بعد عشرين عاما من المذابح العرقية التى راح ضحيتها 800 ألف انسان فى رواندا أشم الآن رائحة ابادة جماعية محتملة فى جنوب السودان كان أحدث مشاهدها قيام مسلحين بقتل مئات من المدنيين يحتمون بمسجد وكنيسة ومستشفى فى «بانتيو» عاصمة ولاية «الوحدة» عقب استيلاء المتمردين الموالين لرياك مشار عليها قبل أيام. ومثلما استخدم المتطرفون»الهوتو» الاذاعة فى تحريض القتلة وتوجيههم لقتل أشخاص بعينهم من عرقية»التوتسي» ومن «الهوتو» المعتدلين فى رواندا عام 1994استخدم المحرضون فى «بانتيو» الاذاعة المحلية لتوجيه رسائل تحرض على الكراهية والقتل واغتصاب النساء لإجبار أبناء العرقيات المغايرة على الخروج منها وفقا لما أعلنه توبى لانزر كبير مبعوثى الاغاثة الدوليين .وقال أيضا ان القتلة قضوا يومين فى ملاحقة الذين يعتقدون أنهم معارضون لهم من المواطنين والتجار القادمين من دارفور فى السودان الشمالى وحتى من أبناء عرقيتهم الذين لم يتركوا المسجد أوالكنيسة أوالمستشفى لاستقبالهم والترحيب باستيلائهم على المدينة فى واحد من أكبر المشاهد الصادمة للضمير الانسانى منذ تفجر الصراع الدموى على السلطة بين الرئيس سلفا كير المنتمى لقبيلة «الدينكا» من جانب ونائبه المقال مشار المنتمى لقبيلة «النوير» وباقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية المعزول والمنتمى لقبيلة «الشلك» من جانب آخر فى منتصف ديسمبر 2013. أصابع الاتهام الدولية وجهت نحو المتمردين بقيادة مشار الا أنه نفى ذلك قائلا ان قواته التى قاتلت فى «بانتيو» من أبناء المنطقة ولا يمكن أن يقتلوا أهلهم. لكنه تجاهل أن هناك ميليشيا مدنية موالية له تسمى «الجيش الأبيض» سبق أن اعتدوا على تجمعات لأبناء قبيلة»الدينكا»،هذا اذا صح ما قاله ان متمرديه منضبطون.وقبل ذلك بأيام لقى نحو 58 مدنيا مصرعهم فى مجمع للأمم المتحدة فى «بور» عاصمة ولاية «جونقلي» يحتمى به 5000 من أبناء قبيلة «النوير» عندما تظاهر 350 شابا مسلحا بأنهم يريدون تقديم التماس لمسئولى حفظ السلام ثم اقتحموا المجمع وأطلقوا نيران أسلحتهم عشوائيا قبل أن يقتل الجنود الدوليون بعضهم ويجبروا الباقين على الفرار،وهو الهجوم الذى أدانه مجلس الأمن الدولى وقال انه يمكن أن يعد جريمة حرب. وقبل أن تتحول المذابح الى ما يشبه الابادة الجماعية فى رواندا بأعمال انتقامية متبادلة بين «الدينكا» و«النوير» أكبر قبيلتين فى الدولة وربما بمشاركة قبائل أخرى فقدت أبناء لها فى المجازر لا بد من الاسراع بتحديد هوية الذين ارتكبوها وتقديمهم للمحاكمة العاجلة فى الداخل أواحالتهم الى المحكمة الجنائية الدولية اذا تعذر ذلك. فليس مستبعدا أيضا أن يكونوا من الموالين لسلفا كير للانتقام من الضحايا أولالصاق التهمة بأتباع مشار لإضعاف موقفه فى مفاوضات أديس أبابا وتأليب الدول الكبرى عليه.فجيش الحكومة وأتباعه من المسلحين المدنيين ليسوا أبرياء من دماء المدنيين بدليل أن الأممالمتحدة سبق أن اتهمتهم بإعاقة عمل بعثتها الانسانية هناك وباستعداء المواطنين عليها ومحاولة قتل أبناء «النوير» بالهجوم على مجمعات المنظمة الدولية التى احتموا بها.ويتوقع مراقبون كثيرون أن تسعى كل من «الدينكا»و»النوير» للانتقام لضحاياهما فى أقرب فرصة اذا لم يحدث تحرك سريع لتحديد المسئولين عن المذابح التى ارتكبت وتشديد اجراءات الأمن لحماية المدنيين بالتزامن مع احراز تقدم فى مفاوضات حل الأزمة وتشديد الالتزام باتفاق وقف اطلاق النار الموقع فى يناير الماضى لتهدئة الخواطر وبعث الأمل فى النفوس. فقد أعلن لانزر أن آلاف المدنيين تدفقوا على مجمع الأممالمتحدة فى «بانتيو» عقب المجزرة الأخيرة متوقعين مزيدا من أعمال العنف. كما حذر من أن المجمع يقيم فيه 25ألف نازح رغم أن مياهه ومراحيضه لا تكفى الا 350 فقط، وهو ما يعنى المزيد من المعاناة والأمراض للنازحين حتى لو وفرت القوات الدولية لهم الأمن. الأممالمتحدة طالبت بتحقيق مفصل ومعاقبة مرتكبى الأعمال الوحشية، لكن حبال القضاء طويلة والمحاكمات تستغرق سنوات كما حدث فى رواندا والكونغو وصربيا وليبيريا ودارفور مما يفقد أقارب الضحايا الأمل فى معاقبة مرتكبى الجرائم ويدفعهم لمحاولة الثأر بأيديهم ويجعل عامل الردع شبه غائب. فلم يرتدع مرتكبو مذبحة «بانتيو» من احالة أمثالهم الى المحكمة الجنائية الدولية أومحكمتى جرائم الحرب فى رواندا وصربيا بتهمتى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية فظلوا يومين كاملين يفتشون فى أماكن تجمع النازحين وأصحاب الجنسيات الأخرى ونقلوا المنتمين لقبائل ودول لا يعتبرونها عدوة لهم الى مناطق آمنة ثم قتلوا الآخرين. لن يتوقف الصراع الذى أودى بحياة الآلاف وشرد نحو مليون شخص فى الداخل ودول الجوار الا بحل المشكلة الأساسية وهى عدم العدالة فى توزيع السلطة والثروة بين قبيلة الدينكا المتهمة بالهيمنة من جانب والقبائل الأخرى وفى مقدمتها «النوير» و»الشلك» من جانب آخر.وهذا لن يتم الا بتخلى القيادات عن عقيدة اقصاء الآخر وعن التعنت فى مفاوضات أديس أبابا،وهو ما لن يتحقق الا بضغوط أشد من القوى الكبرى ودول الجوار قبل أن يتحول جنوب السودان الى وصمة عار أخرى على جبين المجتمع الدولي. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى