البنك المركزي المصري يبحث مع «التصدير والاستيراد» السعودي سبل تعزيز التجارة البينية    الحكومة تبحث التوسع في برامج الحماية التأمينية والصحية للعمالة غير المنتظمة    مجلس النواب الأمريكي يعتزم فرض عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية بسبب الموقف من إسرائيل    بعد قرار محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية في رفح.. ما ردود الأفعال في إسرائيل؟    جوارديولا: كتابة التاريخ أمام يونايتد هو حافز إضافي    عاجل:جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 للشعبتين علمي وأدبي.. كل ما تريد معرفته    الترقب لعيد الأضحى المبارك: البحث عن الأيام المتبقية    هشام ماجد ينشر صورة من كواليس فيلمه الجديد إكس مراتي    بعد تلقيه الكيماوي.. محمد عبده يوجه رسالة لجمهوره    ضبط قضايا اتجار بالعملات الأجنبية بقيمة 11 مليون جنيه في 24 ساعة    فيلم رفعت عيني للسما يفوز بجائزة العين الذهبية بمهرجان كان    بري يؤكد تمسك لبنان بالقرار الأممي 1701 وحقه في الدفاع عن أرضه    مبابي يختتم مسيرته مع باريس سان جيرمان في نهائي كأس فرنسا    قرار عاجل من جوميز قبل مواجهة الاتحاد السكندري في الدوري    أبرز رسائل التهنئة بعيد الأضحى 2024    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    وزير الصحة يكلف هيثم الشنهاب بتسيير أعمال مديرية الصحة والسكان بجنوب سيناء    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    مجلس الشيوخ يناقش أموال الوقف ونقص الأئمة والخطباء ومقيمي الشعائر.. الأحد    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    مصرع وإصابة 3 أشخاص في الشرقية    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    بوليتيكو: واشنطن تدرس القيام بدور بارز في غزة بعد الحرب    مراسل "القاهرة الإخبارية": تجدد الاشتباكات بين الاحتلال والمقاومة برفح الفلسطينية    التعليم العالي: جهود مكثفة لتقديم تدريبات عملية لطلاب الجامعات بالمراكز البحثية    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    بفستان مستوحى من «شال المقاومة».. بيلا حديد تدعم القضية الفلسطينية في «كان» (صور)    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام أنشطة كلية التربية الرياضية    قافلة الواعظات بالقليوبية: ديننا الحنيف قائم على التيسير ورفع الحرج    من صفات المتقين.. المفتي: الشريعة قائمة على الرحمة والسماحة (تفاصيل)    محمد صلاح يستعد لمعسكر المنتخب ب «حلق شعره»    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    فنلندا: روسيا ربما تختبرنا من خلال خطة ترسيم حدودها    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 في الأبقار.. تحذيرات وتحديات    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن منطقة هضبة الأهرام مساء اليوم    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    أول جمعة بعد الإعدادية.. الحياة تدب في شواطئ عروس البحر المتوسط- صور    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    "العد التنازلي".. تاريخ عيد الاضحي 2024 في السعودية وموعد يوم عرفة 1445    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    في هذه الحالة احذر تناول البيض- خطر خفي على صحتك    الإسكان تتابع جهود قطاع المرافق لتعظيم الاستفادة من الحماة المنتجة من محطات معالجة الصرف الصحي    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    مران صباحي ل«سلة الأهلي» قبل مواجهة الفتح المغربي في بطولة ال«BAL»    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على محاور القاهرة والجيزة    "التروسيكل وقع في المخر".. 9 مصابين إثر حادث بالصف    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قريتي الظافر وأبو ميلاد    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    ألمانيا تعلن اعتقالها نتنياهو في هذه الحالة    البلتاجي: لا وجود لركلات الجزاء في مباراة الزمالك ومودرن فيوتشر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة فى دفتر أحوال العشق الطارئ
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2014


أهلا يا أنا
« الحب ببساطة هو بوابة الجنون التي تمنحنا قدرة إحتمال سخافات مدمني توزيع القهر والظلم على عموم عشاق الحياة »
ما أن يطل سبتمبر حتى أخلع عني زهق أيام الصيف، لأستلقي على شاطئ البحر وأقرأ المكتوب في بطن كل موجة من الأمواج المتلاحقة، حيث تحكي الكلمات عبر موسيقى التتابع ما جرى في أيام العمر.
وتتقلب أحلام النقاء المتأرجحة مع وقائع إفتقاد البراءة؛ فتعلو الموجة لأقرأ في بطنها الأزرق تذكارتي ، وأشهد في بطنها الأزرق المؤطر بحدودها البيضاء وجوه من أحببت.
وهاهو بطن موجة يصور لي محطة قطار «جاردنور» المزدحمة دائما بالمسافرين من باريس إلى خارجها ، وجهتي هي مدينة «بربينون» على الحدود الفرنسية الأسبانية ، وكما هي العادة رأيت خيالي وهو يقدم بضعة سحابات بيضاء كأنها قطع قماش مهمتها إزالة الغبار عن الشمس ، فيزداد ضوء الشمس وضوحا ، ويتألق الصفاء؛ ليسبح قلبي في فرح مزدحم بالشجن، لأن القطار يتحرك إلى مأوى جارثيا لوركا الشاعر الذي أحببته وقادني إلى أشعاره إثنان يجيدان شجن الأمل الصاعد ، وأولهما هو سيد الشجن الحزين صلاح عبد الصبور ، الذي كنت أول من استمع إلى أبيات قصيدته في خريف 1959 ، حين دخل صباحا إلى مبنى روز اليوسف المتهالك ، ليقرأ لي قصيدته :
« هذا زمان الحق الضائع
لايعرف مقتول من قاتله
فرؤوس الحيوانات على جثث الناس
ورءوس الناس على جثث الحيوانات
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك .
والشاعر الآخر هو عبد الرحمن الأبنودي هذا الفرع لعود ورد بلدي خرج من قلب قنا ليهدينا خلاصة الشجن المشحون بالأمل القادر على قهر الأسى ، ليجلس بجانبي مرتلا :
أنا كل ما أقول التوبة .. ترميني المقادير . وحشاني عيونه السودة ومدوبني الحنين .
تختلط كلماته بأغنية بصوت شادية « آه يا أسمراني اللون حبيبي الأسمراني « ، ليقفز بيت شعر أهداه لي بمقدمة يقول فيها :إلى م. ع. الذي يعانق القوة في قاع الضعف»، وليوجز فترة من أيام العمر بالقول «سهلة الإدانة على اللي مش قد السكك » ، كان عبد الرحمن يعلم أني أكره المشاركة في دوامات الرغي السياسي ، ويعلم أني أقدس دوران أيامه كأنه محراث بشري في صعيد مصر لا بحثا عن أغانيه ، فكلها مخزونة في قلبه، ولكن بحثا عن جذور السيرة الهلالية ، وكنت أهتز بعشق خلاب لغناء محمد رشدي الذي يقلب أيام عمري بحثا بيت صغير يسع أحلام العمر « بيتنا الصغير الأخضراني .. أبو الستاير برتقاني «.
أما وفائي للوركا المعشوق منا صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الأبنودي وأنا ، فقد أوجزت هذا العشق في العشرين يوما التي سرت فيها كل مساء باريسي لمشاهدة مسرحيته « الزفاف الدامي » ، حيث كنت أمضي من الحي السادس عشر حيث أسكن في أفقر فندق بحي الأثرياء الباريسي « فندق فلوريد » بشارع « قديس الرب »لأ صل إلى المسرح الواقع أسفل هضمة مونماتر، وتأتي معي أغلب الأحيان جارتي فيرجينا ، الأمريكية البيضاء ذات الأنوثة الوارفة والتي اكتشفت في رجولة مدرس أفريقي طاقة عشق لا نهاية لها ، فغادر الاثنان الولايات المتحدة ليعيشا في باريس ، وليمارس ميشيل الأسود تعليم قيادة السيارات ولتحيا فرجينيا على صناعة البلوفرات الصوف ، و تبيعها بأثمان مرتفعة لأن الغزل اليدوي في باريس له سعر يفوق الملابس الجاهزة . وبطبيعة الزمن لم يكن لأمريكية بيضاء عام 1965 أن تعشق زنجيا ، فالبيض يتأففون من السود ، والسود ينظرون إلى البيض كأنهم آلهة ، فكيف جمع الحب بين غادة بيضاء وعاشق أسود؟
وكنا حين ندلف إلى المسرح نجد لافتة تذكرنا بأن خلفنا ثماني سنوات على تلك الفرقة التي تعرض مسرحية» الزفاف الدامي» بممثلين وممثلات أسبان ، جاءوا إلى باريس هربا من القاتل فرانكو، هذا الذي هزم فكرة الجمهورية وتعاون مع هتلر وموسيليني وإمبراطور اليابان لقتل حق التعبير ، وبعد نهاية الحرب العالمية احتفظت به الولايات المتحدة على رأس حكم أسبانيا ليبدو كمنظار لها على أفريقيا وأمريكا اللاتينية المتحدثة بالأسبانية.
قصة الزفاف الدامي تبدأ حين تنضج أنوثة عذراء؛ فيتم عرضها في سوق الزواج ، ليأتي العريس بقواعد العقل وعلم الحساب ، كم يملك ؟ هل سيحسن معاملتها ؟ . وتقيس أسرة العريس حسب ونسب العروسة، وهل صحتها قادرة على إنجاب أحفاد ؟
في سوق الزواج هناك دراسات مبدئية لها علاقة بالمال والمكانة وليس لها علاقة بحديث القلب . تنظر والدة العريس الطيب زارع القمح في جسد العروس لتراها مهرة سيقفز بها ابنها فوق حواجز الزمن بمزيد من الإنجاب ، وليستمر خلود العائلة .
وأثناء رحلة دفع العروس إلى بيت الزوجية ، يقع هذا الحادث الغريب ، حين تلتقي عيونها بعيون فارس يتنقل على صهوة حصانه باحثا عن خلاص من سجن قضبانه غير مرئية ، فقد سبق أن ساقوه قديما ليضعوه على نفس ميزان الثروة والمكانة وأقنعوه بالزواج من امرأة ملول ، تهبه بعد تسعة أشهر ابنا سيتم سوقه ذات يوم مستقبلي إلى نفس المصير . لكن ما أن تلتقي عيون الفارس بعيون العروس حتى تمتد بينهما كهرباء التواصل التي لم يعرف العلم حتى كتابة سطوري تلك فهما لها . قيل لي عبر سنوات كثيرة أن أسباب ميلاد الحب بجاذبية لا نهائية هو أمر غير معروف. وأقسم أني حضرت أنا كاتب السطور عشرات المؤترات العلمية التي ناقشت ميلاد الحب ، وكنت أسمع وأشهد وأنقل وأكتب ، لكن تظل لكل قصة حب قانونها الخاص .
الآن وأنا راقد على رمال الشاطئ ووجهي يتابع ما أقرأ في بطن الأمواج ، تنفجر مشاهد قصة الحب في مسرحية الزفاف الدامي للشاعر جارثيا لوركا، فأصدق فقط أن العاشقة والعاشق وجدا نفسيهما أمام حقيقة هي ضرورة أن يعيشا معا ليذوب أي منهما في الآخر . فتهرب العروس بثوب الزفاف ليعيش العاشقان عناقا لا يفصل بينهما سوى سكين الزوج الذي قبل منطق الصفقة ووزنتها له أمه كأداة لميلاد أطفال . ولم ينتبه هو إلى أن العشق الطارئ هو من قلب اللعبة ، فقد أجبرتها أنوثتها على السفر للإرتواء من فيضان هذا النهر الشرس.
تلعن أم العريس كل سكاكين الأرض التي يتقاتل بها الشباب صراعا على الحب ، وتلعن مربية العروس كل تقاليد لا تضع في الاعتبار حق المرأة في أن تكون عاشقة.
................
ما عشته في مدينة بيربينيون الفرنسية أستعيد رؤيته في بطن موجة أخرى .
كنت أفكر في عاشق أسبانيا المولود في تشيلي . بابلو نيرودا الذي عاش عذابات القرن العشرين وأشواق إقامة العدل ، واكتشف موهبته أثناء دراسته الجامعية ، وكيف بدأ مشوار عمره بحثا عن تجربة تتحول إلى قصيدة .
قرأت في العام الماضي مذكراته التي أنقذتني سطورها من غباء التوتر الصاعق الذي أعيشه كواحد من سكان القاهرة . فرحت بما عرفته من تفاصيل عمره حيث قابل كل من أحببتهم من شعراء وفنانين .
اكتشف حقيقة أنه شاعر من تجربة حب ، ولعل الموهوب في هضم اللغة الأسبانية ماهر البطوطي قد كشف لنا عبر ترجمته لدوانين من أشعار نيرودا الكثير عن صدق الشاعر الذي رأى في جسد المرأة لحظة العطاء قمة الروحانية ، وأن جسد الرجل أثناء الحب هو فراشة تحمل روحه إلى الجنة . ولعل أهل أمريكا اللاتينية ومنهم نيرودا يعتبرون الحب هو بوابة الجنون التي تمنحنا محبة الحياة والقدرة على تحمل ركاكة الحادث على مسرح توزيع الأطماع بين الأقوياء الذين لا يشبعون من إستنزاف الغير ، وبين عجز أهل الشوق إلى العدل عن التأثير على ساحة السياسة ، فتشيلي المولود فيها نيرودا هي موطن النحاس والبارود ، وكلاهما يخضع لشركات أمريكية ، وكما سبق ومارست قهر وقتل الهنود الحمر ، هاهي قد ورثت لعبة استنزاف شعوب أمريكا الجنوبية ، فباعت فكرة الديمقراطية في سوق النخاسة ، حيث تلعب الكلمات دور البريق على أفواه اللصوص ، لتسرق قلة أعوام ومستقبل فقراء بلا حصر. ويتعرف الشاعر على حقائق استنزاف بلاده أثناء الدارسة الجامعية.
أما كيف يمكن احتمال الحياة تحت القهر، فذلك له طريق السياسة ومحاولة تغيير الواقع بالثورة . وفي الطريق إلى الثورة يتم إلقاء بالونات تبدو عذراء ، لكن كل بالونة منها هي عاهرة محترفة ، وأكبر بالونات القرن العشرين هي بالونة الديمقراطية الشكلية والتي تخفي وراءها ديكتاتور يعمل مندوبا عند سادة لا نراهم ، ولا يسأل واحد من تلك الأصوات الزاعقة بنداءات الديموقراطية عن كيفية حصول الجائع العاري الذي لا مأوى له على حقه في تعليم وصحة ورقي اقتصادي . وكان عالم النفس المصري صلاح مخيمر قد أعلن أمام مؤتمر مصري لمناقشة المستقبل « إن الحرية والديمقراطية هما أكثر الكلمات التي تعرضت للتدعير في القرن العشرين « وكان الرجل على حق ، وهو ما اكتشفه نيرودا عبر مسيرة التعلم واقتحام الحياة بعيدا عن الأسرة ، فيذهب ذات مساء لرؤية أناس يغوصون في العمل ليل نهار في مزارع الغير ليحصد الثري دولاراته . وعندما يصيب الإرهاق الجميع ينام الشباب فوق أكوم التبن ، فتأتي مليحة ترغب في الحياة لتجرب عناق نيرودا . وتهبه لحظات من سفر إلى إطمئنان شديد الخصب .
وأثناء وجوده بحثا عن مستقبله في عاصمة بلاده يسكن مع الجوع والفاقة داخل جماعة من الحالمين الذين ركبهم عفريت البحث عن تغيير الكون بالشعر . ويتعرف على أرملة لكاتب كان سيصبح مشهورا ، وكانت الأرملة أيضا كاتبة . ولأن الموت بمرور الوقت يدفع الأنوثة والرجولة إلى البحث عن استمرار الحياة ، لذلك لم يصمد نيرودا أمام غواية التجربة . لكنه يهرب لأن الجوع والفاقة في حياة شاب يمكن أن يسيرا به إلى نوع من مرض الرئة وكان واحدا من أشهر أسباب الموت المبكر حتى منتصف القرن العشرين ، ويعترف نيرودا أن طيف فيضان أنوثتها لا يغادره . أضحك حين واصلت لقراءة تجربة نيرودا متذكرا ما قالته جدتي لأبى وكانت فلاحة شديدة المراس قوية الشكيمة تحكم زوجها المزواج فتجعله يدور حول نفسه ، حتى بعد أن كذب عليها وادعى في أوائل القرن العشرين أنه اشترى جارية من أرتيريا كي يستعيد حيويته ، فألزمتها عدم الإقتراب منه إلا لخدمته كعاملة في البيت . أضحك لقول عمتي عن النساء بعد إنقضاء ليالي العزاء في أي فقيد ، كانت العمة تحكي عن أن العائدات من المقابر ينطلق في داخل أي منهن عفريت الرغبة في التواصل ، وكأن مهمة الأنوثة أن تقاوم الموت بإعادة الميلاد . كانت العمة تقول ذلك تعليقا على ما حدث من خياطة القرية التي مات زوجها منذ أربعة شهور ونصف، وفوجئ أهل القرية بان الخياطة ذهبت إلى مأذون القرية وهي تصحب في يدها خطيب إبنتها لا ليعقد قرانه على ابنتها ، ولكن لتتزوجه هى ، لتصاب الابنة بالجنون ، ويدورون بها على الموالد والمشايخ والأضرحة بلا طائل . إلى أن تقوم الخياطة ذات صباح فلا تجد الزوج الشاب ولا الإبنة التي قيل أنها ممسوسة . ومازالت الخياطة حتى بعد مرور عشرين عاما على هذا الحادث وهي تبحث عن الإبنة والزوج إلى أن عاد أحدهم من العراق ليؤكد للخياطة أن ابنتها والزوج قد قتلا أثناء اجتياح بغداد .
................
وتأتي موجة بحر أخرى لأقرأ في بطنها كيف حملني الصيف اشتعل بحرارة مايو قديم أهوج ، وزادت حرارته بفعل الشوق إلى الحلوة المكتملة التي قامت باختراق قلبي لتعيد تشكيله على هيئة ملامحها .
ولأرى بعيون الخيال ماحدث حين دق التليفون في البنسيون القاهري الذي كنت أقيم فيه لأجد صوت سكرتير السيد «أحمد فؤاد» المدني الوحيد في تنظيم الضباط الأحرار ، وهو من أوكل له جمال عبد الناصر رئاسة «بنك مصر» ومؤسسة» روز اليوسف في الزمن القديم ،» . طلب مني السكرتير الإسراع للقاء أحمد فؤاد. أسرعت لأجد الرجل يستقبلني بجملة واحدة : من حقك أن تختار طريقة الشكر المناسبة على نشرك لمذكرات الفنان سيف وانلي على صفحات روز اليوسف ؛ فقد أجدت التعبير عن هذا الرسام المصور الذي لم يحصل إلا على الشهادة الإبتدائية وعلم نفسه بنفسه الإنجليزية والفرنسية فضلا عن اتقانه لموهبة رسم لوحات على غير مثال من فرط ارتباطها بالموسيقى . قلت بسرعة : ليست هناك طريقة للشكر أفضل من تذكرة طائرة ذهاب وعودة إلى باريس ، وثمنها هو أربعة وثمانون جنيها فقط لا غير .
ضحك الرجل وأشرف بنفسه على استخراج تذكرة السفر واستئذان مكتب الرئيس عبد الناصر كي أحصل على تأشيرة خروج ، ففي ذلك الزمن لم يكن يكفي أن تحصل على تأشيرة دخول إلى البلد الذي تسافر إليه ، بل لابد من تأشيرة خروج من مصر .
ولن أنسى أبدا ملامح رجل الشرطة الذي كان مسئولا عن مكافحة التنظيمات اليسارية في مصر ، وأتذكر أن اسمه « حسن المصيلحي » ، وكان عبد الناصر قد نقله إلى مصلحة الجوازات ، وهو من أمسك بجواز سفري، وهو يكرر لعناته لكل رموز اليسار المصري ، واتصل تليفونيا بجهة لا أعلمها ، ليتلقى منها الأمر بضرورة ختم جواز سفري بتأشيرة الخروج . وقال لي يومها « هذه أيام أهل اليسار . مبروك لك ، على الرغم من علمي أنك لا تنتمي إلى أي تنظيم ، لكنك بشكل أو بآخر متعاطف مع اليساريين » . قلت بجدية شديدة: وهل تتوقع من أي كاتب أن يكون متعاطفا مع الأمريكان الذين يقومون بإذلالنا ، مرة برفض تمويل السد العالي ، وثانية بتأييد إسرائيل عمال على بطال ؟ ثم أنا ذاهب إلى باريس من أجل .. « ولم يتركني الرجل لأكمل كلماتي ، بل قال « هي مكافأة لك طلبتها بنفسك من رئيس مجلس إدارتك لتعيش كما تهوى ، ولا تنسى رؤية أهل اليسار في باريس لتري هزائمهم ، قلت سينتصر العدل في زمن قادم . قال الرجل : سيحدث هذا في المشمش . وضحكت قائلا « سيكون هناك موسم لمشمش يأكله أهل اليمين ، وموسم مشمش آخر سيأكله أهل اليسار . قال الرجل المقهور: لا تنسى البحث عن كتابات مجانين يتوهمون بقدرتهم على هزيمة أمريكا ، لكنها ستهزمهم جميعا «.. قررت أن أغيظه : فقلت المفكر اليساري شهدي عطية رغم موته على أيدي زملائك إلا أنه أعطانا كتابا يشرح حقيقة أن جيلك لا مكان في مستقبل هذا البلد. ورد على قولي سوى بسباب أهل اليسار وروز اليوسف بأجمعها . وللأسف لم يعش الرجل ليرى كيف قتل كسينجر الأمريكي ،سلفادور ألليندي الذي قام بتأميم شركات إستخراج النحاس في تشيلي ، وكان الليندي هو من وصل إلى قمة الحكم بالديمقراطية الفعلية ، ولم يعش المقهور رجل الأمن ليرى كيف أنقذت تشيلي نفسها من جديد ، صحيح أن نيرودا مات ولكن أشعاره التي قدست الحرية مازالت ترفرف في سماوات أمريكا اللاتينية .
................
رأيت زهورا عارمة الجمال تنمو في بطن موجة أخرى قادمة إلى البحر الذي أرقد على شاطئه وقلت «آآآه « لتذكاراتي التي لا تمل من عزف موسيقها في خيالي ؛ وأسمع دقات قلبي كأنها فراشات الحلم بميلاد كون جديد غير مرتبك كالكون الذي نحياه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.