مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 24 مايو في محافظات مصر    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 24 مايو    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 24 مايو 2024    قوات الاحتلال تقتحم بلدة بيتونيا وحي جبل الطويل بالضفة الغربية    سيد معوض: كولر ليس مطالب بتغيير لاعبين في التشكيل والترجي لايمتلك لاعب خطير    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    نجم الأهلي السابق: نتيجة صفر صفر خادعة.. والترجي فريق متمرس    أشرف بن شرقي يقترب من العودة إلى الزمالك.. مفاجأة لجماهير الأبيض    بعد انكسار الموجة الحارة.. تعرف على حالة الطقس اليوم    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 برقم الجلوس الصف الثالث الإعدادي الترم الثاني محافظة جنوب الوادي    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    مصرع شخص فى مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالفيوم    هشام ماجد: أرفض المقارنة بين مسلسلي «أشغال شقة» و«اللعبة»    عودة الروح ل«مسار آل البيت»| مشروع تراثي سياحي يضاهي شارع المعز    الشرطة: نحو 50 محتجا يواصلون الاختباء بجامعة ألمانية    ألمانيا تعلن اعتقالها نتنياهو في هذه الحالة    أستاذ اقتصاد: التعويم قضى على الطبقة المتوسطة واتمنى ان لا أراه مرة أخرى    نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    أوقاف الفيوم تنظم أمسية دينية فى حب رسول الله    شخص يحلف بالله كذبًا للنجاة من مصيبة.. فما حكم الشرع؟    هيثم عرابي: فيوتشر يحتاج للنجوم.. والبعض كان يريد تعثرنا    عائشة بن أحمد تكشف سر العزوبية: أنا ست جبانة بهرب من الحب.. خايفة اتوجع    الزمالك ضد فيوتشر.. أول قرار لجوزيه جوميز بعد المباراة    منتخب مصر يخسر من المغرب فى ربع نهائى بطولة أفريقيا للساق الواحدة    وفاة إيراني بعد سماعه نبأ تحطم مروحية رئيسي، والسر حب آل هاشم    بايدن: لن نرسل قوات أمريكية إلى هايتى    السفير رياض منصور: الموقف المصري مشرف وشجاع.. ويقف مع فلسطين ظالمة ومظلومة    بوتين يصل إلى بيلاروس في زيارة رسمية تستغرق يومين    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    «حبيبة» و«جنات» ناجيتان من حادث معدية أبو غالب: «2 سواقين زقوا الميكروباص في الميه»    وفد قطرى والشيخ إبراهيم العرجانى يبحثون التعاون بين شركات اتحاد القبائل ومجموعة الشيخ جاسم    مرفق الكهرباء يوجه نصائح عند شراء 3 أجهزة لترشيد الاستهلاك    متحدث الوزراء: المجلس الوطني للتعليم والابتكار سيضم رجال أعمال    تشييع جثمان شقيق مدحت صالح من مسجد الحصرى بعد صلاة الجمعة    أصداء «رسالة الغفران» في لوحات عصر النهضة| «النعيم والجحيم».. رؤية المبدع المسلم وصلت أوروبا    الهندية كانى كسروتى تدعم غزة فى مهرجان كان ب شق بطيخة على هيئة حقيبة    تمنحهم رعاية شبه أسرية| حضن كبير للأيتام في «البيوت الصغيرة»    كسر محبس مياه فى منطقة كعابيش بفيصل وانقطاع الخدمة عن بعض المناطق    سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل |يمكنك الكتابة والقراءة    يوم الجمعة، تعرف على أهمية وفضل الجمعة في حياة المسلمين    شعبة الأدوية: التسعيرة الجبرية في مصر تعوق التصدير.. المستورد يلتزم بسعر بلد المنشأ    الصحة العالمية تحذر من حيل شركات التبغ لاستهداف الشباب.. ما القصة؟    بعد تثبيت الفائدة.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 24 مايو 2024    وفد قطري يزور اتحاد القبائل العربية لبحث التعاون المشترك    سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار البنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة    إخفاء وإتلاف أدلة، مفاجأة في تحقيقات تسمم العشرات بمطعم برجر شهير بالسعودية    "قمة اليد والدوري المصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 24-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة للتألق    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    في إطار تنامي التعاون.. «جاد»: زيادة عدد المنح الروسية لمصر إلى 310    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسيقى الحنان لا تتوقف
عن العزف
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 05 - 2015

أهلا يا أنا غريبة هى شمس باريس الشتائية، فهى تترك اللون الأزرق للنهار وتكتفى لنفسها باللون الرمادي.
تلك دهشتى الأولى حين نزلت من القطار إلى باريس ، فعاد إلى الذاكرة مشهد الإسكندرية حين رأيتها لأول مرة فى طفولتى لحظة عودتنا من قرية «إدكو» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. شمس الإسكندرية_ فى ذلك النهار القديم _ كانت مجرد سقف رمادى يغطى نهارا أزرق بلون أمواج البحر.سائق التاكسى الباريسى تعرف على شخصى كأجنبى ، فأخذ يلف ويدور حتى يتحرك العداد على هواه، إلى أن نبهته إلى أن المشوار لا يتكلف أكثر من سبعة فرنكات، فالعام هو 1963 واليوم هو الثامن عشر من ديسمبر ، وأنى لن أدفع أى زيادة ، فأخذ يدمدم بالرفض؛ فكيف أركب من محطة قطارات «جار دى ليون» إلى حى باريس السادس عشر، أرقى أحياء عاصمة النور ولا أدفع ما سوف يشير له العداد.
ولم أصغ لرفضه، وما أن وصلت إلى البيت رقم31 بشارع ليبك، حتى وقف السائق ليطالبنى بسبعة فرنكات زائدة عن الأجر الذى حددته وهو سبعة فرنكات ؛ فحقائبى سبعة والقانون يحدد له فرنك عن كل حقيبة ، نظرت إلى الحقائب مبتسما فمنها حقيبتان للأطعمة الجافة التى أعدتها أمى ، فضلا عن ملابس صوفية وضعتها خوفا من برد باريس ، لذلك دفعت له بعد أن أكدت كلماته سيدة عرفتنى على نفسها بأنها بوابة المنزل. سألتها عن الدور الذى فيه البنسيون الذى تقيم فيه الحبيبة ، فقالت الدور الرابع، وأضافت «لا تنزعج فلن تجد من تسأل عنها بانتظارك، لأنها خرجت من يومين ولم تعد، وهى قد أوصتنى بالاهتمام بك فور وصولك، وهى تركت تعليماتها لصاحبة البنسيون وابنتها إيلين».
ووقع قلبى فى أقدامى ، فأين تكون قد رحلت الحبيبة ؟ وهل بالإمكان أن مجازفتى بترك كل شيء بالقاهرة خلفي، وقفزت فوق أسوار من نيران لا يراها غيري، ثم أصل إلى باريس فلا أجدها هناك؟
كان المصعد الذى لايسع أكثر من شخصين يصعد إلى الدور الرابع حيث البنسيون الذى تقيم فيه من سافرت إليها ، فواقعى يؤكد لى حقيقة أنى حين أتنقل من بلد إلى آخر لا من أجل رؤية الأماكن الجديدة ، بل أنتقل دائما لرؤية كائن بشرى محدد، ولا يهمنى اسم البلد إلا كخلفية لحركة من أرغب فى لقاه ، فما بالى حين كانت شوارع القاهرة بأحجار حوائط منازلها تطاردنى بالتذكار ، حتى حركة البشر فيها تذكرنى بأى شيء حدث بينى وبين الحبيبة، ولعلى وحدى من يؤمن أن الله قد خلق الأرض والسماء والبلاد والبشر كى يكون أرضية أتذكر بها ومن حولها وفى أعماقها بما جرى ويجرى بين وبين من أحببت. وحين كانت تلك الجدران ترسم لى على أى منها ذكرى لقاء مع الحبيبة كانت أحداث حياتى تبدأ فى الدوران حول ما جرى بينى وبين من أحب حين سرنا بجانب هذا الحائط أو قفزت خطواتنا على أرضية ذلك الشارع ، وكيف كان قلبى _ بدون أى مبالغة_ يدق بتوتر أعرف آلامه حين يطل خيالها بدقة كعب حذائها على الأرض، وأكاد أن أصرخ «أين أنت؟»، وأنى كل صباح أهرع إلى مكتبى بروز اليوسف لأجد الصديقة والأخت نرمين القويسنى سكرتيرة الأستاذ إحسان عبد القدوس، وهى تبتسم فى وجهى إن كان البريد يحمل لى خطابا منها؟، تقول بأخوة حقيقية «سيصل منها خطاب فى أقرب وقت». وحين يصادفنى وجه الشاعر صلاح عبد الصبور، فهو يقول لى «ستجد ما تتمني، عليك فقط ألا تتنازل عن حقك فى الحصول عليه مهما كانت الصعاب». وحين أسهر فى «تراس فندق سميراميس» فى ضيافة الشاعر كامل الشناوي، فكان يصر على أن يحكى عن الحب وكيف أنه أعظم خديعة من الإنسان لنفسه، وأن فى باطن الحب كراهية مسكونة، فإذا ما حدث اقتراب شديد، واندماج مكتمل، فالكراهية تطفو ببعض مظاهرها كتعبير عن الحب. وكنت أسمع ذلك ولا ألمسه فى نفسي، لأن كل اقتراب وامتزاج بينى وبين من أحببت ، يولد منه شوق جديد. ولكن صديقى وأستاذى د. سعد جلال عالم النفس الكبير قدأكد لى صحة ما يقول به الشاعر كامل الشناوى . وذكرنى بضيقى من تأخر الحبيبة حين تعطينى ميعادا عند الساعة الواقعة أمام محطة سيدى جابر أثناء سنوات الدراسة ، وكان السبب الواضح هو عدم إذن والدتها لها بالخروج من بعد الظهر، وما أن تقول السبب حتى يذوب غضبى وضيقى ، لنبدأ رحلة إلى المكس حيث الكازينو الهادى الذى لو إستطاعت حوائطه المصنوعة من أعواد الغاب أن تحكى لقالت الكثير من الوعود والأحلام، وفى طريق العودة من المكس ؛ يأتى النزول من الأتوبيس وإيقاف أى عربة حنطور لتقطع المسافة من المنشية إلى ميامى ، مقابل ثلاثة جنيهات وهو مبلغ جسيم بحساب تلك الأيام، أما ما يدور طوال تلك الساعات فهى جمل أنطق نصفها لأسمع نصفها الآخر من الحبيبة. وما أن نصل إلى حى ميامى حتى ندخل إلى شارع خالد بن الوليد، لتدلف إلى فيلا صغيرة تبدو كبيت هاجر من أسبانيا إلى الإسكندرية، فلم يكن شارع خالد بن الوليد مثلما هو حاليا بضجيجه وفوضاه ، بل كان يشبه المنتجعات السكنية التى صارت تملأ مدن مصر الكبيرة. وحين أبحث أثناء عودتى إلى بيتى عن مضمون ما تكلمنا فيه، فأنا لا أجد معنى سوى أن موسيقى من الأصوات خرجت منها لتعانق موسيقى من الأصوات خرجت مني، فتألفت الأصوات دون أن يبقى فى الذاكرة سوى كلمة «أحبك» ولا ينطق أحدنا باحتياجه للآخر، لأن هالة الضوء التى تحيط بها تلامست مع هالة الضوء التى تحيط بي، وصارتا هالة واحدة ، كأنها رحم نولد منه بفرح دون أن أجد فيه ذرة من كراهية سواء تلك التى تحدث عنها د. سعد جلال أو سمعتها من الشاعر الذى لا ضفاف لحنانه كامل بك الشناوي، ولعله حامل لقب الباكوية الوحيد الذى لا يجرؤ اللسان على تجريده منه . أتذكر كلماتى لكامل الشناوى «حتى أمواج النيل الهادية التى تمور فى عيونى وعيونك لا تفعل ذلك سوى أن تنقل لى صور أشواقى لمن يهواها القلب، بل و صار التنفس عطشا لا يعرف الارتواء». ولعل كامل الشناوى قد أحس بصدق ما أقول فتدخل عند وزير الإرشاد عبد القادر حاتم ليحصل لى على إذن السفر إلى باريس.
و لا أحد يعلم صعوبة الخروج من القاهرة إلى الخارج فى زمن عبد الناصر الذى كان يدخر كل قرش من أجل التصنيع وبناء السد العالي، وتأكيد قيادة مصر للعالم الثالث فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فضلا عن رفرفة ريات الحلم به قائدا من المحيط إلى الخليج ، لكن ماذا عن عاشق ضربته دوامة يدور فيها فلا يعرف لنفسه فكاكا إلا بالسفر. وهاهى باريس تستقبلنى بنهارها الأزرق ومبانيها الشاهقة، وصاحبة البنسيون الفرنسية الذى تقيم فيه الحبيبة تستقبلنى بترحاب، لعلمها بمن أكون، وتطل من خلفها ابنتها إلين التى بدت لى كأنها الفتاة التى حكى لى عنها الفنان سيف وانلي، وأعطته قلبها، لكن قلبه كان يرى المرأة بيتا لاكتمال يرهبه هو شخصيا ، فقد حكمت حياته رحلة خوف من بناء أسرة قد يعجز عن الوفاء بالتزاماتها، فقد رأى بيع قصر الجد وحيرة الأب والدخول إلى دنيا طلب الرزق مع جنون حلمه هو وشقيقه أدهم فى مواصلة التعبير بالرسم والتصوير عما يعيشانه من آمال.
انتبهت إلى صوت صاحبة البنسيون وهى تقول لى «حضرت أنت إلى باريس بالبحر من أجل لقاء من تحب ، وهى قد سافرت إلى القاهرة بالطائرة لعلها تلحق بك قبل السفر؛ فقد جاءتها دعوة من مصر للطيران بمناسبة افتتاح خط طيران مصر باريس. وستظل ضيفا فى حجرتها إلى أن تعود بعد يومين لا أكثر. ومن بعد ذلك سنجد لك غرفة فى فندق قريب ، لأن البنسيون لا توجد به سوى غرفتان للإيجار ، واحدة لصديقة عمرك ، والثانية لراهبة أسبانية تعمل باحد المستشفيات القريبة.
لم أشأ الصراخ رفضا لتلك الميلودراما التى رأيتها رخيصة وغير لائقة بأن تحدث معي، وإبتسمت فى كمد لإطلالة فى خيالى تحمل صورة مخرج الميلودراما الكبير حسن الأمام، وكأن صورته قد جاءت إلى خيالى ليقول لى «تعيبون علينا الميلودراما والمبالغة.. فماذا عما تعانيه أنت الآن؟»
**
أيقنت أن عيون إلين ابنة صاحبة البنسيون معلقة بى كأنها تختبرنى ، فمن هو ذلك الشاب الذى قطع كل تلك المسافة من أجل امرأة . وقرأت فى عيونها ذلك الاندهاش وأنا أسمع دعوتها لى بأن ترينى باريس بعد أن أستريح قليلا .
وفى المصعد الذى لا يسع سوى إثنين من البشر على أكثر تقدير، اختلط فى أنفى عطرها الممتزج برائحة النبيذ الذى يمتزج بأنفاس من يحتسيه لأيام، فما بالك وأغلب سكان باريس يستخدمون النبيذ كبديل عن الماء. وقالت بصوت واضح «عجيب وجميل أن يكون لأى امرأة رجل يحبها مثلما حدثتنا الحبيبة عنك؛ فالباريسية هنا إن وجدت من يحبها وشعرت بتقارب معه فهى تتمسك به ككنز تخشى إفتقاده، وتدافع عنه ضد عيون الأخريات بكل الطرق». أقول «لابد أن الرجل الفرنسى يسعد بذلك تماما». قالت : «أنت لا تعلم أن عدد الرجال فى عمر الارتباط العاطفى قليل بالنسبة للنساء، فالحرب العالمية الثانية التى تلتها حرب فرنسا فى الهند الصينية، ثم حرب الجزائر، كل تلك الحروب أخذت آلافا من الرجال إلى الموت. وكأن رؤساء الدول حين يركعون أمام هيكل الكنيسة ، ويقولون داعين الرب «اعطنا خبزنا كفافا» إنما يطلبون نهرا من دماء الشباب. وأنت إن شاهدت ذلك الفيلم الإيطالى الذى يحكى قصة شاب صغير باحدى القرى يعمل فى فرن والده المقاتل الغائب فى الحرب .وما أن وصل الولد إلى البلوغ أثناء الحرب ؛ هنا أطلقت نساء القرية شهقات الفرح، فهو الرجل الوحيد الذى تركه موسيلينى دون تجنيد، واقتسمت رجولته نساء القرية، ثم قتلته النساء فور انتهاء الحرب وعودة عدد من الرجال إلى القرية.
ضحكت لما تقوله، لأرد «يبدو أن الجنرال ديجول عليه مهمة إستيراد رجال لمجابهة الاحتياج العاطفى للجنس الآخر».
وقطع حوارنا دخول السكرتير الأول للسفارة المصرية فى ذلك الوقت وهو صلاح بسيوني، فقابلنى بالأحضان، ليقول لى أن السفير جمال منصور فى انتظارك بمكتبه فور أن تسمح ظروفك بذلك .
كانت معرفتى بصلاح بسيونى قد بدأت منذ شهرين فى مكتب الكاتب يوسف السباعي، وكان يوسف السباعى يرى أنى مشروع كاتب نفسى هام، وكنت أقدره كشخصية إنسانية عالية القيمة فى محبة من يحبه، ويحاول أن يناطح نجيب محفوظ ككاتب روائي، لكن الهوة شاسعة بينه وبين نجيب محفوظ، لأن ثقافة نجيب محفوظ وعمق دراسته للفلسفة كانت أكبر من كل ممارسى الفن الروائى فى عصره. وكنت ألحظ أن يوسف السباعى قد دانت له الظروف لمجرد أنه كان ضابطا بسلاح الفرسان وكان زميلا لعبد الناصر فى الكلية الحربية ، وعانى من أن والده كان كاتبا يتكسب قوت أيامه من قلمه بينما له أشقاء مرقوا إلى دنيا الثراء. وظن يوسف السباعى بأن رواية «رد قلبي» قد جعلته الروائى المعبر عن الثورة ، تماما كما كانت مقالات الأسلحة الفاسدة بالإضافة إلى رواية «فى بيتنا رجل» هما تاج معرفة إحسان عبد القدوس بأسرار 23 يوليو ، وكان عبد الرحمن الشرقاوى يعيش فى جلباب روايته «الأرض» والتى تروى قصة الفلاح مع حلم الثورة ، ولم تثبت الرواية وجودها فى الوجدان إلا بعد أن صاغ السيناريو الخاص بها سيد البساطة ومكتشف أجيال من الكتاب والرسامين وهو العم حسن فؤاد مؤسس الشكل الفنى لمجلة صباح الخير ومكتشف صلاح جاهين.
أعود لصلاح بسيونى الذى ألتقانى أمام باب البنسيون ، مذكرا إياى بأنه تلقى رسالة من يوسف السباعى تطلب منه الاهتمام بى وأنه أخذ عنوانى من روز اليوسف.
وكانت عيون صلاح بسيونى قد تعلقت للحظة بإلين ابنة صاحبة البنسيون فقدمتها «إلين طالبة السربون . وهى من تطوعت لقيادة ساعاتى الأولى فى باريس». وكان صلاح بسيونى يعانى فى تلك الأيام من افتقاد زوجته التى رحلت بمرض غامض . وترك ابنه فى رعاية أسرة الراحلة بالقاهرة ، واشتاق للزواج . ولم يؤجل زواجه سوى اختياره كى يكون هو من يفتتح السفارة المصرية بباريس بعد أن عادت العلاقات بين مصر وفرنسا فور جلاء فرنسا عن الجزائر .
قدمت إلين نفسها لصلاح بسيونى كدارسة للتحليل النفسى بالسربون على يد أساتذة عظام . وتبادل معها بطاقات التعارف . ثم تركنا لنتجول فى الشارع الباريسى ، لأجد نفسى أمام شوارع شاهقة الاتساع ، لم أر لها مثيلا فى مصر ، فضلا عن ميدان متسع يعلوه جدار من رخام عليه أسماء كثيرة . أتساءل عن تلك الأسماء ، فتقول إلين «إنها أسماء المقاتلين الذين ضحوا بأرواحهم فى سبيل فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولي». وأجد قدرا من الحدائق الشاسعة أسفل هذا الميدان «ميدان تروكادرو»، ويقف فى وسط الحدائق برج إيفل ، وتتوقف عيونى أمام اسم الشارع الذى نخطو إليه «شارع كليبر»، فأقول «قتلناه فى القاهرة أثناء خلافته لنابليون فى قيادة الحملة الفرنسية ، وهاهو يخلد هنا فى باريس باسم شارع أساسى ورئيسي» لقد قتله سليمان الحلبى الطالب، بألأزهر انتقاما لعشرات المئات ممن إستباحت الحملة الفرنسية دماءهم.
قالت إلين: ولماذا تذكر القتلى من المصريين أبناء التمرد ضد الحملة الفرنسية، ولا تذكر أن الحملة الفرنسية أعطت مصر فكرة عن إمكانتها بعد سنوات من الركود الغبى فى إطار الإمبراطورية العثمانية ؟
أقول: ليس فى حياتى أو حياتك وقت للحساب على ما مضي، وإن كنت أذكر للحملة الفرنسية كتاب وصف مصر، وكيف نبهنا وجود نابليون إلى قيمة المطبعة والقانون والعلم، فدخول المطبعة هو المحك العملى لحركة العقل المصري، ومحاولته لوضع القانون فى إطار أرضى بدلا من أن يدعى أحد ملكية الحكم على عباد الله فى ضوء فهمه هو لأحكام الدين، وأن العمل العلمى لابد له من مكان، ويكفى أن القلم الرصاص قد تم تصميمه بواسطة أحد علماء تلك الحملة ، وبقى القلم الرصاص خالدا ، ومستخدما فى الرسوم الهندسية وفى كتابة أحكام القضاء؛ وقبل وبعد ذلك فى رسم اسكتشات اللوحات التى يرسمها الفنانون كبيرهم وصغيرهم .
ولذلك دعينى أقول أن الحساب الختامى للحملة الفرنسية هو قدرة المصريين على تذويب الأجانب الغزاة فى معدتها، وعن نفسى فأنا لا أنسى كيف أذابت مصر الفرعونية الهكسوس، وقام الملك أحمس بتطوير الجيش بسلاح أخذ فكرته من الهكسوس هو «العجلة الحربية»، فقام بتصنيع عربة أكثر فاعلية لحمل المقاتل وأكثر سرعة لذلك هزم الهكسوس .
سألتنى إلين : ألا ترى أنك متحمس لبلدك أكثر من اللازم ؟
أجبت: وأنت ألا تتحمسين لفرنسا بنفس الطريقة ؟
قالت: ليس بالضبط ، فقد سرت فى المظاهرات رفضا لاستمرار احتلال فرنسا للجزائر.
أقول: مصر لم تملك رفاهية إحتلال بلد آخر فى تاريخها الحديث ، فنحن قد خرجنا منذ سنوات قليلة من إحتلال إنجلترا لنا، كما أن أوروبا كلها تعوم فوق ثروات منهوبة من قارات ثلاث. ونحن نحاول تخليص جزء من حقوقنا من بين أنياب الاستعمار الجديد، لعلنا نستطيع تقديم حياة مقبولة.
قالت: على كل حال يمكننا أن نختلف كثيرا أثناء النقاش. ولكن دعنى أهمس فى أذنك أنك عربي، أى واحد من المعجبين بغير حد بجمال برجيت باردو، وهذا هو بيتها.
أضحك قائلا: من قال لك أنى أحب هذه الممثلة ؟ أنا لا توجد لى ممثلة مفضلة، بل يوجد فيلم جيد أو فيلم غير جيد.
قالت: لا تنسى أن القائم بأعمال السفير بانتظارك.
**
لم يكن من السهل قضاء قرابة الأربعة وعشرين ساعة بالقطار من فينسيا إلى باريس ثم مفاجأة الميليو دراما المصرية بسفر الحبيبة إلى القاهرة، بينما كنت فى طريقى إليها بباريس لذلك قلت لإلين «من حقى أن أنام قليلا بعد الاتصال التيلفونى بالقائم بألأعمال.
قالت إلين: أظن أنك ستعرف الطريق إلى البنسيون دون معاونة مني، فأنت فى شارع كليبير ، وحين تجد نفسك أمام ميدان التروكادرو اتجه يسارا تجد شارعنا.
أثناء محاولة النوم فى نفس سرير الحبيبة التى غادرت إلى القاهرة ، هجم خاطر غريب هو «هل التقطت مشاعرها تلك الخيانة الطارئة التى حدثت فى أثينا ؟ أم أن القدر أراد أن ينتقم منى بإثبات أنى غير قادر على تحقيق أى هدف ما دمت قد أصررت عليه ؟
أكاد أشك أن القرارات والأفكار والسلوك وكل ما يصدر عن الإنسان إنما هو مسجل فى الهالة الضوئية التى تحيط بأى منا . وتقوم تلك الهالة بالتواصل مع الكون كله ، بأفراده وأشيائه .
ولأن هذا الأمر هو مجرد شكوك فى أعماقى فلماذا لا أنام وأصحو لأزور السفير جمال منصور فى الغد.
**
الاتصال التليفونى فى باريس عجيب فكل تليفوناتها فى ذلك العام 1963 لها سماعتين ، واحدة تتكلم وتسمع صوت من تتحدث معه ، ثم سماعة مفردة تسمع منها فقط ، وحين سألت صاحبة البنسيون عن السر فى وجود سماعتان لكل هاتف، ضحكت وهى تقول « لعله رجاء أنثوى لمصمم عدد التيلفون كى تتنصت المرأة أثناء حديث صديقها أو زوجها بالتليفون ، أو لعل ابنا غائبا ويختلف مع أسرته وتحدثه أمه من وراء أبيه لتعقد بينهما صلحا ، كى تعود المياه العائلية إلى نهرها الطبيعي».
فى النوم المتقطع رأيت التوهج المبهج الذى عشته فى أثينا يطل على أحلامى ، وكانت الإيطالية التى قضيت معها ذلك الليل تقول لى فى حلمى «ليس من حقك الرحيل دون أن تترك لى عنوانك» اندهشت لان كلينا ترك الآخر دون عنوان.
قالت إلين « لقد وعدت حبيبتك أن أدعوك إلى المسرح، واختارت هى لك مسرحية «الزفاف الدامى للوركا»، والتى تعرضها باريس منذ عام1953 وحتى الآن، ومسرحية يتم عرضها لعشر سنوات لابد وأن تكون رائعة. وبما أنك عربى فلابد أنك مشتاق إلى أيام الأندلس، لأن لوركا مؤلف المسرحية هو الشاعر العظيم المقتول فى الحرب الأهلية وهو من كان يفخر بجذوره العربية».
أقول: يبدو أن شمسك العاطفية قد قررت الإشراق فى أيام انتظارى للحبيبة ، ولكنى سألبى دعوة السفير جمال منصور لتقديم واجب التحية، فقد كان أول من سأل عنى كقائد لأرض مصرية بباريس .
قالت :أنت تستخدم كلمات ذات دلالات شرسة، فعندما تقول لفتاة فى الرابعة والعشرين «إن شمسك العاطفية قررت الإشراق» ففى هذا القول نداء مستتر لحوار بين أنوثة ورجولة، ورجولتك هنا فى هذا البنسيون مقصورة على صديقتك التى أوصتنا عليك.
ضحكت قائلا : أقسم بالله العظيم أنى أصلى للسماء من أجل أن تدفئنى بشمس عاطفية وحيدة ، وهذه الشمس سافرت إلى القاهرة بحثا عنى وجئت إلى باريس بحثا عنها، وفى ذلك نوع شرس من حوار الميلودراما مع أحداث حياتى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.