وزارة الأمن الداخلي الأمريكية: هجوم مسلح على دورية شرطة في شيكاغو    «مش عايزين نفسيات ووجع قلب».. رضا عبدالعال يشن هجومًا لاذعًا على ثنائي الزمالك    إعلام فلسطينى: طيران الاحتلال يشن عدة غارات على مناطق مختلفة من مدينة غزة    في اليوم العالمي للصيادلة.. نائب محافظ سوهاج ووكيل وزارة الصحة يكرمان قيادات مديرية الصحة والمتفوقين من أبناء الصيادلة    انهيار جزئي لأحد المنازل القديمة أثناء تنفيذ قرار الإزالة بشارع مولد النبي بالزقازيق .. والمحافظ ينتقل للموقع    أسعار الحديد فى الشرقية اليوم الأحد 5102025    سعر الدولار أمام الجنيه المصري بمحافظة الشرقية اليوم الأح 5أكتوبر 2025    «تهدد حياة الملايين».. عباس شراقي: سد النهضة «قنبلة نووية» مائية على وشك الانفجار    9 أيام إجازة في شهر أكتوبر 2025 للطلاب والقطاعين العام والخاص.. موعد اَخر عطلة رسمية في العام    حماس: إسرائيل قتلت 70 شخصا رغم زعمها تقليص العمليات العسكرية    ترامب: وقف إطلاق النار في غزة سيتم بالتزامن مع تبادل الأسرى والمحتجزين    بعد 12 عامًا من الهروب.. ما تفاصيل تسليم فضل شاكر نفسه للجيش اللبناني؟    إعلام إسرائيلى يكشف أعضاء فريق التفاوض    ارتفاع كبير في عيار 21 بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد محليًا وعالميًا    ألونسو يكشف حالة مبابي وماستانتونو    أحمد شوبير يكشف مفاجات مهمة عن انتخابات الأهلي.. الكيميا بتاعت حسام غالي مظبطتش مع الخطيب    خسارة المغرب تقلص حظوظ مصر في التأهل لثمن نهائي كأس العالم للشباب    وليد صلاح الدين: ملف المدير الفنى الجديد تحت الدراسة.. ولا توجد ترضيات للاعبين    مصر تشارك بفريق ناشئين متميز في بطولة العالم للشطرنج 2025 بألبانيا    اسعار اللحوم اليوم الأحد 5 اكتوبر 2025 بمحلات الجزارة فى المنيا    «الداخلية» تكشف حقيقة فيديو «اعتداء ضابط على بائع متجول» بالإسكندرية    تشييع جثامين 4 ضحايا من شباب بهبشين ببنى سويف فى حادث الأوسطي (صور)    لسرقة قرطها الذهبى.. «الداخلية» تكشف حقيقة محاولة اختطاف طفلة بالقليوبية    أبواب جديدة ستفتح لك.. حظ برج الدلو اليوم 5 أكتوبر    نجل فضل شاكر ينشر صورة لوالده بعد الكشف عن تسليم نفسه    تكريمات وذكريات النجوم في مهرجان الإسكندرية السينمائي    اعرف تردد مشاهدة "قيامة عثمان" بجودة HD عبر هذه القناة العربية    بعد 20 عامًا على عرضه.. المخرجة شيرين عادل تحتفل بمسلسل «سارة» ل حنان ترك (صور)    مهرجان روتردام للفيلم العربى يقاطع إسرائيل ثقافيا تضامنا مع فلسطين    الفيلم المصرى ضى يفوز بالجائزة الكبرى فى مهرجان الفيلم المغاربى فى وجدة    عمرو سعد يستعد لتصوير «عباس الريس» في ألمانيا    مواقيت الصلاة اليوم الأحد 5-10-2025 في محافظة الشرقية    أذكار النوم اليومية: كيف تحمي المسلم وتمنحه السكينة النفسية والجسدية    رمضان 2026.. تعرف على موعد حلول الشهر الكريم وعدد أيامه    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الاحد 5102025    لعلاج نزلات البرد.. حلول طبيعية من مكونات متوفرة في مطبخك    أعراض متحور كورونا «نيمبوس» بعد تحذير وزارة الصحة: انتشاره سريع ويسبب آلامًا في الحلق أشبه ب«موس الحلاقة»    بمكونين بس.. مشروب واحد قبل النوم يزيد حرق الدهون ويحسن جودة النوم    لا مزيد من الروائح الكريهة.. خطوات تنظيف البط من الريش والدهون    بدر عبد العاطي وحديث ودي حول وقف الحرب في غزة وانتخابات اليونسكو    ضربة جديدة لحرية الرأي والبحث العلمي ..دلالات الحكم على الخبير الاقتصادى عبد الخالق فاروق    مصرع طفل وإصابة شخصين في حادث دراجة نارية بالفرافرة    اندلاع حريق في «معرض» بعقار سكني في شبرا الخيمة بالقليوبية    المؤتمر: اتحاد الأحزاب تحت راية واحدة قوة جديدة للجمهورية الجديدة    دراسة حديثة: القهوة درع واق ومُرمم لصحة الكبد    مصرع 3 عناصر إجرامية شديدة الخطورة خلال مداهمة وكرهم ببني سويف    صادر له قرار هدم منذ 53 عامًا.. انهيار جزئي لعقار في جمرك الإسكندرية دون خسائر بشرية    ضحايا فيضان المنوفية: ندفع 10 آلاف جنيه إيجارًا للفدان.. ولسنا مخالفين    أخبار × 24 ساعة.. قافلة إغاثية لمتضرري ارتفاع منسوب نهر النيل في المنوفية    «الهيئة الوطنية» تُعلن موعد انتخابات النواب 2025 (الخريطة كاملة)    هل التسامح يعني التفريط في الحقوق؟.. الدكتور يسري جبر يوضح    بداية فصل جديد.. كيف تساعدك البنوك في إدارة حياتك بعد الستين؟    لأول مرة فى تاريخها.. اليابان تختار سيدة رئيسة للحكومة    دوري أبطال أفريقيا.. قائمة بيراميدز في مواجهة الجيش الرواندي    بشير التابعى: مجلس الزمالك ليس صاحب قرار تعيين إدوارد ..و10 لاعبين لا يصلحون للفريق    شريف فتحي يشارك في اجتماع غرفة المنشآت الفندقية بالأقصر    محافظ سوهاج يعتمد المرحلة الثالثة لقبول الطلاب بالصف الأول الثانوي للعام الدراسي الجديد    حزب السادات يدعو لإحياء ذكرى نصر أكتوبر أمام ضريح بطل الحرب والسلام بالمنصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة ميلاد مدينة عاشقة
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 07 - 2014

خلف كل بناء على الكورنيش السكندرى عشرات المئات من قصص العشق تستحق القراءة. كلمات كل قصة مكتوبة على موجة، وتتلاحق الموجات على شواطئ التذكار، فأسمع نشيد غرام وآهة شوق لا يعرف الارتواء، ولاتمل أمواج البحر من حكاياتها، ومن الغريب أن الإسكندرية تعود بعد كل الحكايات لتبدو عذراء لها ضحكة أنوثة إيطالية الهوى، يونانية الغواية، مغربية الشجن، ووراء كل موجة حكاية ميلاد وحكاية نهاية ، كأن مدينتى استبدلت الساعة الدائرية المعلقة فى بداية شارع الحرية فيها، بموجات البحر التى تتحول إلى شهر زاد من لون خاص. وتلون الحكايات نفسها بخصب نداء أنثوى مشروخ بحكى جوعان لحنان لا يكتمل.

تحفظ أقدامى شوارعها، كل شارع له لون سنجابى يزدحم أحيانا»بأبنية إغريقية وأخرى إيطالية وثالثة تركية، ورابعها يتطابق مع طبق سلطة لا تعرف مكوناته . والبحر دائما أبيض بحافة الموج، أزرق ببطن الموج ، فضى بوجه الشمس، أخضر بلون الصفاء، برونزى بطعم الصخر، المتبتل بقمة الصفاء عند قمة قايتباى؛ مؤمن بحلقة النور فوق أبى العباس. وأمل سؤال نفسى: كيف أشرب كل ذلك بالعيون ؟
ها أنا ذا أرحل إليها بحثا عنها ، فلا أجد سوى اكفهرار أهوج ، وترنح أفكار الجمود التى رفضها عموم أهل المحروسة . فأخذت ذاكرتى تقلب أوراقى ، لألتقط شاطئ ميامى فى يوليو 1959؛ حيث ازدحم الزمن بفرح لا يعلوه أى تراب ، وأرى على الشاطئ خطوات أنوثة ذات طابع شجى جسدتها شويكار طوب صقال التى ما أن تسير فى نزهة الظهيرة حتى تلتفت العيون إليها ، ولتلمع غيرة أخاذة فى عيون زبيدة ثروت طالبة كلية الحقوق التى سعت إليها عدسات التصوير لتكون بطلة فيلم «فى بيتنا رجل» التى تقع فى شبكة الهوى لمقاتل يطلب الإنجليز والبوليس دمه . وأنتبه إلى كثرة العيون التى تركزت على فتاة شقراء تناقلت عنها الهمسات تحت شماسى الشاطئ بأنها ليست حادة الجمال فقط ، بل تزدحم بشرور لا نهاية لها ، فهى بطلة رواية «لاأنام» لإحسان عبد القدوس، فهى الفتاة التى أذاقت الويل لزوجة أبيها، وأشعلت النار فى كل من اقترب منها، وبسذاجة دارس الفلسفة الشاب الذى كنته، أتجه إلى كابينة إحسان عبد القدوس لأسأله «هل هذه الحلوة هى البطلة الشريرة التى غارت على والدها، فأفسدت كل زيجة له، حتى اشتعلت فيها النار؟». إبتسم لى إحسان «إن كنت تظن أنها هى، فلماذا لاتسألها وتجرى معها حوارا؟. وببراءة من يتوجس الشر، اقتربت من الشمسية التى تجلس تحتها بنظارتها السوداء، وكانت بجانب شمسية من يهواها قلبى التى أمسكت بمجموعة قصص مصطفى محمود «قطعة السكر» وهى المجموعة التى أهديتها إياها، ولا أدرى لماذا قالت الحبيبة «إن شخصيات مصطفى محمود تختلف عن شخصيات إحسان عبد القدوس». هنا تدخلت فى الحوار بطلة «لا أنام» وكأنها ألتقطت إشارة بالحدس أنى أريد الحوار معها، فقالت «كل كاتب يصور المرأة كما يراها، ورؤية مصطفى محمود تختلف عن رؤية الأستاذ إحسان».قلت « يقولون أنك بطلة روايته «لا أنام» والبطلة انتهى بها الأمر إلى حريق شوه معالمها ، وأنت باسم الله ماشاء الله .. غاية فى الحيوية ولا يوجد أثر لأى نار على ملامحك أو ما يظهره المايوه من كل جسدك».
وكأنى نطقت ما تهتز به الغيرة الخفية فى وجدان حبيبتى، فاضطربت بشرتها بألوان التوتر، وهذا مالاحظته شقراء «لا أنام»، فقالت «الحرائق التى تصورها الروايات هى تعبير عن حرائق أخرى.. إن أردت أن تعرف القصة كاملة سأحكيها لك» . أخبرتها أنى صحفى شاب وأنى قد أنشر الحوار إن وقعت بإمضائها عليه. فقالت «اتفقنا». وببراءة خبث لا يأمن للجمال إن كان حادا، قررت أن أكتب الحوار على نسختين، فمادام ورق الكربون موجود وهو الذى يسمح لى بالكتابة على ورقة لتظهر نفس الكلمات على الورقة التالية التى تحت ورقة الكربون، فلم تكن فى تلك الأيام آلات تصوير الورق التى انتشرت الآن. قطعت الحبيبة حوارى مع شقراء لا أنام، لتقول «تعلم أنى أريد أكل آيس كريم، ولنلتقى بعد الظهر لنجرى الحوار. ولم تكن الحبيبة تريد آيس كريم، بل كانت تريد تقطيع خيوط أى تواصل بينى وبين أى امرأة سواها، فضلا عن محبتها الدائمة لتحديد مركزها بالضبط فى وجدانى، فما أن سرنا على الشاطئ المؤدى إلى كافتريا ميامى حتى قالت «كيف أصدقك وكنت قد سألتك من قبل: هل أنا جميلة؟ فقلت: لا أعرف لسبب بسيط وحقيقى ، هو أنى لا أقيسك بالنساء لكنى أقيس النساء بك.. كيف تقول لى ذلك.. بينما الملعونة كانت تأكلك بعيونها؟ «قلت» لماذا لا تتعلمى من مدام لولو زوجة إحسان عبد القدوس التى تتركه يجرى عشرات الحوارات مع عشرات الجميلات دون أن تهتز فيها شعرة واحدة؟ إنك تنسين الحقيقة المؤكدة التى قلتها لك عشرات من المرات.. كل خلية فى جسدى هى مرآة لا ترى أنوثة تخصها إلا أنوثتك.. تماما كما أنى أرى بوضوح أن كل خلية فيك لا ترى رجولة تهوى الإندماج فيها سواى.. فلماذا الغيرة؟ «ضحكت الحبيبة قائلة» قادر أنت على أن تأكل بعقلى حلاوة كحلاوة غزل البنات» ، هنا مر بائع غزل البنات لأشترى للحبيبة ولى، ونعود إلى «جميلة لا أنام»، لأبدا الحوار معها ، فأوجزت فى وصف غيرتها على والدها من أى إمرأة . وأنها بددت حياتها فى تلك الغيرة. انتهى الحديث لأكتبه بعد ذلك مساء. كان فتحى غانم يدربنا كصحفيين شباب أن نسجل فى ذاكرتنا كل كلمة ينطق بها من نحاوره، فلا يصح أن نمسك ورقة وقلما لنكتب ما يقال أثناء وجودنا مع من نجرى معه حوارا.
قالت الحبيبة «لنرحل من ميامى لعلنا نصل إلى بلاج سيدى بشر رقم 2، لنرى صديقتنا نادية زيادى دارسة اللغة الفرنسية، وكنت أحب فيها قصة حبها لزميلى من الروضة، وصارت الآن زوجته وتقدم هو ليصبح واحدا من أكبر أساتذة كمبردج فى اللغة الإنجليزية هو الدكتور حسن أحمد حسن وكان لابد أن نمر على كابينة أعرفها جيدا.. كابينة النحاس باشا وزوجته زينب هانم الوكيل. والوجوه فى الكابينة اختلفت، فهاهو وجه أحد ضباط يوليو قد جلس مع عائلته فيها. و أضحك لأحوال الزمان، لكن الكابينة المجاورة فمازالت مملوكة للطبيب الذى كان رئيس والدى فى بعثة الحج عام 1947، والذى كنت ألحظ أثناء رحلتنا إلى الحج ؛أن زوجته تحترف نكدا ينعكس عليه بعجرفة لا حدود لها. وأرادت تلك المرأة أن تنكد على أيضا؛ حين جاءت قرعة مبيتها فى نفس القمرة التى أنام فيها أنا وشقيقتى ووالدتى، وكانت الباخرة مكة تبدو كفرن متحرك يمتلئ بصهد لا مثيل له. وأصرت السيدة ألا أنام فى السرير الذى يعلو سريرها فى قمرة الباخرة، خوفا من أن أكون مصابا بالتبول اللاإرادى، فطمأنتها والدتى أنى أبلغ سبع سنوات من العمر ولا يمكن أن أفعل ذلك. وكأن أمى تجاهلت أنهم أخذونى فى رحلة الحج لعل الله يهدى بركان الشرور الصغيرة التى أحترفه، وهكذا أهدتنى المرأة النكدية فكرة التنكيل فيها، فقمت بكامل إرادتى بالتبول عليها من سريرى الذى يعلو سريرها؛ لتصرخ فى منتصف الليل مستنجدة بوالدتى، التى راحت تطيب خاطرها. ضحكت من شرورى القديمة وأخذت أدقق النظر فى كابينة الطبيب لأجد زوجته الثانية الإيطالية الحلوة ، فقد طلق النكدية الأولى وتزوج إيطالية حلوة، وكانت تجلس مع مجموعة صديقات أعرفهن، فهذه أرملة صديق أبى د. أحمد كمال صاحب مجلة «الدكتور» التى احترفت نشر موضوعات الجنس ترويجا للمجلة، وبجانبها زوجة على توفيق شوشة باشا مؤسس هيئة الصحة العالمية . تسألنى الحبيبة «لماذا تدقق فى ملامح النساء هكذا؟» رويت لها بعضا من شقاوتى وأنا طفل ، وأن هذه الإيطالية هى زوجة رئيس بعثة الحج ورئيس والدى ، وهو من تزوج من تلك الإيطالية بعد أن زهق من زوجته النكدية ، ولكن رئيس البعثة كان كثير السؤال عن إبر قيل انها خلاصة مستخرجة من القرود لتقوى قدرات الرجل؛ وهذا ما حدث بعد زواجه من الإيطالية، فقالت الحبيبة « طول عمرك تفكر فى الحكاية دى.. ودى قلة الأدب». قلت لها « قلة الأدب هذه هى سبب ميلادك وميلادى ، فلماذا لا افكر فيها « تهربت الحلوة من الحوار» ولم نجلس كثيرا مع نادية زيادى . فقد طلبت الحبيبة أن نعود إلى بلاج ميامى من جديد .
أفاجأ أثناء العودة بأن حبيبة عبد الحليم تمشى بصحبة زبيدة ثروت، ولأن زبيدة هى صديقة مشتركة لى ولحبيبتى ، لذلك سألتها بشكل مباشر «كيف تسيرين وأنت المختارة كأجمل عيون على البلاج بجانب من سمعت عبد الحليم يقول عن عيونها أنه لا يعرف هل هى عيون زرقاء ام خضراء ام بنفسجية؟.
قالت زبيدة «حين تثق البنت فى نفسها فهى لا تخشى السير بجانب أجمل نساء الكون» . وأيدتها كل من حبيبة عبد الحليم وحبيبتى.
أقول للثلاثة: سأكتب عن الإسكندرية فى الرواية التى أكتبها عن حياة سيف وانلى رسام الإسكندرية الأشهر «العذراء دائماً تلك المدينة ؛ الإسكندرية . الضاحكة بالألوان.
المرحة بالهدوء . الإسكندرية لا تعرف الشيخوخة، رغم كل الحكمة التى تطل من مبانيها . عمرها دائماً أربعة وعشرون عاماً . مزدهرة بالحياة . والحنان. تلعب دور القوى ودور الضعيف.»
تقول زبيدة «أملى أن يرسمنى سيف وانلى»، فأقول لها سأخبره ولن يمانع. ولكن قولى لى هل فهمت تماما دورك فى رواية «فى بيتنا رجل»؟ وكأنى ألقيت عليها حجرا، فلم تكن قد تكن قد دخلت الاستديو لتصوير الفيلم، قالت لى «إنت تتجاهل إنى فى كلية الحقوق.. أى أن أذاكر كل سنة حوالى خمسة آلاف صفحة عن كل وجوه السلوك البشرى، فكيف تسألنى هذا السؤال؟». أقول: بطل الرواية إبراهيم حمدى فى نظر القانون إرهابى وفى نظر الطالبين لحرية مصر من القصر والإحتلال الإنجليزى بطل ، وأنا لا افهمه بالضبط، خصوصا وأن البلاد لا تتحرر بقتل هنا أو هناك . قالت زبيدة «عندك حق .. وإحسان عبد القدوس أستاذك فلماذا لاتسأله؟».
............
ويدور الزمن دورته لأجد نفسى على بلاج آخر فى عام آخر فى نفس المدينة الإسكندرية، هو بلاج ستانلى ، الذى يوجز فى نهاره ما يجرى فى ليل الإسكندرية التى تشرب البحر المتوسط ، وتحترم إلى حد القداسة جذورها اليونانية والرومانية، فتطل من عيون بنات النهار هذا الدلال إلإيطالى الذى لم يوهب لمصرية قدر ما مثلته هند رستم ، دلال أنثوى لا يخجل من دفقات الغواية التى تتناثر بفخر ذات اليمين وذات الشمال. نتيجة العام تشير إلى اننا فى عام 1963 ، والجالس فى كازينو استنالى طلبا لقهوة الصباح هو الروائى فتحى غانم رئيس تحرير صباح الخير والذى خاض معنا نحن محررى صباح الخير تجربة غاية فى الغرابة ، حيث قرر أن يتولى كل واحد منا مسئولية رئيس التحرير لعدد من أعداد المجلة ، وأن يقوم فتحى غانم بذات نفسه بمسئولية سكرتير التحرير الذى يتابع بقية المحررين . وحين جاء دورى كرئيس للتحرير إقترحت أن يكون العدد كله عن «غرفة النوم « ففيها يكتمل الزواج، وفى المناقشات التى تدور بين الرجل والمرأة يمكن تنمو بذور الطلاق ، وبسبب وجود رجل وإمرأة فيها يأتى الأطفال، وآه من غرف نوم تسبق الكراهية خطوات الزوجة إليها ، خصوصا فى الزيجات التى تتم بسيف إتفاق الوالد مع صديق له لتتزوج ابنته من ابن هذا الصديق، أو الزواج الذى يتم لمكسورة الجناح فى قصة حب ، تهرب من الحبيب إلى قبول العريس الذى يدق الباب، لكنها فور أن تدخل مع العريس لغرفة النوم حتى تبدأ رحلة كذب أو رفض ولكنها فى كل الحالات تستسلم لقدر لم تريده لنفسها.
قال فتحى غانم لا تفرض موضوعا واحدا للعدد الذى ترأس التحرير فيه ، بل أترك كل محرر يختار الموضوع الذى يستريح له ، واكتب أنت فى حكايات غرف النوم ماشئت .
كان فتحى غانم يعلم أنى مأخوذ لحد الوله بمن أحببتها ككاتبة بقدر ما كان يفصلنى عن وزوجها مسافات من عدم القبول .. كنت أحب لطيفة الزيات صاحبة رواية الباب المفتوح ، التى تؤرخ لبنات جيلى وما سبقه من جيل أو جيلين وتروى مسألة حق المرأة فى إختيار حياتها ، بداية من حق الحب إلى حق العمل إلى حق المساواة مع الرجل . وكان زوجها هو د. رشاد رشدى أستاذ الأدب الإنجليزى العتيد والمكروه من قبل أى إنسان يريد الاحتفاظ بمسافة بينه وبين السلطات أيا كانت ، والسبب هو ارتباط اسم رشاد رشدى بأمرين لا ثالث لهما ، أولهما انه كان الطالب الذى ألقى كلمة طلاب الجامعة امام الملك فاروق ، وحتى كتابة هذه السطور لم أتحقق من الواقعة ، ولعلها كانت شائعة أطلقها من يكرهون تزلف رشاد رشدى لكل صاحب نفوذ ، خصوصا د. عبد القادر حاتم الذى رأس الإعلام والثقافة وأسس مسرح الضحك بلا هدف ، وهو ما سمى «مسرح التلفزيون» ، مسرح سياحى ترفيهى يقوم على الضحك لمجرد الضحك، وليس كالمسرح القومى الذى شهد ميلاد نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوى، وكل كوكبة مؤلفى المسرح العظام .
قال فتحى غانم :أنت تحب لطيفة الزيات وروايتها ، ولعل زواج إبنة خالة بطلة « الباب المفتوح» من العريس المقتدر واحترافها لخيانته هو ما دفعك للنفور منها، كنفور البطلة من الأستاذ الجامد الذى يطلب من الزوجة أن تكون دمية مطيعة، ولعل ذلك هو السبب فى اقتراحك لإصدار عدد عن «غرفة النوم» لأن أعدادا كثيفة من البنات يدخلن تلك الغرقة كصفقة ، لا كاختيار قائم على الحب.
قلت: نفس الحكاية حدثت فى روايتك التى أحبها والتى تكتبها حاليا فى صباح الخير : تلك الأيام «أنت تعلم يا أستاذ فتحى أن روياتك هذه وأنت تلعب فيها بالتاريخ، أكاد أسمع تحت كلماتها موسيقى اثنين يبدوان بعيدين كل البعد عن مجال أى منهما، فتشايكوفسكى فى كونشرتو البيانو رقم واحد يكاد يقفز من تحت الكلمات ، وهناك فاجنر هذا المجنون بالبحث عن إجابة لنهاية آلام أحاسيس الذنب خصوصا فى أوبرا تانهاوزر وهى الأوبرا التى يعشق بطلها إمرأة ، وتقف بينهما التقاليد ، فيبحث لنفسه عن خلاص بالسفر إلى الحج. ويكاد فاجنر أن يطل من سطور بعض من الفصول.
يقول فتحى غانم جادا : من أى جاءت لك هذا الفهم للموسيقى الكلاسيكية ؟ ويرد على نفسه « أنت صديق لسيف وانلى الذى يعشق الموسيقى الكلاسيكية ، فهل هو من نقل إليك عشق الموسيقى الكلاسيكية ؟
أقول : وجود مسرح محمد على بالإسكندرية ، وترددى على حفلاته الموسيقية فضلا عن كتاب التذوق الموسيقى لمحمد بدران ، ومعهما أحاديث د. حسين فوزى بالبرنامج الثانى ، كل ذلك قادنى الى عشق الموسيقى الكلاسيكية والأوبرات . وأضحك عندما أرى الناس تتهيب دخول الأوبرا لأنهم لا يعرفون أن الأوبرا فى الأصل هى احتفال يشبه احتفال القرى المصرية باى مولد ، وأنت إذا زرت أى مولد ستجد مسرحا وغناء وقد تجرى فى طرقاته وبين خيامه أكثر من قصة حب ، وكل ما فعلته أوربا هو أنها أخذت قصصا من الموالد التى فى قراها ، وأجاد الموسيقيون تأليف نصوص موسيقية تناسب تلك القصص ، ليتم تأديتها على مسارح فخمة ، يذهب إليها من يرتدون أفخر الملابس . وقد لا يعلمون أن ما سوف يشاهدونه هو قصة مأخوذة من مولد شعبى أو حكاية دارت فى احتفال قروى. بضحك أستاذى فتحى غانم مقهقها من كلماتى، فاواصل القول : روايتك ´تلك الأيام «تتوغل بموسيقها فى جوهر شديد النقاء، ليكشف لنا عن أسئلة إجاباتها مستحيلة، فمن يجرؤ على قول حقائق التاريخ ، فالتاريخ حقائق متراكمة، إن قالها مؤرخ غير مصرى فهذا مباح له أما المؤرخ المصرى فعليه أن ينطق بنصف الحقيقة كى يعيش أما إن كشف كل الحقيقة، فالمقصلة ستقطع رأسه . وفى كل عصر مصرى هناك نصف حقيقة ظاهر ، ونصف حقيقة لا يجب أن يقال . وفى قاع نصف الحقيقة الذى لا يقال هناك أسئلة كسؤال فاجنر فى أوبرا تانهاوزر عن مقابلة النقاء فى عناق من يحب والحج إلى بيت المقدس بحثا عن راحة إن افتقدنا القدرة على امتلاك من نحب .
يقول فتحى غانم: لو كنت قد فكرت فى ما تقول لما كتبت ، أنا كنت أريد أن أعبر عن جيلى الذى احترف نطق نصف الحقيقة ثمنا للصعود . أنت تعلم أن مصر بعد انفصال سوريا تبحث عن إعادة مناقشة ما تريده من مستقلبها ، فهى لا تريد السد العالى فقط ولا تبحث عن التصنيع فقط، ولكنها تصر على أن يشرق على العالم شمس لا تعرف الاستغلال . أضحك للأستاذ فتحى مذكرا إياه بما يقوله محمود السعدنى ساخرا «عظمة عبد الناصر ليس لأنه فكر فى ثورة يوليو فقط ، ولكن لأنه نفذها وقام بها بواسطة أفراد منهم عدد لا باس به من يريدون من الثورة مغانمها ، ويرفضون أى تضحية باية مكاسب «.
............
تتقلب السنوات مع دورات الشمس والقمر، لتشرق شمس طرية عام 1969، لأتذكر أنى خاصمت مدينة ميلادى كأنى لم أزرها لسنوات، فأبدأ بزيارة مسجد سيدى المرسى أبو العبباس، لتلمع فى الذاكرة ما شاهدته من على البعد عام 1950 جلالة الملك فاروق، وهو يخرج بعد أول ليلة من ليالى رمضان ، وأجد رجلا ينحنى ليساعده على ارتداء حذائه ، ولأعود إلى البيت لأجد خالى عاشق ليالى الفرفشة ، وهو يشكو من طرده من ملهى المنسونير الذى يعد أرقى الملاهى الليلة بمحطة الرمل ، فقد كان يريد توديع شهر شعبان واستقبال شهر رمضان مع حسناوات المونسونير ، فجاء من يطرد الزبائن لأن جلالة الملك فاروق سيأتى ليودع رمضان بسهرة بنفس الملهى ليلعب مع باشاوات ذالك الزمان لعبة البوكر ، وليستقل صباح اليوم التالى يخت المحروسة وليقضى بعضا من الصيف فى جزيرة كابرى ، ولنقرأ نحن بعد أسبوعين رسالة من الصحفى مصطفى أمين الذى صاحبه فى تلك الرحلة. قال مصطفى أمين فى رسالته الصحفية، إن الملك اصطحب الوفد المرافق له فى كابرى ليزوروا مصنعا من مصانع الحديد والصلب ، ووقف جلالته أمام فرن صهر الحديد ليسأل أفراد الحاشية «هل أنتم صائمون؟ إن من لا يصوم ولا يصلى سيصلى نارا كالتى تشاهدونها الآن فى هذا الفرن الذى يصهر الحديد» . ولكن بعد الثورة يكتب نفس الكاتب مصطفى أمين عن ليالى الأنس فى كابرى . وعن حزن جلالة الفاروق على الممثلة كاميليا التى سقذت بها الطائرة محترقة ، وكان يتمنى قضاء وقت سعيد معها. ثم أسمع بأذنى بعد ذلك بسنوات من راقصة لعبت فى السياسة دورا لا بأس به هى تحية كاريوكا ، قالت «حكت لى أكثر من واحدة اصطحبهن الملك فاروق أنه رجل خائب لا يجيد الحب ، وغلب على ظنى أن تحية كاريوكا أرادت أن تنتصر بحكاياتها على وصيفة البلاط الملكى التى شاركتها عشق مصطفى كامل محمود ضابط الحرس الحديدى، والذى أرادت منه ناهد رشاد أن يقتل الملك فاروق لأنه لم يف بوعده بالزواج منها. وتركها مصطفى كامل محمود ليصير زوجا لتحية كاريوكا.
الشمس أمام مسجد سيدى المرسى أبو العباس قوية عفية ، فلم أتحملها ، فأجرى إلى فندق فلسطين ، حيث أستخدم حقى فى الإقامة به بنصف الأجر ، وكان هذا امتيازا للصحفيين، ولعلى أسهر ليلى هناك . يقابلنى إسم الشارع الذى سكنته فى صباى «شارع نبيل الوقاد»، ولعل أحدا لا ينذكر اسم الرجل ، فهو أول شهيد مصرى على أرض اليمن التى سافر إليها الجنود بعد ثورة اليمن . ولم يعد جثمانه بل صار اسمه خطا مكتوبا على يافطة خضراء.
أدلف إلى حدائق قصر المنتزة لأصل إلى فندق فلسطين هذا الذى تم بناؤه كى ينعقد فيه مؤتمر قمة عربية فى سبتمبر 1964 . وأرى بعيون التذكار كيف كنت واحدا من متابعى هذا المؤتمر ، ولم أتوقف عند أى شيء فيه إلا ما قاله المذيع حسنى الحديدى الذى توسط مجموعة من الصحفيين يسألونه عما سيفعل نائب رئيس الجمهورية على صبرى _ وكان حسنى الحديدى مديرا لمكتبه _مع ما جرى فى دار التحرير التى تصدر منها جريدة الجمهورية ، تلك الجريدة التى صدرت رخصتها بإسم جمال عبد الناصر، ودخلها رئيس تحرير جديد وقديم ، هو الكاتب حلمى سلام وهو من بدأ نشاطه بفصل مالايقل عن مائة صحفى . وكان أول اسم من المفصولين المحذوف اسمه من قائمة رؤساء التحرير هو الدكتور طه حسين. سألت حسنى الحديدى عن الجهة التى اختارت حلمى سلام كرئيس تحرير للجمهورية، قال لى إنه المشير عبدالحكيم عامر. وقلت «مصيبة جمال عبد الناصر أنه أحب هذا الرجل ، فبدا كمعظم ساسة عالمنا العربى حيث يفتقد عبد الحكيم عامر فى أغلب الأحوال، إيمانا ووولاء لمجموع الأفكار الأساسية التى قامت من أجلها ثورة يوليو .أخذت أسمع المذيع الأشهر ويشرح قصة فصل أكثر من مئة كاتب وصحفى من جريدة الجمهورية لان الكاتب الصحفى حلمى سلام الذى قبل رئاسة دار التحرير اشترط عدم وجود أى رئيس تحرير بخلافه هو، سألت أنا كاتب السطور المذيع حسنى الحديدى «من يجرؤ فى مصر على إزاحة إسم طه حسين من أى موقع أو مكان ؟ قال لى «المشير عبد الحكيم عامر يقدر». ونظرت إلى مسدس يتدلى من خصر حسنى الحديدى ، فأيقنت أن أى حوار مع شخص يتدلى من خصره مسدس هو أمر صعب بالنسبة لى ، فأسرعت إلى محمد زغلول كامل الذى يعمل بمكتب عبد الناصر، وكان يقيم فى فندق فلسطين أخبرته أن خبر فصل طه حسين وكامل بك الشناوى هو العار بنفسه ، فطه حسين هو من أهدى لقب «ثورة «لحركة 23 يوليو، وكامل بك الشناوى هو مدرسة مشاعر حية يعبر كما شاء وكيفما شاء. أكد لى زغول كامل أن عبد الناصر ألغى هذا القرار، ولم تمض سوى ساعات وأثناء انعقاد المؤتمر صدر قرار بإلغاء قرار فصل د. طه حسين وكامل بك الشناوى .
وفى ليل فندق فلسطين كان الصيف يسهر بالرقص والموسيقى اليونانية ، بعد أن اختفت فرق الموسيقى من المقاهى الليلة التى كانت تنتشر بمحطة الرمل . نساء من بهجة وفرح ، وشباب من إنطلاق بلا حد. وكان على البعد يجلس صديقى العائد من جبهة قناة السويس فى أجازة قصيرة من حرب الإستنزاف. قال الصديق «نحن موجودون على خط النار، ولا نطلب منكم أن تخسروا حق البهجة ، ولكن تذكرونا وأنتم تفرحون.
............
ها أنا ذا أعود إلى مدينتى العاشقة، فأراها مترهلة من ضغط ماجرى فيها ، حيث تمت سرقة البهجة منها عبر السماسرة، مرة بتزييف الدين ومرة بتجارة الموت عبر عمارات بناء مغشوشة الأسمنت وثالثة بواسطة ما أسدله عليها انفتاح السادات وسهوكة مبارك بتجاهلها، ولكن تحت مبانيها مازالت عشرات المئات من قصص العشق تستحق قراءتها، فخلف كل جدار قصة حب، ونشيد غرام ، وآهة شوق لا يعرف الإرتواء، وأسألوا أمواج البحر فستحكى لكم أكثر مما تحكى كلماتى. والغريب أن الإسكندرية تعود بعد كل الحكايات لتبدو عذراء؛حكايات الميلاد والنهايات، حكايات تلون نفسها ببخصب نداء مشروخ بحكى جوعا لحنان لا يكتمل .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.