لكل أمة وشعب منظومة اخلاقية وسلوكية تجمع كل المبادئ الانسانية التى تتفق عليها غالبية أفرادها. وحيث ان لكل أمة نخبة من أفرادها تتبوأ المراكز العليا فى الدولة و القضاء والاعلام والتعليم والصناعة و إدارة الاعمال نجد دواما ان أفراد هذه النخبة هم من اكثر أفراد الأمة التزاما بمنظومة أخلاقها و تجسيدا وتعبيرا عنها. ومن ناحية اخرى فقد تتعرض المنظومة الاخلاقية لبعض التغييرات التى تتبع التطورات السياسية والاجتماعية فى الامة، و لكن يظل الجزء الأعظم منها ثابتا من ثوابت تعريف الأمة كعلم و شعار لها. يوم 9 ديسمبر ظهرت قوة المنظومة الاخلاقية الامريكية بجلاء ليس له مثيل بين امم العالم كله. القصة ببساطة هى قصة تعامل جهاز المخابرات المركزي الأمريكى او سى اى ايه مع 119 أسيرا من أعضاء تنظيم القاعدة فى الفترة الزمنية التى تلت العمل الارهابى يوم 11 سبتمبر عام 2001 فى نيويورك. المجتمع الأمريكى يتفاخر بإنسانيته حتى فى التعامل مع المجرمين والأعداء. فى حين ان احدى وظائف جهاز المخابرات المركزي هى الكشف عن اية مؤامرات ارهابية بهدف تأمين أمريكا ومؤسساتها و أفرادها. ولب القضية هى الوسائل التى اتبعها سي اي ايه فى استجواب 119 أسيرا، وهل كانت هذه الأساليب إنسانية ام انها تعدت منظومة الأخلاق الامريكية واصبحت تعذيبا. فتعذيب الانسان أيا كان أمريكيا او غيره مجرما او عدوا يتعارض مع جوهر مبادئ الأخلاق المتفق عليها فى أمريكا. جهاز المخابرات المركزي حاول بكل نفوذه ان يمنع على مدار السنوات الاخيرة اى تساؤل فى هذا الموضوع مدعيا انه مهما تبلغ أساليب استجواب الأسرى من السوء فإنها كانت ضرورية لحماية أمريكا بالحصول من الأسرى على معلومات ثمينة منعت أعمالا ارهابية كانت فى مرحلة التخطيط. ونوه المدافعون عن الجهاز وأساليبه الى شراسة المنظمات الإرهابية الاسلامية التى تتفاخر بذبح أسراها من الأمريكان علنا، وان أساليب الاستجواب الامريكية اكثر إنسانية من الذبح العلنى. كما ان هذه الأساليب الامريكية مهما تبلغ من السوء فإنها من ارقى أساليب الاستجواب مقارنة بالعالم كله. كما حذّر أولئك ان انتقاد اعمال الجهاز فى الوقت الذى تستمر فيه معركة أمريكا مع منظمات الاٍرهاب الاسلامى العالمى يقوض إمكان وسمعة أمريكا فى كفاحها، بمعنى اسكتوا فلا صوت يجب ان يعلو على صوت المعركة. وبالطبع كان موقف الادارة الامريكية والبيت الأبيض متسما على اقل تقدير بالعطف على موقف جهاز المخابرات المركزي وان لم يكن ذلك الموقف دفاعا عن أساليبه، فالواضح ان الادارة سلكت سبيل تجنب العواصف السياسية التى قد ينتج عنها مفاجآت غير محمودة للإدارة نفسها. خلاصة الكلام كانت الرياح السياسية المضادة لأي انتقادات او محاسبة فى منتهى القوة. الحرية والديمقراطية فى أمريكا ترتكز أساسا على التعددية بمعنى تعدد السلطات واستقلالها النسبى. او بمعنى اخر لا تتمركز كل خيوط الحكم والسلطة فى يد واحدة كما يحدث فى البلدان التى تقتل اختلاف الآراء بتسليم البلد بكل مقدراته ومستقبله فى اليد الواحدة تحت شعار الاستقرار كما حدث فى مصر فى عهد مبارك فاستقرت مصر فى قاع المجتمع العالمى بكل مقاييس الفقر و الجهل و الفساد. التعددية تعطى الرئيس الأمريكى سلطات لكنها غير مطلقة. فالكونجرس يملك من السلطة ما يكفى لتحدى اي جهاز او سلطة اخرى فى أمريكا. هذه التعددية الديمقراطية أعطت لجنة الكونجرس الخاصة بالمخابرات الفرصة لتحدى جهاز المخابرات المركزى ومقاومة التيارات السياسية القوية التى ارادت منع اي مراجعة وحساب فى إنسانية الأساليب التى اتبعت فى استجواب أسرى القاعدة، عدو أمريكا اللدود. ففى خلال السنوات الثلاث الماضية قامت هذه اللجنة برئاسة السيناتور ديان فاينستين بدراسة وتحليل كل الوثائق والمراسلات والإيميلات الخاصة بالجهاز المركزى للمخابرات. وتبعا لسلطة الكونجرس التزم الجهاز بتسليم كل الوثائق كاملة وبأمانة. وفى 9 ديسمبر استمع العالم كله لديان فاينستين وهى تقرأ موجزاً لتقرير اللجنة الذى ادان أساليب الجهاز المركزى للمخابرات الامريكية فى استجواب 119 من اسرى القاعدة وصنفها على انها تعذيب يتنافى مع منظومة الأخلاق الامريكية وان الجهاز تناسى المعروف انه لا يمكن الثقة فى أقوال ضحايا التعذيب وان اللجنة لم تجد اى دليل على ان أقوال الأسرى أدت لمنع اي اعمال ارهابية مخططة، وان الجهاز أعطى عملية الاستجواب لشخصين كونا شركة تعاقدت مع سي اى ايه و تسلمت 80 مليون دولار. كلها حقائق ناصعة واضحة ما كانت لتظهر بدون التعددية الديمقراطية الامريكية، وكلها تعبر عن وجه أمريكا الاخلاقى والذى لم يتستر على عورة او خطأ، الذى يرى الحضارة مرتبطة بمنظومة اخلاق رفيعة وان لم يتبعها كل مسئول امريكى فقد منحت التعددية الديمقراطية الفرصة لافراد اخرى من النخبة الامريكية لرفع علم القيم الحضارية الرفيعة علي الرغم من المقاومة العنيفة التى حاولت وأد صوتهم. وربما سيسجل التاريخ كلمة السيناتور جون ماكين التى تبعت تقرير ديان فاينستين حين قال عن منظومة الأخلاق الامريكية انها المنظومة التى تعرف أمريكا كأمة وحضارة، انها لا تتغير حتى فى مواجهة منظمات الاٍرهاب وقطع الرقاب وان قوة الامة والمجتمع تنبع من منظومتها الاخلاقية وان التستر على أساليب التعذيب والقمع لا يجدى كفاحا او نضالا. لقد أضاء تقرير لجنة الكونجرس للمخابرات وجه أمريكا الحسن، وليتنا نأخذ عبرة منه فى ضرورة التمسك بمنظومة أخلاقية مصرية وبضرورة قيام تعددية ديمقراطية. لمزيد من مقالات د. نبيل اسماعيل