وحتى الخامسة. والتى ارتبط فيها كُل تعبير بحدث أو تغيير سياسى مُهم أعقبه صدور دستور جديد. وكان آخرها ما حدث عام 1958 ووصول الجنرال شارل ديجول إلى الحُكم وصدور دستور جديد للبلاد وهو ما يُطلق عليه الجمهورية الخامسة. ولعل ذلك يُفسر، عدم استخدام تعبير الجمهورية الثانية والاكتفاء بلفظ الجديدة. وجوهرها إحياء قيم المواطنة والمساواة وحق المواطنين فى اختيار حكَّامهم. وتُشير كلمة «الجديدة» إلى مضمون جديد للعلاقات بين المواطنين وبينهم وبين مؤسسات الدولة تختلف عما كان سائدًا من قبل.

ويأتى هذا الاختلاف من حجم التغير الذى طرأ على بيئة السياسة والتغيُرات الاقتصادية والاجتماعية التى تؤثر على أداء مؤسسات الحُكم والمُجتمع والتى تجعل من الضرورى التأمل والبحث فى تداعياتها السياسية وعدم الركون إلى الأفكار المتواترة فى هذا الشأن وحسب. فهُناك خريطة عُمرانية جديدة لمصر مازالت فى مرحلة الصيرورة.

شبكة الطرق

تُعيد هذه الخريطة تحديد شبكة الطُرق والمواصلات ووسائل النقل، ما يُزيدُ من حركة انتقال البشر والسلع وعلى محاور لم تكن موجودة من قبل من أهمها على سبيل المثال خط القطار فائق السُرعة الذى يربط بين العين السخنة على البحر الأحمر والعلمين على البحر الأبيض المتوسط والذى يُعتبر نقلة استراتيجية بالغة الأهمية فى الربط بين البحرين لها تأثيراتها الإقليمية والدولية. وتمتدُ هذه الطُرق والمحاور إلى مناطق لم يكن العُمران البشرى قد وصلها مثل المنطقة الصحراوية التى تٌقام عليها العاصمة الإدارية الجديدة التى تقع على مساحة حوالى 700 كم مُربع أى ما يُقارب مساحة سنغافورة، ومن المُخطط أن يسكُنها 6.5 مليون نسمة، والمُدن الجديدة التى أُقيمت فى عددٍ من المُحافظات لاستيعاب نموها السُكانى مثل المنصورة الجديدة والإسماعيلية الجديدة وغرب أسيوط. وإنشاء نفق الشهيد أحمد حمدى 2 الذى يُمثل شُريان حياة ييُسر الانتقال بين الوادى وسيناء، وشبكة للطُرق فى سيناء يبلغ طولها 2400 كم مُربع.

وإذا أضفنا مشروعات الاستصلاح الزراعى، يُمكن الاستنتاج أن العُمران ينتشر بعيدًا عن نهر النيل وينتقل معه المصريون إلى أماكن جديدة ويتم إعادة تشكيل جُغرافية المعمور المصرى، والعلاقة التاريخية بين المصريين ونهر النيل.

الاستصلاح الزراعي
ثُم إنه من الضرورى أن ننظر فى تأثيرات زيادة مُشاركة فئات جديدة فى الشأن العام كالمرأة والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى تداعيات الحِراك الاجتماعى والسياسى لسُكان الريف بعد إتمام برنامج «حياة كريمة»، ونظرتهم لأنفسهم ولدورهم فى المُجتمع. ولما كان العُنصر الفاعل فى النُخبة السياسية المصرية لعدد طويل من السنين هم الذكور فوق الأربعين عامًا، فإن الزيادة فى أعداد السيدات والشباب سوف تؤدى إلى تغيير فى تشكيل هذه النُخبة وطبيعة تفاعُلاتها. وينطبقُ نفس الشىء على بروز شريحة ذوى الاحتياجات الخاصة على أولويات السياسات العامة. وكُلها تطورات تؤثر على أطراف العملية السياسية وطبيعة المجال السياسى فى البلاد.

وهُناك الدور الجديد للدولة ومؤسساتها السيادية فى تنفيذ المشروعات القومية الكُبرى وفى إدارة عشرات المشروعات الاقتصادية فى شكل شركات تملُكها الدولة. وبحُكم العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد، فإن من يشغل حيزًا فى المجال الاقتصادى سوف تكون له تأثيراته فى المجال السياسى. والخُلاصة، أن التطورات التى شهدتها مصر تُعيد تعريف المجال السياسى وأطرافه وقضاياه، وعلاقته بالمجال العام وحقوق المواطنين وحرياتهم.

إن إقامة «الجمهورية الجديدة» لا يتم بقرار أو تشريع بل يتم بشكل تدريجى وتراكمى من خلال تغيير النظم والقيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهى عملية لا تحدث بين يوم وليلة، وليس لها طريق يسير أو خطى بل تكتنفها تحديات ومعوقات خصوصًا فى دولة قديمة مثل مصر، تعوّد فيها الناس -مسئولون ومواطنون-على إدارة أمورهم بطُرق لم تعُد بالضرورة مُناسبة الآن وتحتاج إلى تغيير. ومؤدى هذا، أن «الجمهورية الجديدة» هى هدف تتشارك مؤسسات الدولة والمجتمع فى العمل على إقامته. ويزداد هذا الأمر أهمية عندما نُدخِل فى الاعتبار أن مصر تقوم بهذا الجُهد الطموح فى سياق بيئة إقليمية ودولية مُضطربة تتسم بعدم الاستقرار ومشاعر عدم اليقين.

تشير تجارب الدول الأخرى إلى خطورة «التوقف فى منتصف الطريق»، وأهمية الاستمرار فى تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للتغيير مع القيام بالتدخلات الضرورية للتعامل مع جوانب القصور التى ظهرت فى تنفيذها وعدم الشعور بالقنوط أو الفشل من جراء ذلك. فمن الطبيعى فى عمليات التغيير الاجتماعى الكبرى، أن تحدث أخطاء ومشاكل، ويكون الحل هو تصحيح هذه الأخطاء وتجاوزها. فمن الحكمة أن نُعطى لعملية التغيير الكُبرى هذه مداها الزمنى.

لقد تحققت فى مصر إنجازات كبيرة ومازالت هناك تحديات قائمة، والمُهم أن نستمر فى عملية التحول وإعادة بناء الدولة والمُجتمع حتى تتبلور معالم الجمهورية الجديدة. إن الدول والمُجتمعات القوية هى التى تُدرك عناصر قوتها وتقدُمها، وتُدرك أيضًا جوانب ضعفها وقصورها. فتقوم بتعظيم جوانب قوتها وفحص جوانب ضعفها وعلاجها وذلك بهدف توفير دَفعة إضافية تُسرعُ من حركتها وتقدمها حتى تتحقق الجمهورية الجديدة والتى وصفها الرئيس السيسى بأنها «الحُلم والأمل والعمل.. القادرة وليس الغاشمة».

أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.