اعتدت ألا أستمر طويلا فى القراءة أو الكتابة فى موضوع واحد ، لا خشية الملل وهو أمر وارد ، ولكن حرصا على ألا يؤدّى بى الاسترسال فى لون واحد من التفكير أن أكتسب نظرة أحادية الجانب، أو بالأحرى نظرة سوداوية تجاه العالم ، خصوصا وأن الأوضاع التى تمر ببلادنا العربية وفى مصر على وجه الخصوص، ليس فيها مايسر الخاطر ، ولا تحمل إلينا الأخبار اليومية إلا ما يحزن النفس ويوجع القلب . كنت قد أوشكت أن أكتب عن قافلة شريان الحياة وما لا قته من صعوبات وتعنت لا مبرر له على أرض مصر، وقد استثار مشاعرى كلام سمعته هذا الصباح فى لقاء متلفز باللغة الإنجليزية مع قائد القافلة البطل جورج جالاوى ، وهو يحكى قصته و رفاقه .. أكثر من 160إنسانا وصلوا إلى مطار العريش فاحتجزتهم سلطات الأمن داخل مطار العريش المسوّر بقضبان من الحديد ساعات طويلة ، بذريعة اتخاذ إجراءات الدخول ، وهى إجراءات روتينية لا تستغرق عادة أكثر من نصف ساعة فى كل مطارات العالم المتقدم والمتخلّف على السواء ، ولكنها فى مطار العريش استغرقت دهرا ، والضحايا أناس شرفاء أحرار جاءوا من أنحاء الدنيا وتجشموا عناء رحلة طويلة امتدت أكثر من شهر وهم لا يبرحون سياراتهم نهارا أوليلا .. جاءوا لتقديم المساعدات وكسر الحصار الإجرامى عن غزة .. حتى وصلوا إلى العريش ، ولم يكن هذا نهاية عنائهم بل مرحلة جديدة من مراحل هذا العناء ، واجهوا فيه اهانات وسخافات ومماطلات .. وعُلّلقوا فى مطارٍ كالسجن ، بلا طعام سوى ما حملوه معهم من بسكويت .. واضطر جورج جالاوى عضو البرلمان البريطانى للنوم على الأرض بلا غطاء فى ليلة شديدة البرودة .. دورات المياه شحيحة ، وبالقافلة عدد من السيدات الفضليات جئن من أقصى الأرض لمؤازرة المحاصرين فى غزة .. فتلقتهم السلطات بهذا الاستقبال الهمجي ، وهم أناس أفاضل ولكن الصحافة المنحطة وصفتهم بأنهم [صايعين] استقبال يفتقر إلى أبسط قواعد الضيافة العربية .. استقبال لا هو إسلاميّ ولا أخلاقى ولا إنسانيّ على الإطلاق .. ثم صادروا سيارة جالاوى فاضطر إلى السير على قدميه إلى غزة .. يقول فى هذا " لقد سرت على قدميّ مسافة طويلة .. ولو اقتضى الأمر أن أحبو على يديّ أو أزحف على بطنى للوصول إلى غزة وكسر الحصار عنها لفعلت ".. القصة طويلة مليئة بالأحداث الحمقاء المخجلة .. يعرف القراء أطرافا منها .. ومن ثمّ لن أسترسل فى ذكر التفاصيل ولكنى أكتفى بنصيحة جورج جالاوى إلى الحكومة المصرية .. قال إن هذه السياسة الخرقاء ليست فى صالح مصر التى أصبحت سمعتها العالمية فى الحضيض .. سياسة تكسب مصر كل يوم مزيدا من الأعداء وتنفّر منها الأصدقاء ..وتؤدّى بها فى النهاية إلى العزلة المهينة .. بينما هى والشعب المصري ستحقان أن يكونا فى موضع القيادة والريادة لا موضع النفور والكراهية من كل الشعوب العربية ومن جميع أحرار العالم .." وأنا بدورى أنبّه الحكومة بأنها ترتكب أكبر خطأ بمعاداة جورج جالاوى ومحاولة استفزازه وإهانته لمجرد أنه محب للعرب معادٍ للصهيوية مستميت فى الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وكسر الحصار الإجرامي عن غزة .. إن هذا الرجل كما عرفته شخصيا عن قرب منذ خمسة أعوام يملك إرادة من حديد.. إنه يستطيع حشد المظاهرات المليونية فى بريطانيا بقدرته على القيادة والتنظيم والإقناع .. وله معجبين ومحبين من الأحرار و من القيادات السياسية فى العالم .. ولن تتوقف ملحمة "قافة شريان الحياة" إلى غزة حتى ينتهى الحصار الإسرائيلى الأمريكي ، المصري (للأسف) عن غزة.. أول مرة التقيت فيها جورج جالاوى منذ خمس سنوات بلندن كنت سعيدا بأن أقول له إننى مصري .. أما اليوم فإننى أخجل أن أذكّره بمصريتى ...! (2) أنتقل من هذه الصفحة التعيسة إلى شيء مشرق .. وأجد ذلك فيما قرأت ولا زلت منشغلا به إلى حد الاستغراق: الفكر الإصلاحي للفيلسوف والمفكر الإسلامي العظيم والشاعر المحلّق فى آفاق الحياة الروحية محمد إقبال : " يبدو أن نبي الإسلام يقف على حافة عالمين: العالم القديم و العالم الحديث ؛ فهو من ناحية مصدر رسالته يعتبر منتمياً للعالم القديم ، أما من ناحية روح رسالته فيعتبر منتمياً إلى العالم الحديث ..." عبارة استوقفتنى طويلا أتأمل فى ما انطوت عليه من معانً وأفكار .. وقد وردت فى سياق محاضرة لمحمد إقبال ضمّنها فى واحد من أشهر كتبه بعنوان " تجديد الفكر الديني فى الإسلام " العالم القديم فى هذه العبارة يشير به إقبال إلى عصر النبوّات والرسالات الإلهية إلى البشر منذ أبينا آدم إلى المسيح عليه السلام ، حيث خُتم وانتهت الرسالات بمحمد (صلّى لله عليه وسلم) ، يقول إقبال: " لقد كتشفت الحياة فى الإسلام مصادر أخرى جديدة للمعرفة مناسبة لاتجاهها الجديد ، فميلاد الإسلام هو ميلاد العقل الاستدلالي وهذا ما أرجو أن أتمكن حالياً من إثباته لكم بطريقة مقنعة ... ففي الإسلام تبلغ النبوة كمالها باكتشافها لحقيقة جوهرية هى ضرورة إنهاء عصر النبوات ... وهو أمر ينطوى على إدراك دقيق أن الحياة لا يمكن أن تظل رهينة لوحي يتنزّلل عليها فى كل خطوة تخطوها نحو التقدّم المعرفيّ .. وأن على الإنسان لكي يكتسب وعيه الذاتي كاملا أن يُترك أخيراً ليعتمد على موارده الخاصة .." فالقرءان كما يراه إقبال فيه مايكفى لتفجير ينابيع المعرفة فى عقول البشر على مر العصور الباقية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .. ولا شك إن إبطال الإسلام للكهنوت والملَكِية الوراثية، ودعوة القرآن المستمرة للعقل والتجربة، والتأكيد على النظر في الكون والتاريخ كمصادر للمعرفة الإنسانية، كل هذه جوانب مختلفة لفكرة واحدة هي ختام النبوة .. أن البشرية لم تعد بحاجة إلى نبي جديد وأن محمدا هو آخر الأنبياء و خاتم الرسل ، وأن رسالته هى خاتمة الرسالات .. يرى إقبال : أن القرآن يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن المعرفة التى يحتاجها الإنسان فى حياته و تقدّمه قائمة فى الأنفس والآفاق فهذان هما المصدران الوحيدان للمعرفة الحديثة بعد أن توقّف الوحي، ؛ فالله يرينا آياته في التجربة الجوانية والبَّرانية ، وواجب الإنسان هو أن يجتهد ويمضى فى تقييم هذه التجربة ، ويحكم على كفاءتها فى إمدادنا بالمعرفة. يقول محمد إقبال : " فكرة انتهاء النبوة وختام الرسالات ..لا ينبغي فهمها على أن الغاية النهائية للحياة هى إحلال العقل محل القلب والوجدان ، فهذا شيء غير ممكن وغير مرغوب، والقيمة العقلية للفكرة هي أنها تتجه إلى خلق موقف نقدي و تولّد فينا إعتقادا بأن أى سلطة شخصية تدَّعى لنفسها مصدرا فوق الطبيعة قد انتهى عهدها من تاريخ البشرية ، و هذا الاعتقاد فى حد ذاته يمنح الإنسان قوة نفسية تكبح ظهور مثل هذه السلطة، وترسيخ هذه الفكرة يفتح آفاقاً جديدة من المعرفة في مجال التجربة الجُوّ انية والبرانية للإنسان " ، فمن النظر والبحث فى آيات الله فى الأنفس يتولّد علم النفس ومن آياته فى الآفاق تتولد العلوم الطبيعية المختلفة ، كما يتولد علم التاريخ من النظر فى سير الأمم السابقة والتماس العبرة منها لقدخلقت هذه الفكرة ونَمَّت روح الملاحظة النقدية المتفحصة لتجربة الإنسان الخارجية بأن جرّدت قوى الطبيعة من تلك الصبغة االأسطورية التي أسبغتها عليها الثقافات السابقة في العصورالقديمة .. وعلى هذا يجب على المسلم الآن أن يعتبر التجربة الصوفية الدينية تجربة طبيعية تماماً مهما كانت غير عادية وغير مألوفة، وأنها قابلة للنقد وخاضعة للفحص الدقيق كغيرها من الجوانب الأخرى للتجربة الإنسانية .. ويرى محمد إقبال أن أول إنسان فى التاريخ حاول أن يخضع الظواهر النفسية للتجربة والملاحظة هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم نفسه .. إذ يُروى أن غلاما يهوديا إسمه إبن صياد كانت تنتابه حالة وصفها بعض الناس بأنها جذب روحي ووصفها آخرون بأنها لبْس شيطاني ، فإذا حضرته هذه النوبة اعتزل الناس وجلس وحده يتحدث إلى نفسه .. فلما سمع النبي بقصته أراد أن يخضعه للملاحظة المباشرة ويفحصه بنفسه فاقترب منه مستترا بجذع شجرة حتى لا يراه الغلام .. ولكن جاءت أمه ونبهته إلى أن النبي يستمع إليه فأفاق الغلام من جذبته .. وقال النبي ما معناه : لولا تركتْه لعرفنا ماذا يقول ...؟ في القرآن إذنْ مصدران آخران للمعرفة (غير استبطان النفس وملاحظة السلوك الفردي والجمعي) هما الطبيعة والتاريخ .. وتتجلى روح الإسلام في أفضل صورها في انفتاحها على هذه المصادر .. يقول محمد إقبال : يرى القرآن الآيات الدالة على الحقيقة المطلقة في: الشمس و القمر و امتداد الظل و اختلاف الليل والنهار و اختلاف الألسنة وألوان البشر و تداول الأيام بين الناس.. وفى كل مظاهر الطبيعة كما تتبدّى للإدراك الحسّي .. و يرى أن واجب المسلم هو أن يتأمّل في هذه الآيات لا أن يمرَّ بها "كما لو كان ميتاً أوأعمى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (الإسراء: آية 72) .. هذه الدعوة إلى عالم الحس وما يصاحبها من التحقّق االمتانّى لرؤية القرآن للكون من حيث أنه كون ديناميكي متغير خاضع للصيرورة بطبيعته ، كون متناهٍ رغم اتساعه الهائل ، ولكنه مع تناهيه قابل للزيادة والامتداد المستمر... كل هذا جعل المفكرين الإسلاميين يدخلون في صراع مع الفكر الإغريقي ، الذي درسوه بمزيد من الحماسة في بداية حياتهم العقلية . فلم يكن المفكرون المسلمون فى أول الأمر يدركون أن روح القرآن تتعارض فى أساسها مع الفلسفة القديمة ، فوضعوا كل ثقتهم في المفكرين الإغريق ، وكانت أول اندفاعة لهم هي محاولة فهم القرآن في ضوء الفلسفة الإغريقية .. ولكن باءت هذه المحاولة بالفشل ؛ ذلك لأن روح القرآن تميل إلى ما هو واقعي ملموس بينما طبيعة الفلسفة الإغريقية تأملية مجردة تهتم بالنظرية وتغفل الواقع .. ويعتقد محمد إقبال أن هذا الفشل فى حد ذاته كان نعمة عظمى فهو الذى أدى إلى ظهور الروح الحقيقية لثقافة الإسلام ؛ وإلى وضع الأساس المنهجي للثقافة الحديثة في أهم جوانبها.. وقد تجلّت هذه الثورة الفكرية ضد الفلسفة الإغريقية في جميع المجالات الإسلامية.. لاحظ هنا أن فكرة إقبال هذه تقلب النظرة الشائعة والموروثة التى تذهب إلى أن كل تقدم فكري أحرزه المفكرون المسلمون يرجع فى أساسه إلى العقلانية التى استقاها المسلمون من الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطى ويتشدق أدعياء الثقافة اليوم بأن تخلّف المسلمين راجع إلى أنهم طرحوا عقلانية الفيلسوف الأندلسي إبن رشد المستمدة من الفلسفة الأرسطية وتابعوا فكر أبى حامد الغزالي الذى هاجم الفلسفة اليونانية ولجأ إلى الحدْس كمصدر يقيني للمعرفة ... ولن نخوض فى تفاصيل هذه المعركة التاريخية بين الغزالى فى كتابه "تهافت الفلسفة" و ردّ ابن رشد عليه فى كتابه "تهافت التهافت" إنما نثبت هنا فقط فكرة محمد إقبال التى جاءت كأنها كشف جديد مفاده: أن التقدم الفكري والعلمي الذى ابتدعه المسلمون وترسخ فى الثقافة الغربية بعد ذلك ، وكان باعثا على نهضتها الحديثة .. هذا التقدّم لم يكن نتيجة تبنّى المسلمين للفلسفة اليونانية وتطبيقها فى المجالات الفكرية المختلفة وإنما كان نتيجة الثورة على الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي .. هذه الثورة التى تولّد عنها منهج الاستقراء العلمي الحديث القائم على الملاحظة والتجربة .. وكان مصدره الأساسي ومفجّره هو القرآن نفسه .. كان ابتداعا إسلاميا خالصا نقله إلى أوربا روجر بيكون وصقله من بعده سميّه فرانسيس بيكون ... ونكمل إنشاء الله الحديث عن أبعاد هذه الثورة العلمية وأبعادها فى التقدم الإنساني فى مقالة لاحقة بمشيئة الله .... [email protected]