الأنبا يواقيم يترأس صلوات قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة العذراء مريم بإسنا    جديد أسعار السلع التموينية مايو 2024    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم الأحد 5 مايو    حدائق القناطر الخيرية تستعد لاستقبال المواطنين للاحتفال بشم النسيم وعيد القيامة    إعلام إسرائيلي يفضح نتنياهو، تخفى ب"شخصية وهمية" لإعلان موقفه من الهدنة مع حماس    سي إن إن: اتمام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يستغرق عدة أيام    عاجل.. شوارع تل أبيب تشتعل.. وكارثة مناخية تقتل المئات| حدث ليلا    الاحتلال يستهدف منازل في رفح الفلسطينية.. وتحليق للطيران فوق غزة    مواجهة نارية بين ليفربول و توتنهام بالدورى الانجليزى مساء اليوم الأحد 5 مايو 2024    نيرة الأحمر: كنت أثق في قدرات وإمكانيات لاعبات الزمالك للتتويج ببطولة إفريقيا    عاجل.. حقيقة خلاف ثنائي الأهلي مع كولر بعد مواجهة الجونة    درجات الحرارة اليوم الأحد 5 - 5 - 2024 في المحافظات    خطاب مهم من "التعليم" للمديريات التعليمية بشأن الزي المدرسي (تفاصيل)    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    أخبار الفن.. كريم فهمي يتحدث لأول مرة عن حياته الخاصة وحفل محمد رمضان في لبنان    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر على موعد مع ظاهرة فلكية نادرة خلال ساعات.. تعرف عليها    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    قصواء الخلالي: العرجاني رجل يخدم بلده.. وقرار العفو عنه صدر في عهد مبارك    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تزيد عن 76 مليون دولار في أبريل    نجم الأهلي السابق يوجه طلبًا إلى كولر قبل مواجهة الترجي    حديد عز ينخفض الآن.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 5 مايو 2024    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    محمود البنا حكما لمباراة الزمالك وسموحة في الدوري    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.محمد يوسف عدس*: نافذة على فكر محمد إقبال (1-2)
نشر في البديل يوم 09 - 00 - 2013


(1)-تمهيد:
محمد اقبال مفكر إسلامى عظيم وشاعر عالمى، وصاحب مشروع لنهضة المسلمين فى العالم، يرتكز هذا المشروع على ثلاثة شروط أساسية: الشرط الأول هو أن تحقق كل دولة مسلمة استقلالها واستقلال إرادتها استقلالا كاملا وحقيقيا، و يتمثل الشرط الثاني فى تجديد الفكر الدينى، و الشرط الثالث هو السعى المتدرّج نحو وحدة شاملة بين دول مسلمة متحررة وناهضة، عن طريق التعاون والتنسيق المتواصل المخطط فى المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
عاش إقبال مأساة المسلمين و سوء احوالهم فى الهند، وعاصر أوضاعهم المزرية فى كل بلاد العالم االمسلم التى كانت جميعها فى ذلك الوقت ترزح تحت الاحتلال الأجنبى. وإنكبّ على دراسة الاسلام عقيدة وشريعة وفكراً وتاريخاً وحضارة، وحلم بخلاص المسلمين ونهضتهم فى بلده الهند فى وقت كان المسلمون يتعرضون لاضطهاد ثلاث قوى شرسة: الاستعمار البريطاني ، والمتطرفون الهنادكة و السيخ. ورأى أن أوضاع المسلمين فى الهند قد بلغت حدا مروعا من التردّى، واليأس من إيجاد أى حل لتحريرهم من الاضطهاد، وإيقاف المذابح الطائفية المبرمجة التى كانت قوى الاحتلال البريطاني تقف وراءها، تنفيذا لمخططاتها فى تمزيق الهند، أولا: بتحريض المتطرفين ضد المسلمين من ناحية، وثانيا: دفع المسلمين إلى الانفصال عن الهند من ناحية أخرى، وكانت خطة بريطانيا لمستقبل شبه القارة الهندية تشتمل على: إيجاد دولة خاصة بالمسلمين وفصلها عن بقية الهند بمنطقة متنازع عليها بين الدولة المسلمة وبين الهند "هى كشمير" لتكون موضع صراع دائم بين الدولتين، وجرحا أبديا دائم النزف فى قلب الدولة المسلمة، لا تبرأمنه أبدا، وبذلك تضمن استمرار تخلّفها وعدم استقرارها، ويدفعها الشعور الدائم بالتهديد من جارتها الكبرى إلى إلتماس الدعم من القوى العظمى الأجنبية.(فكانت بريطانيا أولا ثم أمريكا)، وقد نجح المخطط البريطانى حتى هذه اللحظة فى تحقيق أهدافه فى باكستان، مثلما نجحت بريطانيا بنفس القدر فى تأبيد التخلّف والتبعية والاضطراب فى المنطقة العربية بزرع كيان استيطاني عنصري فى قلب البلاد العربية هى كما نعرف جميعا إسرائيل.
المهم أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردّية للمسلمين، كما شاهده إقبال وعاناها هى التى جعلته يحلم باقامة دولة مستقلة للمسلمين فى باكستان، فاتجه إليها داعيا بكل ما أوتى من قوة فكر وبيان.
كان اقبال يرى ان ما يجمع الناس فى امة واحدة ليس هو وحدة الجغرافيا والجبال والوديان والانهار، وانما وحدة الايمان والثقافة. ولكنه مات سنة 1938 قبل ان يرى حلمه يتحقق و يتجسد على ارض الواقع السياسى سنة 1947. لقد كافح من اجل قيام باكستان كفاحا مستميتا، وعكف مع صديقه محمد أسد على وضع المبادئ الفكرية و الدستورية لهذه الدولة المتوقّّعة. ودعا من خلال نشاطه فى حزب الرابطة الاسلامية لمقاومة الاحتلال فى بلده وفى كل بلاد الشرق، ونصح المسلمين ألا يستسلموا أو يركنوا لأساليب المفاوضات الخادعة مع الأعداء، فيقول فى إحدىقصائده، وكأنه يوجه نصيحته إلينا الآن:
" لا دواء لنا فى لندن أو جنيفا :: فوريد الفرنج ملك يهود"
لم يكن اقبال منبهرا بحضارة الغرب رغم أنه كان من أقوى الدعاة إلى الاستفادة بعلومهم الطبيعية ومناهجهم العلمية فى الدراسة والبحث، إلا أنه كان على يقين أن هذه الحضارة المادية العوراء تسير إلى حتْفها بخطى حثيثة، وأن مآلها إلى انهيار أكيد. وفى ذلك يقول فى إحدى قصائده:
" يا ساكنى ديار الغرب
ليست ارض الله سوقاً وحانوتاً
إن الذى توهّمْتُموه ذهباً خالصاً سترونه زائفاً
وإن حضارتكم ستقتل نفسها بخنجرها
لأن العش الذى يقام على غصن هش مآله إلى السقوط"
وقد عبر اقبال عن حلمه فى قيام دولة إسلامية فى باكستان، وعن حلمه فى نهضة أمة الاسلام فى الشرق، فى شعره وكتبه، بيقظة عقلانية عميقة تعكس ثقافته الموسوعية التى شملت الدين والفلسفة والتاريخ والأدب والعلوم الطبيعية الحديثة والسياسة وكل فروع العلوم الانسانية. ترك لنا محمد اقبال تراثا شعريا رائعا حظى بإعجاب الشاعر الهندى العظيم طاغور فشهد له حيث قال: "إن شعر إقبال ترجع شهرته الى ما فيه من نور الأدب الخالد وعظمته".
وقد نظم إقبال شعره باللغتين الفارسية والأرديّة. أما دواوينه الشعرية بالفارسية فمنها: ديوان أسرار الذات، وديوان رموز اللاذات، وديوان رسالة الشرق، وديوان رسالة الخلود. وأما دواوينه الأرديه فمنها: ديوانه صلصلة الجرس، و جناح جبريل، و ضرب الكليم، وديوان هدية الحجاز باللغتين الارديه والفارسية. واما كتبه فمنها:"تطور الميتافيزيقا فى فارس" وهو رسالة تقدم بها لنيل درجة الدكتوراة من جامعة ميونيخ بألمانيا.
(2) تجديد الفكر الدينى فى الإسلام:
هذا عنوان أهم و أبرز كتب محمد إقبال وأشهرها فى العالمين الشرقي والغربي، وفيه يرسم الطريق لنهضة المسلمين بتجديد فكرهم الدينى، وذلك بواسطتين: اولاهما فتح باب الاجتهاد، وثانيهما ربط الفكر الدينى بالعلم الحديث ومنهجه الاستقرائى لبناء نهضة جديدة كنهضتنا الإسلامية الأولى.. ولمحمد إقبال آراء مبدعة. توصل إليها من خلال عملية تحليل عميقة وشاملة للثقافتين الغربية والإسلامية، حيث تبين له أن المنهج العلمي الاستقرائي القائم على الملاحظة والتجربة، ليس ابتداعا أوربيا تفرّد به الغرب كما يزعم الزاعمون، وإنما هو ابتداع إسلامي عربي خالص. نشأ وترعرع فى أرض الإسلام بدوافع بالغة القوة موفورة الدلالة فى صميم التوجهات القرآنية.
استدلّ عليها إقبال من قراءاته العميقة وتأملاته النافذة فى كثرة من آيات الذكر الحكيم. ودعّمها باعترافات موثّقة لنفر من كبار المفكرين والعلماء الأوربيين المحدثين، شاء الاستعمار الأوربي أن يحجبها عن أعين المراقبين، حتى لا يراها المسلمون، أو الأوربيون أنفسهم، فيأتى منهم رجال ينسبون إلى الثقافة الإسلامية ما تستحقه من ثناء على إبداعاتها العلمية والحضارية التى اصطنعها الغرب، وبنى عظمته وتقدّمه الحديث عليها، ثم أنكرها وأهال التراب عليها. ولكن يكتشف إقبال من فحصه لتراث هؤلاء النفر من المفكرين الأوربيين المنصفين، زيف الادعاءات والمزاعم الغربية.
وتتجلى عبقرية محمد إقبال فيما ساقه من أدلة وحجج فى هذا المجال، وما كشفه لنا من صفحات تكاد تكون مجهولة لنا عن سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره أول إنسان فى العالم يطبق المنهج العلمي. فهو أول من أخضع ظاهرة نفسية للملاحظة المنهجية، كما يفعل علماء النفس فى العصر الحديث. والعجيب أن الأحاديث النبوية التى استند إليها إقبال واردة بسندها فى الصحيحين البخاري ومسلم.
(3)- ختام النبوّة:
يقول إقبال:"يبدو أن نبي الإسلام يقف على حافة عالمين: العالم القديم و العالم الحديث ؛ فهو من ناحية مصدر رسالته يعتبر منتماً للعالم القديم، أما من ناحية روح رسالته فيعتبر متمماً إلى العالم الحديث". عبارة استوقفتنىطويلا أتأمل فى ما انطوت عليه من معانً وأفكار. وقد وردت فى سياق محاضرة لمحمد إقبال ضمّنها كتابه " تجديد الفكر الديني فى الإسلام".
والعالم القديم في هذه العبارة يشير به إقبال إلى عصر النبوّات والرسالات الإلهية إلى البشر منذ أبينا آدم إلى المسيح عليه السلام، حيث انتهت الرسالات وخُتمت برسالة بمحمد (ص)؛ ففي الإسلام تبلغ النبوة كمالها باكتشافها لحقيقة جوهرية هى ضرورة إنهاء عصر النبوات. وهو أمر ينطوى على إدراك دقيق أن الحياة لا يمكن أن تظل إلى الأبد أسيرة خيوط من خارجها تقود خطواتها، بل أصبح على الإنسان لكي يكتسب وعيه الذاتي كاملا أن يتم فطامه ليعتمد على موارده الخاصة فى تحصيل المعرفة، عن طريق الاستدلال العقلي.
يقول إقبال: "لاشك أن إبطال الإسلام للكهنوت وللسلطات الوراثية المستبدّة، ودعوة القرآن المستمرة لإعمال العقل والتجربة، والتأكيد على النظر في الكون والتاريخ كمصادر للمعرفة الإنسانية، كل هذه جوانب مختلفة وثمار لفكرة عبقرية هى (ختام النبوة). على أن هذه الفكرة لا تعنى أن التجربة الروحية قد توقفت الآن عن الوجود كحقيقة هامة من حقائق الحياة. والمهم هنا هو أن القرآن لايفتأ يؤكّد على اعتبارالأنفس والآفاق مصادر للمعرفة؛ فالله يرينا آياته في التجربة الجوانية و التجربة البَّرانية على السواء، وواجب الإنسان أن يحكم على كفاءة كل جوانب التجربة في إمدادنا بالمعرفة.
ومن ثَمّ فإن فكرة ختام النبوة لا ينبغي فهمها على أن المصير النهائي للحياة هو إحلال العقل محل العاطفة والوجدان (كما يظن بعض الناس)، فهذا أمر غير ممكن وغير مرغوب، والقيمة العقلية لفكرة ختام النبوّة هي أنها تتجه إلى خلق موقف نقدي مستقل تجاه التجربة التى اعتاد الناس وصفها بالدينية أو الروحية أو الصوفية.
(4) تحرير الفكر الإنساني
من أبرز ثمار فكرة ختام النبوّة كمايؤكد لنا إقبال أنها تولّد فينا إعتقادا بأن أي سلطة شخصية تدَّعى لنفسها الاتصال بمصدر فوق الطبيعة قد انتهى عهدها من تاريخ البشرية إلى الأبد. فلا نبي، ولا بابا، ولا مهدى منتظر، ولا دجال، ولا بهاء.لا أحد يستطيع أن يدّعى لنفسه سلطة روحية مستمدّة من صلة خفية بالله بعد ختام النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.وإذن فختام النبوّة معناه من الناحية العملية أنه لم يعد هناك فرصة لشخص ما أن يخدع الناس بأنه نبيّ جديد، ولا أن يؤوّل الختام بأنه الخاتم أو الزينة، ليفسح لنفسه مكانا مزيّفًا بين الأنبياء والمرسلين، ولا أن يمنح لنفسه سلطة فوق البشر.وتلك لعمرى (لو تأمّلناها مليّا) ثورة تاريخية وفكرة عبقرية لتحرير الفكر الإنساني. يقول إقبال:"إن فكرة ختام النبوّة قوة سيكولوجية من شأنها أن تكبح ظهور مثل هذه السلطة أونموها فى المجتمعات المسلمة.
(5) تجريد الطبيعة من الصبغة الأسطورية
هذا مجال آخر تتحقق فيه وظيفة أخرى بالغة الأهمية لفكرة ختام النبوّة، حيث أنها تفتح آفاقاً جديدة من المعرفة في مجال التجربة الإنسانية، طبقا لما تؤكّده الآية القرآنية:{سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}.إنها ترسّخ المعرفة في مجالي التجربة الجُوّانية والبرانية للإنسان. فمن النظر والبحث فى آيات الله فى الأنفس يتولّد علم النفس ومن آياته فى الآفاق تتولد العلوم الطبيعية المختلفة، كما يتولّد علم التاريخ من النظر فى سِيَرِ الأمم السابقة والْتماس العبرة منها. والقرآن كما يرى إقبال فيه مايكفى لتفجير ينابيع المعرفة فى عقول البشر على مر العصور الباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.لقد خلقت هذه الفكرة ونَمَّت روح الملاحظة النقدية المتفحصة لتجربة الإنسان الخارجية، بأن جرّدت قوى الطبيعة من تلك الصبغة الأسطورية التي أسبغتها عليها الثقافات السابقة في العصورالقديمة.
وعلى هذا يجب على المسلم اليوم أن يعتبر أى تجربة صوفية أو دينية هى تجربة طبيعية تماماً مهما كانت غير عادية وغير مألوفة، وأنها قابلة للنقد وخاضعة للفحص الدقيق كغيرها من الجوانب الأخرى للتجربة الإنسانية. وقد سبق أن
ذكرت أن إقبال يرى أن أول إنسان فى التاريخ حاول أن يخضع الظواهر النفسية للتجربة والملاحظة هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم نفسه. إذ يُروى أن غلاما يهوديا إسمه إبن صياد كانت تنتابه حالة وصفها بعض الناس بأنها جذب روحي، ووصفها آخرون بأنها لبْس شيطاني، فإذا حضرته هذه النوبة اعتزل الناس وجلس وحده يتحدث إلى نفسه. فلما سمع النبي بقصته أراد أن يخضعه للملاحظة المباشرة ويفحصه بنفسه. وفى إحدى المرّات اقترب منه مستترا بجذع شجرة حتى لا يراه الغلام. ولكن جاءت أمه ونبهته إلى أن النبي يستمع إليه فأفاق الغلام من جذبته. وقال النبي ما معناه: لولا تركتْه لعرفنا أمره!
(6) الطبيعة والتاريخ
في القرآن إذنْ مصدران آخران للمعرفة غير التجربة الدينية هما الطبيعة والتاريخ. وتتجلى روح الإسلام في أفضل صورها في انفتاحها على هذه المصادر، يقول محمد إقبال: يرى القرآن الآيات الدالة على الحقيقة المطلقة في: الشمس والقمر، و امتداد الظل، و اختلاف الليل والنهار، و اختلاف الألسنة وألوان البشر، و تداول الأيام بين الناس. وفى كل مظاهر الطبيعة كما تتبدّى للإدراك الحسّي، ويرى أن واجب المسلم هو أن يتأمّل في هذه الآيات لا أن يمرَّ بها كما لو كان ميتاً أوأعمى:"وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً".
هذه الدعوة إلى عالم الحس وما يصاحبها من التحقّق المتأَنّى لرؤية القرآن للكون، من حيث أنه كون ديناميكي متغير خاضع للصيرورة بطبيعته، كونٌ متناهٍ رغم اتساعه الهائل، ولكنه مع تناهيه قابل للزيادة والامتداد المستمر.
(7) ثورة على الفكر الإغريقي:
كل هذا جعل المفكرين الإسلاميين يدخلون في صراع مع الفكر الإغريقي، الذي درسوه بمزيد من الحماسة في بداية حياتهم العقلية، فلم يكن المفكرون المسلمون فى أول الأمر يدركون أن روح القرآن تتعارض فى أساسها مع الفلسفة اليونانية القديمة؛ فوضعوا كل ثقتهم فيها، وكانت أول اندفاعة لهم هي محاولة فهم القرآن في ضوء هذه الفلسفة. ولكن باءت هذه المحاولة بالفشل؛ ذلك لأن روح القرآن تميل إلى ما هو واقعي ملموس بينما طبيعة الفلسفة الإغريقية تأمّلية مجردة تهتم بالنظرية وتغفل الواقع.
ويعتقد محمد إقبال أن هذا الفشل فى حد ذاته كان نعمة عظمى فهو الذى أدى إلى ظهور الروح الحقيقية لثقافة الإسلام؛ وإلى وضع الأساس المنهجي للثقافة الحديثة في أهم جوانبها. وقد تجلّت هذه الثورة الفكرية ضد الفلسفة الإغريقية في جميع مجالات الفكر الإسلامي. ولم تكن ثورة الأوربيين على الفكر الأرسطي التقليدي، الذى اصطنعهته
الكنيسة وقدّسته وتجمّدت عليه، وحاولت إيقاف كل تقدّم علمي، حفاظا على قداسته، لم تكن هذه الثورة ممكنة إلا لأنهم اطلعوا على التقدمات العلمية للمسلمين فى الأندلس، وآمنوا بمناهجهم التجريبية فى البحث العلمي، وليس صحيحا ما يدّعيه مؤرخوا الحضارة الأوربية بأن الأوربيين هم أول من ثار على الفكر التجريدي للفلسفة اليونانية القديمة، فى العالم.
فالمسلمون كانوا هم الأسبق وهم الروّاد الأوائل، والفرق هو: أن الأوربيين أخذوا المنهج التجريبي إلى ما هو أبعد من مجاله واستطاعته، فأنكروا كل ما لا يظهر للحواس باعتباره غير موجود، بينما احتفظ المسلمون بالحقائق الروحية والأخلاقية لثقافتهم، فحافظوا على التوازن المادي والروحي اللازم للحياة الإنسانية، الفردية والاجتماعية على السواء.
(8) انبثاق الثقافة الإسلامية
لاحظ هنا أن فكرة إقبال هذه تقلب النظرة الشائعة والموروثة التى تذهب إلى أن كل تقدم فكري أحرزه المفكرون المسلمون يرجع فى أساسه إلى العقلانية التى استقاها المسلمون من الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي، ويتشدق أدعياء الثقافة اليوم بأن تخلّف المسلمين راجع إلى أنهم طرحوا عقلانية الفيلسوف الأندلسي إبن رشد المستمدة من الفلسفة الأرسطية، وتابعوا فكر أبى حامد الغزالي الذى هاجم الفلسفة اليونانية ولجأ إلى الحدْس كمصدر يقيني للمعرفة. ولن نخوض فى تفاصيل هذه المعركة التاريخية بين الغزالى فى كتابه "تهافت الفلسفة" و ردّ ابن رشد عليه فى كتابه "تهافت التهافت" إنما نثبت هنا فقط فكرة محمد إقبال التى جاءت كأنها كشف جديد مفاده: أن التقدم الفكري والعلمي الذى ابتدعه المسلمون وترسخ فى الثقافة الغربية بعد ذلك، وكان باعثا على نهضة أوربا الحديثة.
هذا التقدّم لم يكن نتيجة تبنّى المسلمين للفلسفة اليونانية وتطبيقها فى المجالات الفكرية المختلفة، وإنما كان على عكس هذا تماما، نتيجة الثورة على الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي. هذه الثورة التى تولّد عنها منهج الاستقراء العلمي الحديث القائم على الملاحظة والتجربة. وكان مصدره الأساسي ومفجّره هو القرآن نفسه.
كان المنهج التجريبي إذن ابتداعا إسلاميا خالصا نقله إلى أوربا روجر بيكون الإنجليزي الذى أجاد اللغة العربية وكان تلميذا لأساتذة حصّلوا العلم فى جامعة قرطبة الإسلامية. هذه الحقيقة يحاول الغربيون طمسها والتعتيم عليها حتى لا يظهر فضل العرب والمسلمين على النهضة الأوربية والتقدّم العلمي فيها. ولكن سيتبيّن للفاحص المدقق أن هذه الحقيقة يستحيل المُضِيّ فى إنكارها إلى الأبد. كانت هذه فى واقع الأمر ثورة فكرية ضد الفلسفة الإغريقية تجلّت في جميع مجالات الفكرالإسلامي. خصوصا فى مجالات الرياضيات والفلك والطب.
يقول إقبال:" بدأت هذه الثورة بجلاء في الفكر الفلسفي للأشاعرة. وأعتقد أن (النّظَّام) هو أول من صاغ مبدأ الشك بدايةً لكل معرفة؛ ثم جاء الغزالي فأفاض فيه، في كتابه (إحياء علوم الدين). وكان ابن تيمية هو أول من قام بتفنيذ المنطق الأرسطيّ تفنيدًا منظماً فى كتابه (نقد المنطق) وربما كان أبو بكر الرّازي هو أول من نقد الشكل الأول عند أرسطو ثم أعاد (جون ستيوارت ميل) نقد أرسطو في عصرنا هذا مردداً نفس اعتراضات الرازي، ولكن بروح استقرائية كاملة. ويؤكد ابن حزم في كتابه (التقريب في حدود المنطق) أن الإدراك الحسي هو أصل من أصول المعرفة، ويبين ابن تيمية في كتابه المذكور أن الاستقراء هو الشكل الوحيد للكلام اليقيني.
وهكذا نشأ منهج الملاحظة والتجربة، ولم يكن هذا مجرد قضية نظرية يتجادل حولها المتجادلون؛ فمن الناحية التطبيقية: جاء كشْف البيْروني لما نسميه "زمن رد الفعل"، وكشْف الكِنْدي لفكرة "تناسب الإحساس مع المُنبَّه"، كأمثلة على تطبيق هذا المنهج التجريبي في علم النفس.
(9) إستشهادات إقبال:
يخلص إقبال من كل هذه المقدّمات إلى التأكيد على أن الزّعمُ بأن المنهج التجريبي اكتشاف أوروبي هو زعم باطل، ويستشهد ب "دوهرنج" فى قوله: "إن أفكار "روجر بيكون" عن العلم هي أكثر دقة ووضوحاً من أفكار الفيلسوف المشهور المشترك معه في الاسم (يقصد فرانسيس بيكون). ومن أين استقى "روجر بيكون" أفكاره العلمية؟ (ويجيب
دوهرنج على سؤاله) من الجامعات الإسلامية في الأندلس. وفي الواقع كان الجزء الخامس من كتابه (البصريات العظمى) الذي خصصه للبحث في المنظور، هو نسخة طبق الأصل من كتاب (البصريات لابن الهيثم)
والكتاب في جملته لا يفتقر إلى دليل على تأثّر كاتبه بابن الهيثم".يقول إقبال: " لقد أبطأت أوروبا في إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي. ولكن جاء أخيراً الاعتراف الكامل بهذه الحقيقة، ودعوني أنقل لكم فقرة أو فقرتين من كتاب روبرت بريفولت Robert Briffault ( صناعة الإنسانية) حيث يقول:"لقد تعلم روجر بيكون في أوكسفورد اللغة العربية والعلوم العربية، على يد تلاميذ الأساتذة العرب في الأندلس. وليس لروجر بيكون ولا الفيلسوف الذي جاء من بعده يحمل نفس الاسم أي فضل في ابتداع المنهج العلمي.
فلم يكن روجر بيكون أكثر من أحد الحواريين أو الرسل الذين نقلوا العلم الإسلامي ومنهجه إلى أوروبا المسيحية، ولم يتعب أو يملّ إطلاقاً من تصريحه بأن معرفة معاصريه للغة العربية وعلوم العرب كان هو السبيل الوحيد للمعرفة الحقَّة. ولم يكن الجدل الذى دار حول أصل واضعي المنهج التجريبي إلا جزءًا من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية ومصادرها الحقيقية. وكان المنهج التجريبي لدى العرب واسع الانتشار في زمن بيكون ويُستزْرع بلهفة في ربوع أوروبا".
ويمضى بريفولت ليؤكد بما لا يدع مجالا لشاكٍّ أومنكر لفضل المسلمين على الحضارة الأوربية فيقول:" كان العلم حقًّا هو أهم الإسهامات التي جادت بها الحضارة العربية على العالم الحديث. ولكن ثماره كانت بطيئة في نضجها؛ فالمارد الذى أنجبته ثقافة المغاربة المسلمين فى الأندلس لم ينطلق في عنفوانه إلا بعد أن غرقت هذه الثقافة في الظلمات، وقد مضى على ذلك وقت طويل. ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد الحياة إلى أوروبا وإنما كانت هناك مؤثّرات أخرى
متعددة، نابعة من الحضارة الإسلامية، انتقلت إشعاعاتها المتوهجة لتضيء وجه الحياة فى أوروبا"
يتابع بريفولت فيقول: "وعلى الرغم من أنه لا توجد ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلا وتجد فيها آثاراً حاسمة للثقافة الإسلامية، فإن هذه المؤثرات الإسلامية أكثر وضوحا وأبلغ أهمية بوجه خاص في نُشوء تلك الطاقة التي تشكِّل القوة المتميزة الفائقة للعالم الحديث والمصدر الأعلى لازدهاره وتفوقه، وأعنى بها العلوم الطبيعية والروح العلمية…" (إقرأ بريفولت ص190)، عندما يشرح الأمر أكثر فيزيدنا اندهاشا، حيث يقول:" إن ما يدين به علْمنا لعلْم العرب ليس في الكشوف المدهشة أو النظريات الثورية فقط، وإنما يدين علْمنا للثقافة العربية بما هو أكثر من ذلك؛ إنه مدين لها بالفضل في وجوده ذاته. فالعالم القديم كما رأينا كان في مرحلة ما قبل العلم. وكانت علوم الفلك والرياضيات عند الإغريق إستيرادًا خارجيّا، ولم تتأقلم أبدًا أو تمتزج بالثقافة الإغريقية، وضع الإغريق أنْساقًا وتعميماتٍ ونظريات، أمّا أساليب البحث المتأنية الدّأُوب، وتركيم المعلومات المحقَّقة، ومناهج العلم الدقيقة، والملاحظة المفصّلة المستمرّة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج الإغريقي. ولم يقترب العالم القديم من العلم إلا في الإسكندرية خلال العهد "الهلّينيّ …".
"ولكن ما نسميه حقيقةً باسم العلم كما ظهر في أوروبا، كان نتيجةً لروح جديدة في البحث، و لمناهج جديدة في الفحص والاستقصاء، إنها على وجه التحديد مناهج التجربة والملاحظة والقياس، ونتيجة لتطور الرياضيات، بشكل لم يعرفه الإغريق على وجه الإطلاق، والعرب (والمسلمون) هم الذين أدخلوا هذه الروح وتلك المناهج إلى العالم الأوروبي… " (إقرأ بريفولت ص 191)
هذه إذن إعترافات صادقة ومذهلة لمفكر أوربي، على مستوى روبرت بريفولت، سجّل شهادته فى كتاب بعنوان ( صناعة الإنسانية)، نُشر فى سنة 1919، ثم لم يتكرر نشره أو طبْعُه مرة أخرى، بل تمّ التعتيم عليه تماما لأكثر من تسعين عاما، بهدف تجهيل الجميع: عربا ومسلمين ومسيحيين، فى الشرق والغرب، بالمصادر الحقيقية للحضارة الغربية، وتجهيل المسلمين بصفة خاصة بإنجازات آبائهم، وفضلهم على بزوغ النهضة الأوربية، والحضارة الغربية السائدة اليوم فى العالم. ولكن التجهيل والتعتيم لا يمكن أن يستمر إلى الأبد ولسوف يظهر كتاب بريفولت للوجود مرة أخرى فى طبعة جديدة فى مايو القادم 2010م.
(10)- يعلّق إقبال على اعترافات روبرت بريفولت بقوله:"إن أول نقطة هامة نستخلصها من هذا الكلام عن روح الثقافة الإسلامية هي أن هذه الثقافة ترتكز على ما هو محسوس ومتناهٍ بغرض الحصول على معرفة محقَّقة. ومن الواضح أيضاً أن ميلاد منهج الملاحظة والتجريب فى الإسلام لم يكن راجعا إلى توَافُقٍ مع الفكر الإغريقي، بل ظهر نتيجة لحرب فكرية وصراع طويل مع هذا الفكر. والواقع أن اهتمام الإغريق الذى يراه "بريفولت" مرتكزا على النظرية وليس على الواقع المحسوس، كان له أثره المدمّر في حجب رؤية المسلمين عن فهم القرآن وروحه العلمية المبدعة، وأنه قد أعاق المزاج العربي العملي عن تأكيد ذاته، والعودة إلى أصله (على مدى قرنين من الزمن على الأقل..).
ويختم محمد إقبال بيانه ويكشف عن هدفه حيث يؤكد قائلا:" أريد بالتحديد أن استأصل الفكرة الخاطئة القائلة: بأن الفكر الإغريقي(بأي معنى من المعانى) كان هو الذى حدد طبيعة الثقافة الإسلامية. وقد رأيتم بعض حججي فيما سلف وسترون الآن الجزء الآخر من هذه الحجج"
ثم يشرع إقبال فى عرض تحليلاته وأفكاره الفلسفية حول هذا الموضوع الحيوي البالغ الأهمية، مما سنحاول تبسيطه وعرضه فى مقالة لاحقة بعون الله وتوفيقه.
*مترجم كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام" أبرز كتب مفكرنا محمد إقبال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.