عن مسرحية «سجن النساء» للكاتبة الكبيرة فتحية العسال التى فقدتها الحياة الأدبية والسياسية منذ شهور قليلة كتبت مريم نعوم سيناريو وحوار مسلسل «سجن النسا»، ومريم ناعوم حققت خلال السنوات القليلة الماضية اسمًا لامعًا صار علامة من علامات الجودة، كما حققت لاسمها أيضًا مخرجة هذه الدراما المميزة «كاملة أبو ذكري». أيّ أن متن هذا العمل الإبداعى الفاتن هو منتج نسوى من الألف وحتى الياء. احتل المسلسل مكانة مميزة فى قلوب المشاهدين والنقاد على حدّ السواء، وارتفع كنجم ساطع أعلى المسلسلات الرمضانية المتعددة وظل مثل قصيدة آسرة ولافتة للانتباه أو لحن استثنائى فاتن يصعب تكراره. فبشاعرية شديدة الرهافة حبست مبدعات العمل الظلمَ وتخلف المجتمع الذكورى والفقر والمرض والجهل والظلامية خلف جدران السجن. صحيح أن أجساد النساء سجنت فى زنازينه المظلمة، لكن حكاياتهن وأرواحهن انطلقت حرة لتستكشف العالم، وشبكات علاقات البشر، وجشع الذئاب من الرجال، وانحراف الساقطات من النساء، وأسباب تجبر بعض عباد الله على بعض، وقصص الفقراء الذين يمثلون ملح هذه الأرض.وصحيح أن الرجال خارج جدران هذا السجن على رغم أنهم وفقًا للمسلسل هم السبب الرئيسى لدخول النساء إليه باستغلالهن واللهو بمقدراتهن الاجتماعية والاقتصادية حتى ينتهى مشوار المرأة معهم بإلقائها فى دهاليز السجن المعتمة لتقتر فيه ندمها..صحيح أن الرجال تحايلوا للفوز بحرياتهم، ولكنهم سجنوا أنفسهم وعلقوا إلى الأبد على سلم الرذائل بدرجاته المختلفة. مسلسل «سجن النسا» الإضاءة فيه مائلة إلى اصفرار الخريف حين يصيب الجدبُ قطبًا من أقطاب الحياة باستبعاده والتنكيل به، بنعومة ينبعث اللون الأصفر من رداء السجَّانات ومن الطرقات الفقيرة المتربة ومن البنايات التى تجثم على سكانها ومن شحوب النسوة الحزانى اللاتى تمنحن كل ما لديهنَّ دون انتظار كلمة شكر واحدة.وتفاصيل مشاهد المسلسل جديدة ولا تستطيع اقتناصها إلا روحٌ مبدعةٌ كبيرة، والحوار يجمع بين العمق والبساطة والأصالة لأنه نابع من طين الأرض وعبقها ولذلك وصل ببساطة إلى قلوب الملايين. بكل هذه المقومات لهذا العمل الرائع وأكثر يعتبر «سجن النسا» هو الإجابة المثلى للرد على بعض الأسئلة السلفية التافهة التى عادت للظهور على سطح بركة الرجعية فى الآونة الأخيرة. فلقد حدث وأن صحونا منذأيام على جملة خرقاء مكتوبة بكل ركاكة ممكنة لأحد الكتاب السلفيين، تدعى أن المرأة كائن غير مؤهل للفعل الإبداعى وخصوصًا الكتابة. وحدث أن مرت فى النهر مياه كثيرة منذ ردد ذكور القبيلة هذه الفكرة شديدة القِدم، والتى بناء عليها حبسوا المرأة فى الحرملك قرونًا طويلة، ولم يسمحوا لها بالقيام إلا بوظائف محددة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، والمدهش أن هذه الوظائف كانت من أجل متعته وراحته بالطبع. الكاتب السلفى لا يعرف أن العالم قام بثورات علمية وتكنولوجية وأنثروبولوجية أثبتت بقياساتها الحديثة أن المرأة لا تقل ذكاء عن الرجل ومن ثم قوضتْ نظرية أرسطو وجعلتها من أساطير الأولين.. تلك النظرية التى كبَّلت المجتمعات لقرون طويلة دامغة إياها بدمغها الأرسطى والتى كانت تدعي: (الرجلُ إنسانٌ كاملٌ خُلق بيد الإله، والمرأةُ منتوجٌ اشتقاقيٌّ منه، وعاءٌ لخصوبته المنوية. يسيطر الرجل على المجتمع لأنه يمتلك ذكاءً أعلى من المرأة). مسكين المبدع السلفى حفيد أرسطو ومسكين «أرسطو».. ماذا لو أتيح له الآن أن يطلع على نتائج العلم الحديث؟ الكاتب السلفى لا يعرف أيضًا أن آخر حرملك قد سقط مع سقوط الإمبراطورية العثمانية التى كانوا يطلقون عليها: رجل العالم المريض، وأن العالم قد تخلص من التفرقة العنصرية والتمييز فى كل بقاع العالم على أساس الجنس أو الدين، ولم تبزغ شمس الألفية الثالثة إلا وقد سُنت القوانين التى تجرم كل أشكال التمييز. حدث قديمًا وأن ردد الرجل الأبيض الفكرة الركيكة نفسها مع تبديل كلمة المرأة بكلمة الزنجي، حيث كرر أيضًا بكل صلافة أن الزنجى غير قادر على التفكير أو الإبداع، ولذلك استغله واستخدمه عبدًا من أجل راحته وإشباع جشعه وتاجر فيه بيعًا وشراء، وما زال الغرب حتى هذه اللحظة يكفر عن جريمته العنصرية، وقد نجد نصف آثاره الأدبية الآن تؤرخ وتدين كل جرائم الغرب إزاء الإنسانية. وحدث قديمًا وأن ردد «هتلر» الفكرة الركيكة نفسها مع تبديل كلمة المرأة بالإنسان غير الآري، حيث كرر أيضًا بكل صلافة أن الجنس الآرى الألمانى هو الجنس البشرى المتفوق دون بقية أجناس البشرية. وكانت النتيجة أن فقد العالم ملايين الأرواح فى الحرب العالمية التى هى أشرس حرب عرفها العالم حتى الآن. الآن توجد عقوبات رادعة على مَن يردد أفكار النازية أو الأفكار الداعية للتفرقة العنصرية والتمييز على أساس اللون أو الجنس أو الدين. وجرّب أن تقول كلمة: «نازي» الآن أمام الألمانى ليهيج مثل هياج الأخرس عندما يحكون على أنوفهم أمامه. أظن أنه يستحيل أن يردد أيّ كاتب حقيقى فى العالم هذه الفكرة الموتورة الآن، كما أظن أنه ليس عدلاً أن تقوم المرأة المبدعة بتضييع وقتها للرد على فكرة تم تقويضها علميًا وتطبيقيًّا منذ عقود، ليس عدلاً لأنها أثبتت أنها مؤهلة للكتابة ومثابرة أكثر حتى من الرجل إذ إنها حققت خلال فترة قصيرة وبعد خروجها من محبسها الطويل مكانة أدبية عوضت بها ما فاتها، وأصبحت أسماء المبدعات لا يمكن ببساطة حصرها الآن. وهنا تكون الأعمال الفارقة مثل «سجن النسا» هى الرد الأمثل. وأخيرًا أظن أن القضاء هو الجهة المعنية بالرد على هذه الدعاوى التافهة والتى تعود بنا بخطوات واسعة إلى الوراء.