إن الباعث الأول لفلسفة' إقبال' التجديدية في الفكر الإسلامي هو التوفيق بين هذا الفكر الناهض, وروح الثقافة الغربية الحديثة التي يردها هي أيضا إلي تبني القضايا التي بدأها المسلمون ثم تخلوا عنها بالدرس والتمحيص. فيعتقد' إقبال' أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم نحو الغرب ولا غبار في رأيه علي هذا المنزع, فالثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهائلة في ثقافة الإسلام. وهكذا نراه ينطلق في أفكاره التجديدية من أول لحظة تحت ضغط تأثره بالثقافة الغربية, وحرصه علي ملاحقتها والتوفيق بين الإسلام وبينها, وإعادة بناء الفكر الديني من جديد علي أساس من هذا التوفيق بين الثقافتين, وهذا أول خلل في أساس مشروعه لأنه سوف يحمل النصوص ما لا تحتمل ويعيد تفسير هذه النصوص برؤية مزودة بالفلسفة الأوروبية معتمدا علي الانتقاء من عناصر الثقافتين فيصيب ويخطئ, ويقع في التخبط والتناقض فهو يصيب حين يرد الدين إلي الأساس الشعوري, الذي يحتاج مع هذا الأساس إلي إثبات مبادئه بالبرهان العقلي, ويوسع من رؤيته فيذهب إلي أن الدين ليس أمرا جزئيا, ليس فكرا مجردا فحسب لا شعورا مجردا ولا عملا مجردا بل هو تعبير عن الإنسان كله. ويأخذني العجب من تناقض' إقبال' حين يشير إلي التأثير الضار للفلسفة اليونانية علي عقول مفكري الإسلام القدماء فمع أنها وسعت آفاق النظر العقلي غشت علي أبصارهم في فهم القرآن. وهذا تعميم غير دقيق, ففهم القرآن عند الغالبية العظمي من العلماء والمفسرين كان يعتمد علي تحليل العبارة اللغوية علي الرغم مما داخله من أخبار منقولة عن الإسرائيليات وغيرها. ومع انتقاده للقدماء يعود فيتأثر هو في آرائه الإسلامية بالفلسفات الغربية الحديثة. ويصيب' إقبال' حين يقرر أن الإسلام لا يفصل بين المثال والواقع فالمثال والواقع ليسا في نظر الإسلام قوتين متعارضتين لا يمكن التوفيق بينهما, وإنما يتم التوحيد بينهما بما يبذله المثال من سعي موصول ليجعل الواقع ملائما معه بحيث ينتهي الأمر إلي استغراقه فيه واندماجه في ذاته. وهذه نظرة صائبة كما قلت إذ العالم الطبيعي المادي ليس في نظر الإسلام باطلا ولا عبثا وإنما أقامه الله سبحانه علي الحق, وجعله آية علي عظمته وقدرته, وجعل من الميزان العادل الذي وضع حركة السموات والأرضين عليه منهاجا يعتبر به الإنسان ليعدل هو الآخر في الميزان ولا يطغي. وعلي الرغم من الجهد الفلسفي الذي بذله' إقبال' فإن هذه الحقيقة التي انتهي إليها حقيقة مقررة يعرفها المسلمون خاصتهم وعامتهم منذ أن أنزل القرآن الكريم حتي اليوم, ففي الإسلام صلح وتوافق بين الروح والمادة, وبين المثال والواقع, فليس المسلم بحاجة إلي الإنعزال ليبلغ المثال مستبطنا أعماق ذاته إذ وراء العالم الواقعي نفسه حقيقة روحية شاملة, ولكن' إقبالا' لتأثره بالفلسفة الغربية خاصة فلسفة الفيلسوف الفرنسي' برجسون' صاحب النظرية التي يسميها بالتطور الخلاق يخلط تلك الحقيقة المعروفة من نصوص القرآن والسنة بهذا التصور الفلسفي الذي انتقاه من رؤية' برجسون' ويحاول تحميل النصوص أو صبغها بمسحة من هذه الفلسفة التي يلخصها' برتراندراسل' وهو ينقدها بأن الزمن عند' برجسون' ليس سلسلة من لحظات أو أحداث متفرقة بل هو نمو متصل لا يمكن فيه التكهن بالمستقبل لأنه جديد حقا ولذلك لا يمكن تخيله, وكل شيء يقع حقا ولا يزول( شأن الحلقات المتتابعة في ساق الشجرة) وهكذا فإن العالم يسير دائما في نمو يزداد اكتمالا وخصبا وكل شيء حدث يظل باقيا في الذاكرة الخالصة للحدس, وهي ذاكرة تقابل الذاكرة الزائفة للمخ, وهذا النظام المطرد هو الديمومة بينما الدافع إلي الخلق الجديد هو' الدافع الحيوي' واستنفاذ الذاكرة الخالصة للحدس مسالة مرهونة برياضة النفس. ويستعير' إقبال' هذه النظرية في فلسفته بطريق غير مباشر للتعبير عن رؤية الإسلام للعالم المتحرك مرحلة بعد مرحلة, وحركة الإنسان القلقة في سبيل بحثه عن آفاق جديدة يفصح فيها عن نفسه, ويفسر قوله تعالي( لتركبن طبقا عن طبق) بقوة الإنسان المبدعة وروحه المتصاعدة التي تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلي حالة أخري, ويري أن الزمان بوصفه' تقديرا' هو ماهية الأشياء ذاتها كما جاء في القرآن( إنا كل شيء خلقناه بقدر) من سورة القمر الآية,49], فتقدير شيء إذن ليس قضاء غاشما يؤثر في الأشياء من خارج ولكنه القوة الكامنة التي تحقق وجود الشيء وممكناته التي تقبل التحقق والتي تكمن في أعماق طبيعته, وهي التي يسميها وحدة' الديمومة', وهي مصطلح فلسفي من مصطلحات' برجسون' المعروفة, فالحقيقة القصوي ديمومة بحتة وهي' الذات الإلهية' في نظر' برجسون وإقبال'علي السواء. ويمضي' إقبال' في جميع آرائه علي هذه السنة من التوفيق بين الآراء الفلسفية الحديثة وبين القرآن الكريم, يظهر ذلك في تفسيره لقصة خلق الإنسان بتفسيرات رمزية تلائم المعاني المتطورة للوجود الإنساني, وتفسيره للبعث علي أنه حالة فوز للنفس الكاملة فالبعث عنده ليس حادثا من خارج بل كمال لحركة الحياة في داخل النفس محاولا التوفيق بين عقيدة البعث في الإسلام وبين مذهب' نيتشه' الفيلسوف الألماني في' العود الأبدي' وظهور الإنسان المتميز بعد فناء الضعفاء. وخلاصة رأيي أن' إقبالا' لم يكن مجددا بالمعني الدقيق وإنما كان معجبا ببعض الفلسفات الغربية الحديثة وكان كل جهده أن يوفق بين الدين وهذه الفلسفات, ويكفينا أن المستشرق' هاملتون جيب' كان يتعجب من نشر كتاب يحتوي علي مثل هذه الأفكار بين المسلمين. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل