لن تفيد معارك تكسير العظام ضد الجماعات الدينية المتطرفة ما لم ترافقها معارك أخرى لتكسير العقول أو للدقة ما فى العقول من أوهام وانحرافات. الأمن وحده قد يخفف الضرر لكنه لن يعالج الخلل. فما أسهل تكسير العظام. طائرات وقاذفات ومدرعات تدك وتبيد. أما تكسير العقول فما أصعبه. فهو يحتاج إلى حوارات وشجاعات تفكك ما يتصور المتطرفون أنه صحيح الدنيا والدين. بلدنا ومنطقتنا لديهما تاريخ يغص بمعارك رهيبة لتكسير العظام جرت ضد جماعات التطرف الدينى لأكثر من ألف عام. ومع أن كثيراً منها انتهى بنتائج لا بأس بها للسلطة والمجتمع على المستوى الأمنى إلا أن ذلك كان دائماً إلى حين. فبعد كل مرة تكسرت فيها عظام تلك الجماعات كانت تعود لترممها من جديد مهددةً الدولة والمجتمع بدرجات أكبر. والسبب فى ذلك أن معارك تكسير العقول التى كان يجب أن ترافقها لم تكن عميقة بما يكفى أو جريئة كما يجب أو تدعمها السلطة السياسية فى البلدان العربية مثلما تدعم معارك تكسير العظام. بل إن تلك السلطة كثيراً ما تدخلت لمنع معارك تكسير العقول قبل أن تبدأ أو لإيقافها إن بدأت لأن توجسها من أصحاب العقول المتفتحة ومطالبهم ربما يزيد على خوفها من أصحاب العقول المتشددة وتحدياتهم. وبرغم أن مياهاً كثيرة جرت فى المنطقة منذ 2011، إلا أن نفس الأخطاء التاريخية تعود لتقع من جديد. فها هى معارك كبيرة تجرى إما بالاعتماد على الذات أو بالتنسيق مع تحالفات إقليمية ودولية لكسر عظام جماعات التشدد الديني. وهذا ليس قليل الأهمية أبداً. لكنه لن يغنى ما لم تبدأ معركة كبرى لكسر عقلية الغلو. فالمواجهات ضد المتطرفين تمضى بموازنات سخية وقوات مدججة تعمل على تعقبهم فى الكهوف التى يختبئون بها والقضاء عليهم فى السراديب التى يدبرون فيها مؤامراتهم. أما اقتحام كهوف الفكر التى يعيشون فيها ويروجون لها بين الناس فلا تخصص لها نفس الميزانيات أو تعطى نفس الدرجة من الأهمية. والأمر هذه المرة أصعب من كل مرة. فقد قفزت جماعات الإسلام السياسى قفزة هائلة فى 2011 على حس ثورات شعبية لم يكن لهم فضل كبير فيها لكنهم استغلوها أحسن استغلال. تقدموا بسرعة جعلتهم يعتقدون أنهم كسبوا التاريخ ثم خسروا بسرعة أكبر جعلت غيرهم يتصور الآن أنهم خرجوا من التاريخ. بعض الباحثين العرب والأجانب عد ما بدأ فى مصر فى 30 يونيو وما يجرى الآن فى ليبيا والعراق والخليج إيذاناً بنهاية تيار الإسلام السياسى ودخول مرحلة ما بعد الأصولية. وهو استنتاج غير دقيق. فهذا التيار برغم فداحة أخطاء كل شرائحه تقريباً بلا استثناء يبقى أوسع من أن يمثله متطرفون غلاة وأقدم من أن يخرج هكذا بسهولة من التاريخ. سيظل له أتباع يصدقونه وحجج لا يمكن حجبها وإنما تتوجب محاججتها. كما أنه سيبقى على الأرجح قادراً على إعادة إنتاج نفسه. ليس لأنه على صواب، وإنما لأن الأسباب التى تسهل إعادة ظهوره لا تعالج. وهذا هو بيت القصيد. فلا مشكلة العدالة الاجتماعية التى تتغذى عليها شعاراته تم حلها أو الحد منها. ولا معركة تكسير العقول التى لا فكاك منها بدأت تأخذ ما تستحقه من زخم. وإذا كانت خطورة المتطرفين اليوم كبيرة يؤكدونها بأيديهم وما تقترفه من إجرام، إلا أن خطورتهم غداً قد تكون أكبر بسبب ما يترسب فى رؤوسهم وما تغترفه من أوهام. فبدون تكسير ما فى عقول دعاة التشدد من تصورات صماء ومحاورة ملايين المساكين المعرضين للسير خلف تفسيراتهم ووعودهم فقد لا يزيد الحديث عن نهاية التطرف عن تمنيات حالمة. بعض المتفائلين فى دول الخليج مثلاً يعتقدون أن هزيمة الإخوان المسلمين وفشل حركة حماس وتوجيه جانب كبير من ثروات بلادهم للتوسع فى بناء مشروعات تعليم مدنى ضخمة وإطلاق مشروعات تحديث طموحة تعد شواهدا على السير نحو مرحلة ما بعد الأصولية. لكنها قد لا تزيد عن شواهد خادعة طالما أن معركة تكسير العقول لم تبدأ فى تلك الدول بجرأة وصدق. فمن غير خوض معركة الأفكار الكبرى لن تبدأ مرحلة ما بعد الأصولية وإنما ستتجمع مرةً أخرى أسباب إعادة إنتاجها. فالإخوان المسلمون مثلاً تربت عقولهم على المظلومية وليس على المراجعة النقدية. يحبون الإنكار ويكرهون الإقرار. هزيمتهم التاريخية وقعت لكنهم ما زالوا يعتقدون أن لديهم وعداً إلهياً. عظامهم هشة لكن عقليتهم جامدة. وتلك العقلية هى التى تدفعهم إلى إعادة إنتاج أنفسهم بكل السبل. بالعنف لو لزم، وبمساعدة جماعات جديدة لو تعين، وبالاحتماء بأجنبى لو تطلب، وبممارسة التقية لو توجب. وبالمثل فإن فشل حماس فى غزة لا يعنى نهايتها. فعقلها لا يختلف عن عقل الإخوان فى شيء فضلاً عن أن إسرائيل ببربريتها كثيراً ما ساعدتها على إعادة صناعة نجومها ورموزها وأفكارها. أما ثروة دول الخليج فضررها أكبر من نفعها. فقد مولت وما زالت تمول كثيراً من أفكار التطرف فضلاً عن أن التحديث الذى حققته لم يزد فى معظمه عن بناء فاترينات عرض جذابة كثيراً ما تسببت فى استشاطة غضب المتطرفين دون أن يصاحبها دفاع حقيقى من الدولة عن المستنيرين من أبنائها وهم يحاولون مجابهة أصحاب العقول الصماء ودحض ما فيها من تصورات دينية ودنيوية مغلوطة. إن معارك تكسير العظام قد تساعد على إضعاف «الأصولية المسلحة». لكنها لن تعالج المشكلة ما لم تنطلق معها وتستمر طويلاً بعدها معارك لتكسير ما فى العقول من أفكار مغالية. فتلك المعارك الغائبة هى التى أدى إهمالها إلى ظهور «أصولية شعبوية» يتغذى عليها الغلاة فى الترويج لمشروعاتهم والحشد لمخططاتهم. والمشكلة اليوم لا تقف عند داعش وكل تشدد دينى مسلح أو أصولية متعسكرة، وإنما تمتد لمجابهة «الأصولية الشعبوية» التى أصبحت خزاناً كبيراً لأفكار جامدة وتصورات جامحة تفارق جمال الأصول وعقلانية النصوص فى الإسلام. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات