أسعار الفراخ اليوم الإثنين 18-8-2025 في بورصة الدواجن.. سعر كيلو الدجاج والكتكوت الأبيض    مطاردة الواحات المميتة.. الداخلية والإعلام يضعان الجناة في قبضة العدالة    وصول القطار الخامس للأشقاء السودانيين إلى محطة السد العالى بأسوان..صور وفيديو    ليلة فى حب ياسين التهامى.. الجمهور يتفاعل مع الشعر الصوفى وقصائد المديح النبوى والابتهالات في الدورة 33 لمهرجان القلعة للموسيقى والغناء.. والموسيقار عمرو سليم يعزف أجمل موسيقى أغنيات نجوم الزمن الجميل.. صور    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    متحدث الصحة عن خطف الأطفال وسرقة أعضائهم: "مجرد أساطير بلا أساس علمي"    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    ستارمر يخطط للتشاور مع حلفاء أوكرانيا بعد تقارير عن سعي ترامب لاتفاق حول الأراضي    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    بين السَّماء والأرض.. زائر ليلي يُروّع أهل تبسة الجزائرية على التوالي بين 2024 و2025    الأمم المتحدة: نصف مليون فلسطيني في غزة مهددون بالمجاعة    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    أمير هشام: الأهلي سيقوم بتحويل قيمة جلب حكام اجانب إلى الجبلاية    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في أسيوط    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    سامح حسين يعلن وفاة الطفل حمزة ابن شقيقه عن عمر يناهز ال 4 سنوات    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    "بفستان جريء".. نادين الراسي تخطف الأنظار من أحدث جلسة تصوير    السكك الحديدية تعلن تشغيل 49 رحلة يوميا على هذا الخط    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    انطلاق المؤتمر الدولي السادس ل«تكنولوجيا الأغشية وتطبيقاتها» بالغردقة    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    الخارجية الأمريكية: لن نتعاون مع أى جماعات لها صلات أو تعاطف مع حماس    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    «الصيف يُلملم أوراقه».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض جوى قادم    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    4 أبراج «مرهقون في التعامل»: صارمون ينتظرون من الآخرين مقابل ويبحثون عن الكمال    حماية المستهلك: نلمس استجابة سريعة من معظم التجار تجاه مبادرة خفض الأسعار    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    وائل القباني عن انتقاده ل الزمالك: «ماليش أغراض شخصية»    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كنيسة القديسين وجذور أزمة الخطاب الأصولي
نشر في القاهرة يوم 11 - 01 - 2011

لاشك أن جميع محاولات تجديد الخطاب الديني التي تتم عقب مرور المجتمع بمحنة عنف، مخيبة للآمال، فهي محاولات مجردة من مقومات الإحساس بالواقع الذي يحياه هذا المجتمع من ناحية، وبقيمة الحس الديني المتأصل لدي أبناء المجتمع من ناحية أخري، فهي محاولات تتجاهل حقيقة أن الدين لا يتجدد، وإنما الذي يتجدد هو تفكير المؤمنين بهذا الدين، فالدين دين بما يملكه من قوة القديم، والتراث الذي يعتمد عليه في أصالته، بينما المؤمنون هم بشر يعيشون الواقع، ويمرون بالزمن،فأي محاولات لتجديد الخطاب الديني يجب وأن تتجه إلي الواقع، والمؤمنين به في آن واحد، فتتم إعادة رؤية الواقع، وإعادة بيان كيفية ممارسة هؤلاء المؤمنين لإيمانهم عبر تلك الرؤية الجديدة للواقع، وكان هذا هو ما فعله الأوائل بدينهم، وواقعهم، حتي باتت فعلتهم هذه هي المرجعية الأصولية التي تكبل رؤيتنا اليوم لديننا، وواقعنا معاً، فأنتجت ما نعانيه من عنف، إن قيمة أن تمر بنا أحداث مثل احداث كنيسة الإسكندرية أنها تجعلنا نؤمن بحتمية المواجهة، مواجهة الثوابت من أفكارنا علي نحو نعيد عبره تقييمها، بحثاً عن الأسباب الحقيقية لما نواجهه من مشاكل، وأحداث، وسعياً للوصول لأساليب معالجة حقيقية، وليست أساليب معالجة التفافية، تستهدف مخاطبة الرأي العام بمسكنات تحول دون التصعيد، وتأجيله إلي وقت لاحق، ومن أهم تلك الأسباب الحقيقية لتصعيد العنف ليحل محل التفكير، هي أنها من نتيجة الخطاب الديني المتراكم عبر الزمن، وعليه فإن الخطاب الأصولي الاسلامي، هو محل لمراجعته التاريخية، ولمراجعته المعاصرة، ومحاولة استنقاء تاريخه بالاستقراء.
عناصر الخطاب الديني ونماذجه
لما كانت "الرسالة هي الوسيلة"، علي حد قول "مارشال ماكلوهان"(19111980م) فيلسوف الاتصال الحديث، فالخطاب الديني رسالته هي القرآن الكريم، ووسيلته أيضاً هي القرآن الكريم، وعلي الرغم من أننا منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي ندفع ثمن تسيد الفكر الديني الأصولي لمواجهة التيار الليبرالي في المجتمع، باستخدام رسالته، ووسيلته، إلا انه يبدو أن الثمن لم يكتمل بعد، أو ربما ندفعه من واقعنا علي أقساط متابعة في شكل الأزمات التي نمر بها من جراء ارتفاع حدة العنف بين الحين والآخر نتيجة هذا الخطاب الأصولي الذي كتبت له السيادة يوما ما، ولكن ما سر العنف الموجه إلي الأقباط داخل المجتمع إذا كان الخطاب الأصولي المتشدد يستنكر هذا العنف، بوابل من التأويلات للآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة؟ والتي توصي بحسن معاملة الأقباط لأنهم أهل ذمة، داخل مجتمعاتنا، وعليه فعلينا أن نخلّي هدف الخطاب الديني الأصولي بالبحث عن صورته الأولي التي برز إلي الوجود الفكري الاسلامي عبرها، والي تتبع هذا النموذج في أحدث صوره القائمة حالياً والمسيطرة علي أوعية الاتصال المختلفة، فكان نموذجنا الأول في فكر الإمام"الشافعي"(150204ه) رحمه الله، مؤسس علم أصول الفقه، والنموذج الثاني كما يتجلي في خطاب الداعية الاسلامي د."يوسف القرضاوي"(1926م).
مبررات ابن خلدون
لم يقنعني "ابن خلدون"(13321406م) في مقدمته بمبرراته التي ساقها في نشأة علما أصول الفقه، والذي يعد ذلك العلم هو المؤسس الأول للخطاب الأصولي المتراكم عبر تاريخ الفكر الاسلامي، حيث اعتبره علماً نشأ من أجل تأصيل قواعد استنفاد المعاني من الألفاظ، نتيجة غياب الذوق اللغوي، وضعف الملكات اللسانية، لانقراض السلف، واختلاط العرب بغيرهم! فكان أول من كتب فيه "الشافعي"، لقد تجاهل "ابن خلدون" الواقع الذي أنتج أول خطاب أصولي، فحصره في فساد ملكة اللسان، علي نحو عتم علينا الجذور الأولي لنشأة هذا الخطاب، والظروف التي أحاطت بنشأته، فهل هدف"الشافعي" من رسالته تقويم اللسان؟ ولو كان هدفه كما تصور"ابن خلدون" فما حكمة اشتمالها علي نتائج الأدلة الشرعية علي هذا النحو؟ ليبقي السؤال مطروحاً منذ زمن "الشافعي" إلي يومنا هذا، ما الذي حدث في الدين في وقته المبكر، والذي دعا إلي إحكام علاقة اللفظ المقدس بالمعني؟ إن الذي حدث ويحدث هو فعل الزمن والتطور وتقلب الواقع بين جنبات المسلمين حتي في زمن الدين الأول، وهو الذي دفع إلي وضع ضوابط لحركة النص بين الناس، فنتج الخطاب الأصولي الأول، ولنقترب أكثر من الحقيقة، فقد كان هدف "الشافعي" إنقاذ النص المقدس من محاولات تسييسه المفرطة من جانب السلطة الحاكمة، والوقوف الأول في وجه تأويل النص أيديولوجياً، لمصالح خاصة، فهدف"الشافعي" كان سياسياً في المقام الأول وليس فقهياً، فقد كانت المشكلة التي أمام"الشافعي" ليست هي في كيفية تقنين المعرفة الدينية، بقدر ما هي تقنين الآراء المتسلطة التي تستمد سلطانها من النص من أجل الارتكان علي الطاعة العمياء للحاكم، لتكون مصوغاً لفتح باب التشريع المستبد الذي وصفه"الشافعي" في رسالته بأنه استبدال رأي الحاكم بأمر النص، فيكون"متلذذا" وهو عين الاستبداد، حيث كان الخلفاء والسلاطين النموذج القياسي للخطاب الأصولي المعاصر وقتها يمارسون علي النص القرآني مختلف التبريرات، والتأويلات لوجوب طاعتهم المطلقة كما يظهر في الآية «يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» (59) سورة النساء، فكان هدف الخطاب الأصولي الأول هو إحداث قيد تشريعي علي النص في مواجهة السلطة الحاكمة، من أجل تفويت الفرصة عليها لكي تنتج ما يتفق وهواها التسلطي، باعتبار أن النص حمال أوجه، حتي ان المفكر الكبير"أحمد أمين"(18781954م) لم يقف عند الأبعاد السياسية المؤسسة لعلم الفقه، بأن زعم في "ضحي الإسلام" أن هناك فصلاً كان قائماً بين الفقهاء، ورجال السياسة في ذلك العصر، وهو فصل ما كان يقبل في ذلك الزمن، فهو لم يكن علي بينة من إدراك دوافع"الشافعي" لوضع رسالته، ولا عن حقيقة العلاقة التي بين رجل السلطة، والفقيه الذي أنتج أول خطاب أصولي.
أصولية الشافعي
لقد نجح"أبو العرب التميمي"(ت:333ه) في كتابه"المحن"في رصد علاقة رجال السياسة مع منتجي الخطاب الديني عبر حوالي ثلاثة قرون، من تعذيب وقتل، تلك العلاقة هي التي حتمت علي "الشافعي" بأن يكون حريصاً وهو بصدد إنتاج خطابه أن يبقي علي مسافة بينه وبين رجل السلطة، مسافة المواربة، التي تسمح بتمرير أفكاره السياسية، فجاءت رسالته علي هذا النحو المتشدد في كيفية إنتاج الأدلة الشرعية من النص القرآني، والتي ارتكن عليها كل منتجي الخطب الدينية اللاحقة، ومن المفارقات أن ثورة "الشافعي" التي هي نتاج جدله مع واقعه المتغير، تتحول إلي أصولية تحجر علي أعتابها كل إنتاج للخطاب الديني، منذ عصره إلي اليوم، فقد نتج الخطاب الأصولي الأول عن انعكاس لمواقف سياسية يتجادل معها في السر رجل الدين، فعرف"الشافعي" عن أستاذه الإمام "مالك" أن رجل العلم أعلي منزلة من الوالي، إلا انه وهو بصدد إنتاج الخطاب الأصولي الأول كان يدرك مدي التناقض داخل شخصية الخليفة كحارس للعقيدة، وشخصيته السلطانية كممثل للخلافة، ولكنه لم يقف علي فحوي رفض الإمام"مالك" لطلب الخليفة" أبي جعفر المنصور"(95158ه) لكي يضع موطأه داخل أحجار الكعبة، فقد كان الإمام"مالك" مدركاً للفرق بين قيمة الاجتهاد، وجعل العلم علماً واحداً كما فعل تلميذه"الشافعي"، ويشير الشيخ"مصطفي عبد الرازق"(18851947م) شيخ الأزهر، وأول راصد لتاريخ الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث، في كتابه"تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" إلي مقولة"المنصور" عندما تعلل الإمام "مالك" برفض طلبه باختلاف طبيعة أهل العراق عن أهل المدينة، فقال له"المنصور":" تضرب عليه عامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط"، فارتبط العنف من وقتها بمرجعية الخطاب الديني الأصولي المستبد.
الشيخ القرضاوي
ولكي نلضم الخيط فإننا سنتعرض لأحدث نسخ الخطاب الأصولي المعاصر كما يبدو في فكر الشيخ العلامة"يوسف القرضاوي"، وان كنا تعرضنا عند"الشافعي" لظروف إنتاج خطابه، فإننا سوف نقف عند "القرضاوي" علي موضوع خطابه، كما بدا في أحدث لقاءاته الفضائية في برنامجه"الشريعة والحياة" علي "قناة الجزيرة" بتاريخ الثاني من يناير الجاري، فجاء خطابه محققاً لتعارض مقدماته مع موضوعه، فقد استهله باستنكار واقعة كنيسة الإسكندرية بما يملكه من مرجعية تأويلية للقرآن والحديث الشريف، مرسلاً عزاءه للإخوة الأقباط، حريصاً علي وحدة البلاد، إلا أن خطابه لم يستطع التحلل من أصوله المؤسسة لفصل الدولة كمؤسسة حاكمة عن أفرادها، وتقسيم أفراد المجتمع إلي طوائف، عندما حصر خطاب الشريعة الإسلامية في إقامة الحدود، فجاء تعاطفه مع الأقباط علي نحو تعاطف مع الآخر، فما زال الأقباط في الخطاب الديني الأصولي المعاصر يتم التعامل معهم من قبيل أنهم أقلية، مفروض علي الأكثرية حمايتهم، وهي أصداء لأفكار كانت معاصرة لزمن فتوح البلدان ومستمرة إلي اليوم، عبر مفاهيم الذمية، وأصحاب الجزية المفروضة، بينما الخطاب الديني الموجب لهذه الحماية يتأتي له نتائجه في وحدة الأمة عند التخلي عن الحديث التقسيمي لأبناء المجتمع علي اعتبارات الدين أصلاً، وهي مفاهيم تعكس منطلق الدولة الدينية الصادر عنها، فمازال"القرضاوي" ينتج نفس الخطاب المؤسس لتوحيد سلطة الوالي، والفقيه، عبر الفضاء الجماهيري، فمهما رفع من شعارات أهدافها نبيلة، إلا أن هذا النبل لا يستقم عبر الخطاب الأصولي إلا بدعمه المستتر لمفاهيم الدولة الدينية، وعليه فهو خطاب مماثل للخطاب الأصولي الأول عند"الشافعي" نتاج توجهات سياسية باطنية، لم يستطع أن يتخلص منها الخطاب الديني المعاصر رغم تعازيه المرسلة حصرياً للإخوة الأقباط.
الحدود وفكرة القانون
امتداداً لمفهوم الدولة الدينية، يعتبر"القرضاوي" الحدود هي ابرز مظاهر الخلافة الإسلامية، حتي انه يشكك في الاعتماد علي الشريعة كمصدر اساسي للتشريع، ما لم تنص هذه التشريعات علي الحدود الشرعية في صلب عقوباتها، ففكرة المجتمع عند الخطاب الأصولي المعاصر،كما تجلت في خطاب"القرضاوي" ليس فكرة مجتمع واقعي قائم، وإنما هي فكرة لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المثالي، حتي انه حين استشهد بتعطيل الخليفة"عمر بن الخطاب" للحدود، كان مبرره عدم وجود نظام اجتماعي متكامل، إذن فهو خطاب يتحدث عن شريعة وحدود تطبق كنتيجة لمثالية مجتمع، وليست مثالية مجتمع هي نتيجة تطبيق الشريعة والحدود، وعليه فالأمر ليس كما يختزله"القرضاوي" في الحدود، حتي ان الإمام"حسن البصري"(21110ه) وصف تطبيق الحدود في زمانه بأنها"سارق السر يقبض علي سارق العلانية" فطالما الأمر كان كذلك في الصدر الأول المعتمد كمرجعية للخطاب الأصولي، ألا يدفعنا هذا اليوم أن نواجه واقعنا ونطور من خطابنا الديني؟ حتي ان تماهي"القرضاوي" في تأكيده علي ضرورة تطبيق الحدود، جاء علي سبيل إحكام السيطرة بالردع بتشديد العقوبات، فهو اعتراف ضمني بشدة تلك الحدود، بينما الفيلسوف الفرنسي"جان جاك روسو"(17121778م) يري أن النفس البشرية كالسوائل تتكيف مع الإناء الذي توضع فيه، فكلما زادت العقوبات شدة، الفتها النفس البشرية، وعادت لاقتراف الجريمة في ظل العقوبات المشددة، فالقضية ليست في نوعية العقوبة كما يقف عليها الخطاب الأصولي، وإنما هي قضية المساواة بين أفراد المجتمع في تطبيق العقوبات، وهذه هي غاية الشرع الإلهي، فعندما اقسم رسول الله صلي الله عليه وسلم، بقطع يد "فاطمة" إذا سرقت، عندما توسط "أسامة بن زيد" لسارقة من بني مخزوم، لم يكن قسمه صلي الله عليه وسلم من أجل قطع يد السارقة، وإنما كان قسمه للتأكيد علي المساواة بين الجميع أمام القانون، حيث ان عقوبة قطع يد السارق من العقوبات التي جري عليها العرف في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، فالجديد الذي أضافه الإسلام كدين، ليس التشريع العقابي، وإنما المساواة في الامتثال أمام هذه التشريع بين أفراد المجتمع.
القرضاوي وفكرة الدولة
مازال الخطاب الأصولي النابع من فكرة الدولة الدينية، مستمراً في إنتاج دلالاته الموجهة إلي صلب الدولة المدنية، خاصة فيما يتعلق بمفهوم المال العام، يعترض"القرضاوي" علي القوانين الوضعية انطلاقاً من غياب الحدود عن نصوصها، فتطور خطابه إلي نقطة بالغة الدقة عند حديثه عن "التعزير"، وهو إنزال العقوبة علي كل معصية لم يرد بشأنها حد، ولا كفارة، فيرد علي محدثه الذي يسأله عن حد سرقة مال الدولة؟ فاسقط"القرضاوي" حد السرقة عمن يسرق مال الدولة، قياساً علي من يسرق من بيت مال المسلمين فلا يقام عليه الحد، في حين أن القوانين الوضعية التي لا يعترف بها"القرضاوي" تشدد عقوبة السرقة إذا كانت الجريمة واقعة علي المال العام، فبسبب النفع العام المنتظر من هذا المال، اعتبر المشرع الوضعي أن سارق المال العام قد اعتدي علي المجتمع كله، وحرم المنفعة العامة مما سرقه، فأيهما أكثر ردعاً ومنعاً، رؤية الخطاب الأصولي الاجتهادية؟ أم رؤية القوانين الوضعية؟ أم أن رؤية الخطاب الأصولي المعاصر هي نتاج ما يضمره في سره من موقف مناوئ لفكرة المال العام في الدولة المدنية فاستباح سرقة مالها وعطل الحدود عن سارقيه، والتي يتذرع بتمسكه بها إلي منتهي خطابه؟
هم رجال ونحن رجال
إن المشكلة التي تواجه الخطاب الديني منذ مرجعيته الأصولية عند"الشافعي"، إلي يومنا هذا عند"القرضاوي"ليست هي ثبوت أو عدم ثبوت هذه الأدلة الحدودية الشرعية، والتي وردت تقريبا في عدد عشر آيات من القرآن الكريم، ولكن تكمن الإشكالية في كيفية الوصول إلي هذه الثبوتية عبر النص القرآني، وهو كيفية استخراج الأدلة الشرعية، والقوانين، وهو ما يعرف بعلم أصول الفقه، وهو علم نتاج اجتهادات متحررة تم تقيدها بنزعة الخطاب الديني الأصولي في سبيل تناحره مع السلطة الحاكمة في شكل الخليفة قديماً، وفي شكل الدولة المدنية حديثاً، فالأحكام الشرعية التي يؤكد عليها"القرضاوي" غاب عن أنصارها الوقوف علي الحكمة الشرعية منها، فانصرف همهم للتدليل علي صدق نتائجهم ببيان كيفية استنتاجها من القرآن بصرف النظر عن طبيعة المجتمع المختص بالخطاب نتاج هذه الأدلة، والتي كانت هي نتاج رجال أدركوا زمانهم، بيد أنهم جمدوها فحالوا دون أن يدرك رجال منا زماننا فهم رجال، ونحن رجال، نعيش في واقعنا بنفس النص الذي عاشوا به هم في واقعهم، وأنتجت أدلتهم مما ساعدهم علي قبول الواقع، وليس قبول النص.
وعليه فإن المرجعية اللازمة لتطوير الخطاب الديني ليكف عن منتجه العنيف يجب أن تكون مرجعيتها الإنسان، وهدفها الواقع، وأطرافها كل أفراد المجتمع وليس رجال الدين فقط، وفئة بعينها من المجتمع، وان تكون مفرداتها بلغة العقل لتأويل الواقع عبر الدين، وليست بلغة النص لتأويل الدين عبر الواقع، وانه قد آن الأوان ليبحث الخطاب الديني عن نقاط التقائه مع التشريعات الوضعية، ويتوقف عن رفضها بالكلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.