ذكرت فى المقال السابق أن تطوّر المعالجة العلمية للتاريخ كما بدأها ابن خلدون فى مقدّمته المشهورة باسمه، تستند إلى أفكار أساسية تتعلق بالحياة والزمن مستخلصة من الآيات القرآنية.. أجْمَلَها إقبال فى فكرتين: الفكرة الأولى هى وحدة الأصل الإنساني لجميع البشر، والفكرة الثانية هي الإدراك العميق لحقيقة الزمن وتصوّر الحياة كحركة مستمرة فيه.. لقد تناولنا الفكرة الأولى فى المقالة السابقة بشيء من التفصيل، ونواصل فى هذه المقالة حديث إقبال عن الفكرة الثانية؛ فهذه الفكرة عن الحياة والزمن هي النقطة الأكثر إثارة للاهتمام في نظرة ابن خلدون للتاريخ، وهذا هو ما يبرر تقريظ "فلنت" لابن خلدون فيقارن بينه وبين كبار الفلاسفة حيث يقول: "إن أفلاطون وأرسطو وأوغسطين ليسوا أندادًا لابن خلدون، وكل من عداهم من الفلاسفةلا يستحقون الذكر إلى جانبه ...!". أنظر فى هذا "روبرت فِِلِِنْت" في كتابه "تاريخ فلسفة التاريخ"، ولم ينفرد فلنت بتقريظ عبقرية ابن خلدون فى هذا المجال، بل يشاركه فى هذا الرأى العالم والمؤرّخ البارز أرنولد تويْنْبى في كتابه: (A Study of History) كما يشاركه "سارتون"، وكذلك جاستون بوثول في تقديمه لكتاب "دى. سلين" بعنوان: (Les prolegomenes d'Ibn Khaldoun). ويعلق إقبال على ذلك بقوله:" كُلُّ ما أريد التأكيد عليه هو: "أنه إذا أخذنا في موضع الاعتبار الاتجاه الذي تكشَّفت عنه الثقافة الإسلامية، فإن المفكر المسلم وحده هو الذي كان يمكنه النظر إلى التاريخ كحركة جماعية متواصلة، وكتطور حتمي حقيقي في الزمان. ونقطة الطرافة المشوقة فى هذه النظرة إلى التاريخ هى الطريقة التى أدرك بها ابن خلدون عملية التغيّر .. ففكرته ذات أهمية قصوى لما تنطوى عليه من اعتبار التاريخ حركة مستمرة في الزمان، وحركة خلاَّقة أصيلة، وليست حركة ذات مسار سبق تحديده من قبل .. لم يكن ابن خلدون ميتافيزيقيا .. بل كان بالتأكيد معاديا للفلسفة الميتافيزيقية.. ولكن يمكننا اعتباره سابقًا للفيلسوف برجسون في تصوّره لطبيعة الزمان؛ فنظرة القرآن إلى {إختلاف الليل والنهار} كرمز للحقيقة المطلقة، التي تتجلّى فى الآية القرآنية: {كل يوم هو فى شأن}، ونظرة ابن مسكويه إلى الحياة كحركة تطوّرية، ومقترب البيرونيّ إلى تصور الطبيعة كعملية صيرورة، كل هذا كان يشكّل الميراث الفكري لابن خلدون .. أما فضل ابن خلدون فيكْمُن ُ فى إدراكه العميق وتعبيره العلمي المنظّم عن روح الحركة الثقافية الإسلامية، التي كان هو نفسه أعظم نتاج عبقري لها..." يشرح إقبال هذه النقطة بمزيد من التفصيل فيقول: " في كتاب هذا العبقري حققت روح القرآن انتصارها النهائي على الفكر اليوناني القديم، لأن الزمان فى تصوّر الإغريق لم يكن يخرج عن حالتين إثنتين: فإما أنه غير حقيقي كما يرى أفلاطون و"زينون"، أو أنه يتحرك حركة دائرية كما يرى " هيرقليطس" والرواقيون. فإذا فهمنا حركة الزمان على أنها حركة دائرية، فإنها تتوقف عن أن تكون حركة خلاَّقة، وذلك لأن العودة الأبدية ليست خلقًا أبديًا .. إنما هى تكرار أبديّ لنفس الشيء" .. ومن هنا جاءت الفكرة الخاطئة أن التاريخ يكرر نفسه، وحقيقة الأمر أن التاريخ لا يكرر نفسه أبدا ... يقول إقبال: "نحن الآن في وضع يمكننا فيه رؤية الدلالة الحقيقية لثورة الإسلام الفكرية ضد الفلسفة الإغريقية ..! إن حقيقة كون هذه الثورة قد تأصلت في اهتمامات دينية خالصة يوضح أن ِالحركة المضادة للفلسفة القديمة التي تُميَّز روح القرآن تؤكد نفسها بالرغم من أولئك الذين بادروا مخطئين بتفسير الإسلام في ضوء الفكر الإغريقي..." "بقى الآن أن نمحو سوء فهم خطير نشأ عن كتاب ذائع الصيت بين القُرَّاء كتبه شبنجلر بعنوان (سقوط الغرب)، وقد خصص فيه فصلين لمشكلة الثقافة العربية، يشكلان أهم الإسهامات الغربية في تاريخ آسيا الثقافي .. ومع ذلك فهذان الفصلان قائمان على فهم خاطئ فاحش الخطأ لطبيعة الإسلام كحركة دينية وما ابتدعته هذه الحركة من فاعلية ثقافية." يقول إقبال فى تحليله النقدي لنظرية اشبنجلر: "تتمحور النظرية الأساسية عند "شبنجلر" حول فكرة أن كل ثقافة هي كيان عضوي مستقل، وليس لها أي نقطة اتصال بالثقافات التي سبقتها أو أعقبتها تاريخيًا . وحسب رأيه: كل ثقافة لها طريقتها الخاصة بها في النظر إلى الأشياء ، طريقة لا يتمتع بها إطلاقًا أصحاب أي ثقافة أخرى غيرها .. وفي غمرة لهفته لإثبات هذه النظرية حشد طائفة هائلة من الحقائق والتأويلات لإثبات أن روح الثقافة الأوروبية معادية في صميمها لكلاسيكية العلوم الإغريقية القديمة .. وأن هذه الروح المضادة للكلاسيكية التي تميز الثقافة الأوروبية، ترجع بتمامها إلى العبقرية المتفرّدة لأوروبا، ولا ترجع إلى أي إلهام استلهمته من ثقافة الإسلام، تلك الثقافة التي تطاول عليها بجهل، إذ اعتبرها مجرد امتداد للماجوسية في روحها وطبيعتها...!" ويرى إقبال أن وجهة نظر شبنجلر عن روح الثقافة الغربية الحديثة صحيحة تماما. ولكنه ارتكب خطأين فاحشين أولهما: أنه تجاهل أو لم يفهم أن الروح المضادة للفلسفة اليونانية القديمة التى تميز الفكرفى العالم الحديث لم يكن لها أن تظهر فى إوربا إلا نتيجة لثورة الإسلام ضد الفكر الإغريقي.. ويرجع إقبال هذا الموقف المتعصب من اشبنجلر إلى حقيقة أنه لو ثبت أن روح الثقافة الحديثة المضادة للفكر اليوناني القديم ترجع إلى الاستلهام الذي أخذته أوربا من الثقافة الإسلامية لانهارت نظرية شبنجلر من أساسها... فنظريته تؤكد الاستقلال التام والإقصاء المتبادل بين الثقافات .. وإني لأخشى أن تكون لهفة "شبنجلر" على بناء نظريته هذه قد أضلَّته ..." ... قول:" بل أعْمته عن رؤية الثقافة الإسلامية على حقيقتها .. وليس أدل على ذلك من اعتباره الإسلام منتميا إلى الثقافة المجوسية، ضمن مجموعة الديانات المجوسية وهو التى تشتمل فى نظره على: اليهودية والديانة الكلدانية القديمة والمسيحية الأولى والزرادشتيه والإسلام" .. يقول إقبال: "إذا كان "شبنجلر" يقصد تطبيق هذه الفكرة على تعاليم النبوة فى الإسلام فهذا تصوير خاطئ بكل وضوح، والنقطة التي يجب ملاحظتها هي أن المجوسية قد سمحت بوجود آلهة مزيفة... أما الإسلام فقد أنكر أي وجود لهذه الآلهة الباطلة .. وفيما يتعلق بهذا الأمر فإن "شبنجلر" قد فشل في تقدير القيمة الثقافية لفكرة ختام النبوة في الإسلام .. ومما لا شك فيه أن من أهم ملامح الثقافة المجوسية ذلك النزوع نحو الترقب الأبدي والتطلع الدائم لظهور أبناء "زرادشت" الذين لم يولدوا بعد، أو ظهور المسيح المخلّص الذي ورد ذكره في الإنجيل..." ويلفت إقبال نظرنا يشدة إلى العقيدة الإسلامية القرآنية فى [ختام النبوة] تلك العقيدة التى سبق أن عرضنا لها فى مقال سابق حيث يؤكد أنها أقوى علاج سيكولوجيّ للنزعة المجوسية نحو الترقب الدائم الذي يميل إلى إعطاء فكرة خاطئة عن التاريخ .. وقد نقد ابن خلدون، بل قضى نهائيًا على الأساس المزعوم لفكرة ظهور مخلَّص في الإسلام التي تشبه على الأقل في تأثيراتها السيكولوجية الفكرة الأصلية للمجوسية، وكان نقد ابن خلدون قائمًا على أساس نظرته الخاصة للتاريخ، ولكن عادت فكرة المخلَّص للظهور في الفكر الإسلامي تحت ضغط تأثيرات الفكر المجوسيَّ... [عالجتْ هذه الفكرة عند المسيحيين الذين يطلقون على أنفسهم إسم (الأصوليين الجدد) وينسبهم آخرون إلى المسيحية الصهيونية، فى مقال مستقل بعنوان: عقيدة الخوف والأمل فى الفكر الأمريكي ]. يقول إقبال: "لقد كان جهل شبنجلر بالفكر الإسلامي جهلاً فظيعًا، خاصة فيما يتعلق بمشكلة الزمان، وما يتعلق بالتجربة الدينية في الإسلام.. فنجده بدلاً من أن يستضئ بنور تاريخ الفكر الإسلامي وتجربته، فضَّل أن يبنى أحكامه على أساس معتقدات عامّية التقطها من هنا وهناك، من الأمثلة الشعبية التى يردّدها العامة عن بداية الزمان ونهايتة .. فتخيلوا رجلاً غزير المعرفة يلتمس الدليل على الجبرية المزعومة في الإسلام من تعبيرات وأمثلة شرقية مثل (حُكم الزمان..) و(كل شيء له أوان..)، ويستخلص من هذه الأمثال الشعبية الدارجة فكرة القسمة والنصيب المحتوم التى شاعت عن الإسلام فى الفكر الغربي.. " وقد فنّد إقبال هذه الجبرية البغيضة التى لا تنتمى إلى روح الإسلام الحقيقية بصلة فى كتابه تجديد الفكر لديني فى الإسلام، عندما تحدّث عن أصل مفهوم الزمان وتطوّره في الفكر الإسلامي، وعندما تحدث عن الذات الإنسانية كقوة حُرَّة مختارة ومسئولة عن اختياراتها.. وينتهى إقبال إلى القول بأنه: من الواضح أنَّ تمحيص آراء شبنجلر فى هذه النقطة عن الإسلام والثقافة التي نبعت منه، أمر يحتاج إلى كتاب مستقل .. ولكنه يعود مرة أخرى ليناقش بشيء من التفصيل تهمة شبنجلر للإسلام بالمجوسية حيث يقول: "يزعم اشبنجلرأن جوهر تعاليم النبوة في صميمها مجوسية، فهناك إله واحد ليكن اسمه "يهوا" أو "أهورَمزدا" أو "ماردوك بعْل" هو مبدأ الخير، وكل ما عداه من الآلهة إما عجزة أو أشرار، و قد اقترن بهذه العقيدة الأمل في مسيحٍ مُخلّصَّ .. ويتضح هذا الأمل فى المسيح عيسى عليه السلام ولكنه أيضًا ظهر في كل مكان خلال القرون التالية تحت ضغط ضرورات داخلية.. وهذه هي الفكرة الأساسية للمجوسية الدينية لأنها تحتوى ضمنيًا على فكرة الصراع التاريخي العالمي بين الخير والشر، حيث تسود قوة الشر في الفترة المتوسطة من الزمان ثم ينتصر الخير أخيرًا يوم القيامة..." والله أعلم ... [email protected]