أدمت فاجعة أتوبيس البحيرة المنكوب قلوبنا جميعا وتركت جرحا غائرا في أعماقنا وذاكرتنا إلي الأبد، وكيف لا ونحن نري مستقبل مصر يحرق داخل أتوبيس ! بنات وذكور في عمر الزهور لم يقترفوا أي ذنب سوي طلب العلم وحلمهم بمستقبل أفضل، هؤلاء الأبرياء تركناهم يواجهوا ثواني عصيبة وألم تعجز الكلمات عن وصفه بعد تحول الأتوبيس إلي جمرة نار مشتعلة أتت علي أجسادهم الضعيفة بلا رحمة، ما ذنب هذه الأرواح البريئة التي أزهقت أن تدفع ضريبة الإهمال المتغلغل حتى النخاع في المجتمع منذ عقود ! بمنتهي الأسى والألم تابعت الحكايات المؤلمة للناجين الذين أطالب بعلاجهم علاج نفسي يداوي ما ألم بهم وينسيهم صور زملائهم وهي تحترق وتتفحم أمام أعينهم . لقد أطلق زملائهم علي أنفسهم لقب " إحنا أصحاب المحروقين " فماذا نحن فاعلون غير التصريحات الحنجورية التي سئمنا منها وكتبنا بعضها مجبرين في التغطية الصحفية للعديد من المآسي التي رصدناه مثل غرق عبارة السلام 98 ، وحريق قطار الصعيد وأتوبيس المعهد الأزهري وغيرهم، لدرجة ستدفعنا إلي إنشاء وزارة معنية بشئون التعويضات للضحايا والمصابين من الحوادث سنويا ، خاصة أننا تحتل أعلي الدرجات في الإحصائيات العالمية للأسف الشديد ! وأؤكد لكم من قلب أم ، إن ملايين الجنيهات أو المليارات لا تساوي ظفر ابن من أبنائنا أو تشفي غليل قلوب أمهات احترقت علي فلذات أكبادها وزهور عمرها التي تلقي حتفها إما علي الطرق أو في المدارس أو غيرها. والسؤال الآن ماذا بعد ؟؟ هل تعلمنا بالفعل من فواجع الماضي التي يحفل بها سجلنا الحزين، أم سنكتفي بتصريحات وانتقادات وعويل علي الفضائيات واستثمار للفاجعة من جانب بعض الإعلاميين الذين أتمني أن ينصرفوا نهائيا عن المشهد الإعلامي ويرحمونا، وهل الحديث عن قانون للمرور وحملات مرورية لرصد متعاطي المواد المخدرة أثناء القيادة ، وغيرها من التصريحات التي سرعان ما تذوب سريعا بعد مرور بعض الوقت أو بعد جذب الأنظار إلي أحداث أخري . إن كارثة أتوبيس المعهد الأزهري في أسيوط الذي أسفر عن مصرع 62 طفلا ليست ببعيدة يا سادة ، قرية بأكملها اتشحت بالسواد في بضع دقائق وانتهي الأمر بتقديم كبش فداء للمحكمة ، ومازالت المزلقانات تحصد الأرواح ومازالت التصريحات تؤكد وجود خطط للتطوير بالملايين ! العلاج من الإهمال .. هو الحل الحقيقي للأزمات المتكررة التي نواجهها في كل مناحي الحياة، الإهمال هو عدونا الأكبر الذي يهددنا جميعا وعلي كل المبادرات والمساعي المعلنة سواء من جانب الدولة أو المتخصصين والخبراء أو حتي المواطن البسيط الذي يخشي علي أبنائه من هذا المصير المؤلم وراح يتحدث في برامج التوك شو في محاولة منه لإيجاد حل ما، أن يعلموا هذه الحقيقة . رغم احترامي للجميع ، نحن ننظر تحت أقدامنا ولا نملك موهبة التفكير خارج الصندوق ونحاول إيجاد حلول مؤقتة ظاهرية ونترك الورم السرطاني المتمثل في الإهمال يتوغل في جسد الوطن! هذا الإهمال تراه جليا في إصرار سائقي السيارات النقل علي تعاطي المواد المخدرة " حتى يشغل دماغه" كما قال عمرو سائق أسوان، وسائق الأتوبيس المدرسي الذي لم يلتزم بالسرعات المحددة بل ووضع جراكن للوقود داخل الأتوبيس دون مراعاة لقواعد الدفاع المدني والسلامة التي أكاد أجزم أنه لا يدري عنها شيئا ! الإهمال موجود عند الناظر الذي ترك سيارة التغذية المدرسية تدهس تلميذا وتصيب أخر، وغيرها من الأمثلة التي تؤكد أن الإهمال أصبح يمتلك قوة الإرهاب الذي يهدد أي مجتمع وبناء عليه أقول لمن يريد أن يتنصل من المسئولية ويلقي بها علي الأخر كما رأينا النزاع بين هيئة الطرق والكباري وبين إدارة المرور، ارحموا هذا الشعب وأبنائه. يا سادة كلنا مسئولون ، لا أحد فوق المسئولية إن لم تكن مسئولية مباشرة فهي مسئولية أدبية تجاه شعب غلبان مثخن بالجراح ! فتش عن الضمير .. هو السبيل الوحيد لمواجهة هذا الإهمال المتغلغل في كل مناحي الحياة، فالقوانين والعقوبات ومدارس تعليم القيادة المزمع إنشائها لن تستطيع إيقاف زحف الإهمال اللعين لأننا نعلم جيدا حجم الاستثناءات في بلدنا ! عودة الضمير الغائب عنا هو بداية الطريق إن كنا نريد إصلاحا حقيقيا وليس ظاهريا أو وقتيا . عودة الضمائر إلي أصحاب سيارات النقل الثقيل ستؤدي إلي توفير ظروف عمل مناسبة وأجور جيدة للسائقين الذين يسابقوا الزمن لتحقيق أكبر عدد من الرحلات ويتعاطوا المواد المخدرة لتحمل مسافات السفر الطويلة، وأيضا تعني عودة رجال المرور إلي الميادين والشوارع والطرق بعدما هجروا بلا سبب أو رقيب. كما تعني قيام كل مسئول بتحمل مسئولياته أو تركها إن كان لا يستطيع! ولمن يعتقد أن الضمير لا يمنع من فعل الأشياء السيئة، سأرد عليه بأنه علي الأقل وجود الضمير يعني وجود الأخلاق التي نفتقدها ونعاني جميعا من غيابها في المجتمع، والأصل في الإنسان الخير والرحمة وعودة الضمير الجمعي ستوفر التربة الطيبة لأي تحرك لمواجهة مد الإهمال الجارف ! لمزيد من مقالات علا حمدي