الجبلاوي: الرئيس السيسي حافظ على سيناء بالنهضة والتعمير ومحاربة الإرهاب    وزير التعليم العالي يهنئ رئيس الجمهورية والشعب المصري بذكرى تحرير سيناء    استمرار انعقاد الجلسات العلمية لمؤتمر كلية الطب البيطري بجامعة كفر الشيخ    البداية من فجر الجمعة.. تعرف على مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024    محافظ القليوبية يوجه باستغلال الجزر الوسطى بإقامة أنشطة استثمارية للشباب    برلماني: مصر تبنت خطة تنموية شاملة ومتكاملة في سيناء    وزير التنمية المحلية يتابع مع البنك الدولى الموقف التنفيذي لبرنامج التنمية المحلية بصعيد مصر    انقطاع الاتصالات والإنترنت عن وسط وجنوب غزة    الدفاع المدني بغزة: الاحتلال يستخدم أساليبًا إجرامية بحق المدنيين العزل    عمارة: كلمة الرئيس فى ذكري تحرير سيناء حملت رسائل قوية من أجل الاستقرار والسلام    صحيفة: ليفربول يعلن سلوت مديرًا فنيًا للفريق نهاية الأسبوع    النيابة تأمر بتفريغ كاميرات المراقبة فى ضبط عصابة سرقة الشقق السكنية ببدر    إهناسيا التعليمية ببني سويف تنظم مراجعات شاملة لطلاب الثالث الثانوي (تفاصيل)    «بنات ألفة» يحصد جائزة أفضل فيلم طويل ب«أسوان لسينما المرأة» في دورته الثامنة    إيهاب فهمي عن أشرف عبدالغفور: أسعد أجيالًا وخلد ذكراه في قلوب محبيه    تامر حسني وأنغام نجوم حفل عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية    «الرعاية الصحية» تستعرض إنجازات منظومة التأمين الصحي الشامل بجنوب سيناء «انفوجراف»    عودة ثنائي الإسماعيلي أمام الأهلي في الدوري    الدورة 15 لحوار بتسبيرج للمناخ بألمانيا.. وزيرة البيئة تعقب فى الجلسة الأفتتاحية عن مصداقية تمويل المناخ    ضمن الموجة ال22.. إزالة 5 حالات بناء مخالف في الإسكندرية    السيطرة على حريق نشب أمام ديوان عام محافظة بني سويف    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    الأردن يدين سماح الشرطة الإسرائيلية للمستوطنين باقتحام الأقصى    «المحامين» تعلن موعد جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد بجميع الفرعيات    أنطوي: أطمح للفوز على الزمالك والتتويج بالكونفدرالية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تشافي يبرّر البقاء مدربًا في برشلونة ثقة لابورتا ودعم اللاعبين أقنعاني بالبقاء    علماء يحذرون: الاحتباس الحراري السبب في انتشار مرضي الملاريا وحمى الضنك    كيفية الوقاية من ضربة الشمس في فصل الصيف    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    عقب سحب «تنظيم الجنازات».. «إمام»: أدعم العمل الصحفي بعيداً عن إجراءات قد تُفهم على أنها تقييد للحريات    جدول امتحانات الصف الأول الثانوي للفصل الدراسي الثاني 2024 محافظة القاهرة    أحدهما بيلينجهام.. إصابة ثنائي ريال مدريد قبل مواجهة بايرن ميونخ    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    رئيس المنصورة: أتمنى أن يحظى الفريق بدعم كبير.. ونأمل في الصعود للممتاز    بيلاروسيا: في حال تعرّض بيلاروسيا لهجوم فإن مينسك وموسكو ستردّان بكل أنواع الأسلحة    رئيس البرلمان العربي يهنئ مصر والسيسي بالذكرى الثانية والأربعين لتحرير سيناء    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    موعد مباراة الزمالك وشبيبة أمل سكيكدة الجزائري في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    محافظ الجيزة يهنئ الرئيس السيسي بالذكرى ال42 لعيد تحرير سيناء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زكي الميلاد: محمد إقبال وتجديد التفكير الديني في الاسلام (1-2)
نشر في البديل يوم 09 - 00 - 2013


«ملخّص»
محاولة محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الاسلام» تعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتمم في العالم العربي والإسلامي, ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي. وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائراً في طريقة التعامل معها، قبضاً وبسطاً، إقداماً وإحجاماً. ويعد هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر.
- 1 –
المنزلة والقيمة
لعل أول عمل يمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يتتبع ويؤرخ للأعمال والمؤلفات التي بحثت وعالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين، هو عمل الدكتور محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» والذي هو عبارة عن محاضرات، ألقاها إقبال باللغة الانجليزية، ما بين عام 1928م 1929م، تلبية لطلب الجمعية الإسلامية في مدراس بالهند، وأكملها في مدينتي حيدر أباد وعليكرة الهنديتين، وصدرت في كتاب باللغة الإنجليزية مع بداية ثلاثينات القرن العشرين، وترجمت إلى اللغة العربية وصدرت في القاهرة، منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
وقد اشتهر إقبال كثيراً بهذا الكتاب، ويعد كتابه الأساسي الذي يشرح فيه أفكاره وتأملاته، والفلسفة التي يتبناها ويدافع عنها، وطبيعة المهمة الفكرية التي يفترض أن ينهض بها المفكر المسلم في العالم الحديث.
كما أنه يمثل آخر مؤلفات إقبال غير الشعرية، وكسب اهتماماً يفوق بصورة لا تقارن رسالته لنيل الدكتوراه في الفلسفة، التي حصل عليها من جامعة ميونخ في ألمانيا عام 1908م، وكانت بعنوان «ازدهار علم ما وراء الطبيعة في إيران» والتي حاول فيها كما يقول أن يقدم رسماً لاستمرار المنطق الفكري الفارسي، وشرحه في الفلسفة الحديثة بصورة لم يتم شرحه من قبل حسب ادعاء إقبال نفسه وأن يبحث عن التصوف بالطريقة العلمية الأكثر تطوراً على حد وصفه، ويؤكد أن التصوف نتيجة لازمة لحركة القوى العقلانية والأخلاقية التي توقظ الروح من هجوعها إلى المبدأ الأسمى للحياة.
ومع هذه الأهمية التي يعطيها إقبال لرسالته، إلا أنها لم تعرف على نطاق واسع، ونادراً ما كان يُرجِع إليها الدارسين والباحثين، بخلاف كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام».
ولو لا هذا الكتاب الأخير, لكان من الصعب الكشف عن طبيعة فلسفة إقبال، وأسسها ومبانيها، والتعرف عليها بصورة منظمة، وإمكانية الحديث عنها، والعودة إليها. فقد جاء هذا الكتاب لينقل فلسفة إقبال من عالم الأدب إلى عالم الفكر، ومن عالم الشعر إلى عالم النثر. فإقبال كان بحاجة إلى هذا الكتاب لكي تُعرف فلسفته وأفكاره وتأملاته، بصورة يمكن تحليل عناصر تلك الفلسفة، والتعرف على أبعادها ومكوناتها، وأسسها ومبانيها. مع ذلك تبقى الضرورة قائمة للعودة إلى مؤلفاته الشعرية المفعمة بروح الفلسفة، ولتعميق المعرفة بفلسفته. فقد حاول إقبال أن يبلور فلسفته عن طريق الشعر، وحوّل الشعر إلى حكمة وفلسفة، وهذه هي عظمة الشعر حين يتحول إلى حكمة وفلسفة.
ولعل من حسن الصدف أن يكون هذا الكتاب في طليعة المؤلفات التي عالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي، لكي يبدأ الحديث منه، ولا شك أنها بداية قوية، ولو كنا مخيرين في اختيار بداية لدراسة هذا الموضوع لما عدونا هذا الكتاب، وما قدمنا عليه كتاباً آخر.
لهذا كان يفترض أن يسجل كتاب إقبال بداية مهمة، تساهم في دفع وتطوير الحديث عن موضوع التجديد في الفكر الإسلامي. فنقطة البداية تشكل أهمية دائماً؛ لأنها تضع الأساس، وتكشف عن طبيعة المسار. وغالباً ما يعتني الباحثون في تحديد مثل هذه البدايات، ويبذلون جهداً في التعرف عليها، وقد تعترضهم العديد من الصعوبات في سعيهم إلى الوصول إليها؛ لأن من دون تحديد نقطة البدء لا يمكن معرفة الطريق، والوصول إلى الهدف.
ومنذ أن تعرفت على هذا الكتاب لفت انتباهي بقوة، لكونه يتطرق لموضوع تجديد التفكير الديني منذ وقت مبكر، يرجع إلى العقود الأولى من القرن العشرين، دون أن يُعرف هذا الكتاب على نطاق واسع، وبالشكل الذي يساهم في ترسيخ مفهوم التجديد في المجال الديني الإسلامي. ومع أول معرفة بهذا الكتاب سعيتُ وباهتمام للوصول إليه. وكنت شديد الاهتمام بالاطلاع عليه، وتكوين المعرفة بفكرته أو أفكاره حول مسألة التجديد في التفكير الديني الإسلامي. وحين هممت بمطالعته وإذا بي أتعرف على كتاب اعتبرته واحداً من أثمن ما أنتجته المعرفة الإسلامية في العصر الحديث. وتعجبتُ حينها كيف يكون هذا الكتاب مغموراً ومجهولاً، وبعيداً عن التداول والاهتمام، وإلى اليوم لم يتغير وضعه الذي كان عليه من قبل، حيث ما زالت المعرفة به محدودة للغاية، وقليلون الذين تعرفوا على هذا الكتاب، واطلعوا عليه، حتى من المثقفين أنفسهم، ومن طلبة العلم كذلك.
وحينما اطلعتُ على هذا الكتاب وجدته بأنه كتاب لا تكفي مطالعته لمرة واحدة، كما هو حال عشرات بل مئات الكتب والمؤلفات التي تصدر هنا وهناك، لا تكفي مطالعته لمرة واحدة لجودة أفكاره وحيويتها، وعمق معارفه وغزارتها.
ولو كنا ندرك أهمية وقيمة هذا الكتاب لقلنا إن الفلسفة الإسلامية تنبعث من جديد مع هذا الكتاب، وإننا مع فيلسوف إسلامي لا يقل عن أهمية ومنزلة فلاسفة ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وفلاسفة أوروبا عموماً منذ ديكارت أبي الفلسفة الأوروبية الحديثة كما تصفه الدراسات الفلسفية هناك، إلى هابرماس في ألمانيا، أو كارل بوبر في بريطانيا، أو بول ريكور في فرنسا. ولم يكن غريباً على الإطلاق أن يأتي وصف الفيلسوف لإقبال من المفكرين الألمان، وهم الذين وُصفوا بأنهم يمثلون المنبع الثاني أو العصر الثاني للفلسفة في أوروبا، بعد عصر اليونان الذي مثل منبع الفلسفة الأول.
أقول هذا الكلام وإني أحترز دائماً من المبالغة، والحذر من الوقوع فيها. ولو كانت الفلسفة حية عند المسلمين في هذا العصر، لوجدنا في كتاب إقبال نبعاً جديداً للفلسفة التي تكتسب روحها وجوهرها من القرآن الكريم. وهذا ما سعى إليه إقبال بإدراك واسع وعميق منه وهو يحاول، كما يقول وبثقة عالية، إعادة بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة.
- 2 -
البواعث والأرضيات
لقد شرح إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» طبيعة البواعث والأرضيات والسياقات، الذاتية والموضوعية والفكرية التي حرضته على تبني فكرة تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني، وتحديد طبيعة المهمة الفكرية التي أراد النهوض بها، والتي يفترض أن ينهض بها حسب رأيه المفكر المسلم في العالم الحديث.
فقد جاء هذا الكتاب بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، الحدث الذي غيّر معه صورة العالم الإسلامي برمته، وأحدث فيه هزة عنيفة للغاية، وفتح نقاشات واسعة ومتوترة بين معظم النخب الدينية والفكرية والسياسية حول حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، النقاشات التي امتدت رقعتها على مساحة العالم الإسلامي، طوله وعرضه، من تركيا إلى مصر، ومن الشام إلى الهند. حيث وجد العالم الإسلامي نفسه، ولأول مرة أنه أصبح مجزأ ومفككاً بين أجزائه، وتلاشت ما بينه من رابطة حتى لو لم يكن لها من أثر إلا ذلك الأثر الرمزي الباهت. حيث كان من الصعب في العالم الإسلامي التفكير من دون هذه الرابطة، التي ظلت معه ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً، تغذي إحساس العالم الإسلامي بذاته وكيانه وهويته.
ومع قيام ما سُمي بدولة تركيا الحديثة، التي أعلنت عن نهاية دولة الخلافة العثمانية، تفجر في العالم الإسلامي أيضاً نقاش وسجال، كان أشبه بصدام بين الأفكار والثقافات والمرجعيات. وذلك حين أرادت تركيا التخلي عن هويتها الإسلامية، والانسلاخ عن محيطها الإسلامي، والتنكر لتاريخها وتراثها وتقاليدها، واندفعت في المقابل وبقوة نحو أوروبا واللحاق بها، ولتكون قطعة منها. وتبنت العلمانية مرجعية فكرية وقانونية لها، وأخذ بعض مثقفي تركيا يبشرون بحماس واندفاع للأفكار والفلسفات الأوروبية، باعتبارها تمثل القاعدة الفكرية والمرجعية لبناء الدولة الحديثة، وللتكيف مع مقتضيات العالم الحديث، والولوج في عالم الحداثة والتقدم، ولإصلاح العالم الإسلامي والفكر الإسلامي، حسب منظوراتهم.
وقد أحدثت هذه الأفكار والاتجاهات جدلاً وسجالاً في وقتها، وكأن العالم الإسلامي أخذ ينقسم على نفسه فكرياً وثقافياً، مع اشتداد الجدل النقاش حول فكرة الهوية، وامتداد هذا الجدل لموضوعات وقضايا حساسة وحرجة للغاية مثل القرآن الكريم والعبادات والتشريعات الدينية، إلى موضوعات المرأة وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية.
ولم يكن بالإمكان النقاش الهادئ آنذاك حول تلك الموضوعات الحساسة والحرجة, في ظل أمزجة نفسية وفكرية متضاربة، بين أمزجة يطبعها الاندفاع والحماس، وأمزجة تطبعها المخاوف، ويساورها القلق.
وأمام انكماش وتراجع العالم الإسلامي كانت أوروبا تتوثب للانقضاض عليه وتفكيكه وإحكام السيطرة عليه. فقد شعر الأوروبيون لأول مرة في تاريخهم الحديث، أنهم استطاعوا أن يوجهوا ضربة ساحقة ومؤلمة إلى العالم الإسلامي، بعد الإطاحة بدولة الخلافة العثمانية، التي أخافتهم بتعاظم قوتها العسكرية، وامتداد نفوذها الذي تجاوز محيط العالم الإسلامي ووصل إلى عمق أوروبا إلى فيينا وحدود فرنسا. وتصور الأوروبيون آنذاك أن باستطاعة دولة الخلافة العثمانية بعث وتجديد الحضارة الإسلامية في العالم الحديث، الخيال الذي كان يبعث في نفوسهم هواجس الخوف والقلق.
لذلك أخذ الأوروبيون يدافعون عن النموذج التركي الحديث، ويبشرون به، ويقدمونه إلى العالم الإسلامي على أنه يمثل النموذج العصري في بناء الدولة الحديثة. كما وجد الأوروبيون أيضاً فرصتهم في الترويج لأفكارهم ومرجعياتهم في العالم الإسلامي, الذي أصبح بحكم الواقع تحت سيطرتهم وهيمنتهم.
في ظل هذه الوضعيات والسياقات جاء كتاب إقبال، الذي اعتبر فيه أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، وكل الذي يخشاه إقبال هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية, قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها.
وقد استوقفت هذه الفكرة نظر بعض المفكرين الذين عاصروا مرحلة إقبال، أو الذين جاؤوا من بعده. فمن هذه الفكرة حاول المستشرق البريطاني هاملتون جيب تحليل أفكار إقبال في تجديد التفكير الديني. وبدأ تحليله من هذه الفكرة لكونه يبحث عن علاقة التأثيرات الغربية في تشكيل الروح العصرية في الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي، وذلك في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام».
وأشار إليها مالك بن نبي مرتين في كتابه «وجهة العالم الإسلامي» وعقّب عليها مرة بقوله: «لقد كان ينبغي ليكون الحق مع إقبال، أن تكون أوروبا، قد آتت عالم الإسلام روحها وحضارتها، أو أن يكون هو قد سعى فعلاً ليكتشفها في مواطنها» (1) وهذا الذي لم يحدث في نظر ابن نبي. وفي المرة الثانية اعتبر أن إقبال حين تحدث بتلك الفكرة لم يذكر سوى ذلك الجانب الخاص، في ظاهرة سبق أن أدركها ابن خلدون في عمومها حين قال: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب(2).
ومن جهته أراد إقبال أن يلفت النظر إلى ما أحدثته تلك الظاهرة من تأثيرات في ذهنيات العالم الإسلامي، وما فرضته من تحديات فكرية وعقدية وعلمية، وإلى ما جاءت به من كشوفات علمية وفتوحات معرفية. فمن جهة يرى إقبال أن شباب المسلمين في آسيا وأفريقيا يتطلبون توجيهاً جديداً بعقيدتهم، ومن جهة أنه لا سبيل حسب رأيه إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص. ومن جهة ثالثة لابد من أن يصاحب يقظة الإسلام في نظره، تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا كما يقول إقبال في إعادة النظر إلى التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر.
وحتى لا يكون هذا الكلام الأخير ملتبساً، فقد أوضح إقبال الخلفيات التي بنى عليها ذلك القول، فأوروبا، حسب رأيه كانت «خلال جميع القرون التي أصبنا فيها بجمود الحركة الفكرية، تدأب في بحث المشكلات الكبرى التي عُني بها فلاسفة الإسلام وعلماؤه عناية عظمى. ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حد له في مجال الفكر والتجربة.. فظهرت وجهات نظر جديدة، وحررت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجربة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد… فنظرية آينشتين جاءتنا بنظرة جديدة إلى الكون، وفتحت آفاقاً جديدة من النظر إلى المشكلات المشتركة بين الدين والفلسفة» (3).
فالرؤية كانت واضحة في تفكير إقبال، ويرى أن بإمكان العالم الإسلامي الانخراط في العالم الحديث، وإتمام التجديد الذي ينتظره، فالعالم الإسلامي حسب قوله: «وهو مزود بتفكير عميق نفاذ، وتجارب جديدة، ينبغي عليه أن يقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأناً من مجرد الملائمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها» (4).
فالسرعة التي كانت تتقدم فيها أوروبا في العالم، لا ينبغي أن تدفع العالم الإسلامي نحو الخروج من العالم الحديث، أو العزلة عنه تحت ضغط الإحساس بالخوف أو الضعف أو العجز، وإنما بالنفوذ إلى العصر والانخراط في العالم عن طريق التزود بتفكير عميق، والاستفادة من التجارب الجديدة، والإقدام بشجاعة في إتمام مهمة التجديد، هكذا يرى إقبال خيارنا في العلاقة بالعصر والعالم الحديث.
- 3 -
الفلسفة وتجديد التفكير الديني
من الممكن القول إن كتاب «تجديد التفكير الديني في الإسلام» هو كتاب فلسفي بامتياز، ومفعم بالمناقشات والتأملات الفكرية والفلسفية، الدقيقة والعميقة، سواء التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الإسلامية، أو تلك التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الأوروبية الحديثة. كما يمكن اعتباره أنه يمثل التقاء المناقشات الفكرية والفلسفية من جديد، بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الأوروبية الحديثة، اللتين انقطعت الصلة بينهما من بعد فلسفة ابن رشد, حين مثلت هذه الفلسفة الرشدية ولأول مرة نقطة التقاء وتفاعل الفلسفات الثلاث الكبرى التي عرفها تاريخ الفكر الإنساني. وهي الفلسفة اليونانية التي تنتمي إلى العصر القديم، والفلسفة الإسلامية التي تنتمي إلى العصر الوسيط، والفلسفة الأوروبية التي تنتمي إلى العصر الحديث، وهذه كانت عنصر القوة والدينامية في فلسفة ابن رشد.
وبقدر ما ينتمي كتاب إقبال إلى الفلسفة الإسلامية، بقدر ما ينتمي أيضاً إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة، ويصلح أن يكون كتاباً في التفاعل والانفتاح بين هاتين الفلسفتين. فقد اعتنى إقبال كثيراً بمناقشة أفكار ومقولات المفكرين والفلاسفة الأوروبيين، كما لو أنه موجه لهم، وطبع كتابه بهذه الملاحظة التي تجلت فيه بوضوح كبير. وحين توقف الدكتور محمد البهي أمام هذه الملاحظة اعتبر أن إقبال لم يكن إلا مسلماً أولاً، ومفكراً غربياً في الصياغة والمنهج ثانياً(5).
في حين اعتبر الشاعر الألماني هيسة أن إقبال ينتمي إلى ثلاثة أحياز روحية, هي منابع أثاره العظيمة، وهي حيز القارة الهندية، وحيز العالم الإسلامي، وحيز الفكر
الغربي(6).
ولعل إقبال كان قاصداً في إعطاء الأهمية لمناقشة أفكار أولئك المفكرين الأوروبيين، حيث كانت فلسفاتهم تمثل في عصره, روح العصر وجوهر العالم الحديث. وكان العالم الإسلامي، والجيل الجديد من الشبان المسلمين مفتتنًا بتلك الفلسفات, وشديد التأثر بها، وكانت تشهد نفوذاً وتغلغلاً واسعاً في العديد من مناطق العالم الإسلامي.
وقد مرّ إقبال على أسماء كثيرة من المفكرين الأوروبيين الذين تطرق لأفكارهم ومقولاتهم، فمن المفكرين الألمان يأتي على ذكر أمانويل كانت, الذي وصفه بأنه كان من أجلّ نعم الله على وطنه, لدفاعه عن الدين والأخلاق أمام المذهب العقلي، كما أتى على ذكر هيجل ونيتشه وشبنجلر. ومن المفكرين الفرنسيين يأتي على ذكر رينيه ديكارت وهنري برغسون وأوجست كونت، ومن المفكرين الإنجليز يأتي على ذكر روجر بيكون وجورج بركلي وتوماس هكسلي, إلى الفرد نورث هويتهد وبرتراند رسل، إلى جانب آخرين.
ويعد إقبال من أكثر المفكرين المسلمين قدرة وكفاءة على مناقشة أولئك المفكرين الأوروبيين، وهو حين يناقشهم ويحاورهم، يظهر وكأنه واحد منهم، جاء من داخلهم، ومن عالمهم الفكري والفلسفي. فقد كان شديد المعرفة وواسع الاطلاع بنظرياتهم ومقولاتهم وفلسفاتهم. وهناك من يرى كالشيخ مرتضى المطهري في إيران، أن معرفة إقبال بالثقافة الأوروبية كانت أوسع من معرفته بالثقافة الإسلامية، وهذا الرأي لا يخلو من صحة.
والناظر إلى كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» قد يخيل إليه أن المخاطب به هم الأوروبيون أنفسهم، وهم مخاطبون بالفعل. فقد حاول إقبال في كتابه أن يقدم فهماً للإسلام بوصفه رسالة للإنسانية كافة، وهذه الغاية كانت من وراء اعتماده واهتمامه بفتح المناقشات الفلسفية في كتابه. ولهذا يصح القول بأن هذا الكتاب يمثل استمراراً لمناقشات أولئك المفكرين الأوروبيين حول العلاقة بين الفلسفة والدين، والعلاقة بين العلم والدين، ومكانة الدين في العالم الحديث, وهل أن الدين أمر ممكن؟
وقد بقي الفكر الإسلامي المعاصر ومازال, يفتقد لمثل محاولة إقبال ومستواها الفكري والفلسفي في مناقشة ومطارحة الأفكار والفلسفات الأوروبية, بطريقة تحليلية ونقدية، قادرة على إقناع المثقف المسلم والمثقف الأوروبي على حد سواء. من هنا تكمن أهمية وقيمة, وحتى فرادة وريادة محاولة إقبال, التي كان ينبغي أن تتمم، وهذا الذي لم يحدث في نطاق الفكر الإسلامي المعاصر إلا نادراً، والنادر هنا بقصد تجاوز إشكالية الإطلاق والتعميم التي لا تستحسن دائماً، وإلا فإن النادر هو بحكم المعدوم كما يقال.
والبعد الفلسفي هو أكثر ما يميز محاولة إقبال في تجديد التفكير الديني، فهو البعد الذي كان ينطلق منه، ويستند إليه كإطار منهجي ومعرفي. كما أنه البعد الذي كان إقبال ضالعاً فيه، وبارعاً في معارفه. ومنذ البداية كشف إقبال عن هذا البعد حين أراد أن يحدد طبيعة مهمته، والغاية من محاولته، وهي كما يقول: «بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة» (7). وهذا ما أراد إقبال أن يميز به فلسفته، وهو الأخذ بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام من جهة، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة من جهة أخرى.
ويبدو أن إقبالاً كان قاصداً ومدركاً بقوله المأثور من فلسفة الإسلام، وليس المأثور من فلسفة المسلمين، فقد أراد العودة إلى القرآن الكريم في اكتشاف فلسفته، وفي التعرف عليها، لكي يبرهن على أن القرآن الكريم هو منبع فلسفة الإسلام، وأن روح هذه الفلسفة وجوهرها يعارض الفلسفة اليونانية التي طبعت وشكلت فلسفة المسلمين. ويكاد أن يكون كتاب إقبال موجهاً بصورة أساسية لتوثيق هذه المعارضة وتأكيدها، حيث ظل يلفت النظر إليها باستمرار، ولم يألُ جهداً في جمع البراهين للاستدلال على صحتها في مختلف الموضوعات والقضايا التي عالجها وتطرق إليها.
وأول ما أراد إقبال أن يلفت النظر إليه هو كيف أن الفلسفة اليونانية قد غشت على أبصار مفكري الإسلام في فهم القرآن، وحسب قوله: «إن الفلسفة اليونانية كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، ولكن التدقيق في درس القرآن الكريم، وفي تمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني, يكشفان عن حقيقة بارزة هي أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام غشت على أبصارهم في فهم القرآن» (8). لأنهم أي مفكري الإسلام كما يضيف إقبال، لم يفطنوا في أول الأمر إلى أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تلك الفلسفة القديمة. فبعد أن وثقوا بفلاسفة اليونان أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية، وبعد قرنين من الزمان تبين لهم في وضوح غير كافٍ حسب عبارة إقبال، كيف أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة اليونانية. وقد نجم عن هذا الإدراك نوع من الثورة الفكرية لم يدرك أثرها الكامل إلى يومنا هذا.
ويرى إقبال أن من نتائج هذه الثورة، وبتأثير من ظروف الأحوال الشخصية، اتجه الغزالي إلى إقامة الدين على دعائم من التشكك الفلسفي، وهي دعائم في نظر إقبال غير مأمونة العواقب على الدين، ولا تسوغها روح القرآن كل التسويغ. وابن رشد الذي هو أكبر خصوم الغزالي كما يقول عنه إقبال، والمنافح عن الفلسفة اليونانية ضد الثائرين عليها، قد تأثر بأرسطو فاصطنع المذهب القائل بخلود العقل الفعال، ذلك المذهب الذي كان له في وقت ما تأثير كبير على الحياة العقلية في فرنسا وإيطاليا، لكنه في رأي إقبال يتعارض تماماً مع نظرة القرآن إلى قيمة النفس الإنسانية وإلى مصيرها(9).
وإقبال في سعيه لتأكيد معارضة روح القرآن لروح الفلسفة اليونانية، كان يقصد توثيق صلة وارتباط الفكر الديني الإسلامي بالعلم الحديث والعالم الحديث، ولهذا الغرض ركز إقبال على أمرين مهمين، هما:
الأول: التركيز على منهج الملاحظة والتجربة في القرآن الكريم، لكي يظهر تباين روح القرآن والثقافة الإسلامية مع روح الفلسفة اليونانية القديمة. لأن روح القرآن في نظر إقبال تتجلى فيها النظرة الواقعية، في حين امتازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد، وإغفال الواقع المحسوس. ويرى إقبال أن حديث القرآن الكريم حول الطبيعة يلفت النظر إلى الاتجاه التجريبي العام للقرآن، الأمر الذي كوّن في أتباعه شعوراً بتقدير الواقع الموضوعي، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث. وإنه لأمر عظيم حقاً كما يقول إقبال أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق(10).
ونفى إقبال أن يكون ظهور منهج الملاحظة والتجربة في الإسلام, قد نشأ عن توافق بين العقل الإسلامي والعقل اليوناني. وما يود إقبال أن يستأصله تلك الفكرة الخاطئة التي تزعم كما يقول، أن الفكر اليوناني هو الذي شكل طبيعة الثقافة الإسلامية.
الثاني: التأكيد على أن خصومة العالم الحديث للآراء القديمة نشأت عن ثورة الإسلام العقلية على التفكير اليوناني. وتتجلى هذه الثورة في نظر إقبال، في كل ميادين الفكر، بالإضافة إلى ميادين الرياضيات والفلك والطب، ولكنها تبدو على أوضح ما يكون من التحديد وأوفاه على حد قول إقبال، في نقد المسلمين للمنطق اليوناني، وإن ما أنجز في هذا الشأن هو بمثابة ثورة عقلية على الفكر اليوناني. لذلك أصبح واجباً على علماء الإسلام في نظر إقبال، فيما هو مقبل من الأيام أن يعيدوا بناء هذه النظرية العقلية البحتة، وأن يُحكموا الصلات بينها وبين العلم الحديث الذي يظهر عنده أنه يتجه في الاتجاه نفسه(11).
وقد كنا بحاجة لمثل هذه المحاولة التي تصنف على المجال الفلسفي، وهو المجال الذي يعد ضرورياً عند التطرق لتجديد التفكير الديني، بحيث لا يمكن إهماله أو الاستغناء عنه. وتتأكد أهمية وقيمة هذه المحاولة الفلسفية لكونها تأتي من شخص في مستوى إقبال الذي عرف عنه تفوقه الفلسفي، وبهذا التفوق تميزت محاولته في تجديد التفكير الديني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.