متحدث الوزراء: الحكومة تراجع التحديات التي تواجه الهيئات الاقتصادية المختلفة    الزراعة: مصر اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل من اللحوم البيضاء    حوافز وشراكات وكيانات جديدة | انطلاقة السيارات    الكنيست يصادق نهائيا على قطع الكهرباء والمياه عن «الأونروا»    بأوامر سياسية، جيش الاحتلال يعلق بعض عملياته في غزة حتى عودة نتنياهو من فلوريدا    أزمة القيد تفتح باب عودة حسام أشرف للزمالك فى يناير    نجم الأهلي السابق: كان من الأفضل تجهيز إمام عاشور في مباراة أنجولا    3 مباريات للفراعنة بالكان بدون صلاح = تعادلات منذ 2017.. فيديو    نيس يهدد عبدالمنعم بقائد ريال مدريد السابق    سموم وسلاح أبيض.. المؤبد لعامل بتهمة الاتجار في الحشيش    القبض على الأب المتهم بخطف نجله بكفر الشيخ.. وإعادة الطفل لوالدته    انهيار منزل من طابقين بالمنيا    فرح كروان مشاكل على حفيدة شعبولا يتحول إلى تحرش وإغماء وعويل والأمن يتدخل (فيديو وصور)    صندوق التنمية الحضارية: حديقة الفسطاط كانت جبال قمامة.. واليوم هي الأجمل في الشرق الأوسط    تحتوي على الكالسيوم والمعادن الضرورية للجسم.. فوائد تناول بذور الشيا    أمم إفريقيا – خالد صبحي: التواجد في البطولة شرف كبير لي    رسميًا.. السودان تتأهل لدور ال16 من أمم أفريقيا    ماركا: برشلونة يستهدف ضم فلاهوفيتش الصيف المقبل    أحمد موسى: خطة تدمير سوريا نُفذت كما يقول الكتاب    زاخاروفا: الرد على هجمات نظام كييف الإرهابية لن يكون دبلوماسيا بتاتا    أحمد موسى: 2026 سنة المواطن.. ونصف ديون مصر الخارجية مش على الحكومة علشان محدش يضحك عليك    ترامب يحذر إيران من إعادة ترميم برنامجها النووي مرة أخرى    استقالة محافظ البنك المركزي الإيراني بعد احتجاجات في طهران    في ختام مؤتمر أدباء مصر بالعريش.. وزير الثقافة يعلن إطلاق "بيت السرد" والمنصة الرقمية لأندية الأدب    ترامب يحذّر حماس من «ثمن باهظ» ويؤكد التزام إسرائيل بخطة الهدنة في غزة    سقوط موظف عرض سلاحا ناريا عبر فيسبوك بأبو النمرس    ضبط عنصر إجرامي مطلوب في قضايا جنائية وصلت أحكامها 85 سنة سجنا بقنا    اللجنة المصرية في غزة: الأمطار أصبحت كابوسا يلاحق كل مواطن يعيش في خيمة بالية    هيئة الدواء تبحث مع غرفة صناعة الدواء تعزيز الرقابة على المواد الخام الدوائية    هيفاء وهبي تطرح أغنيتها الجديدة 'أزمة نفسية'    وزير الخارجية يجتمع بأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي من الدرجات الحديثة والمتوسطة |صور    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي    الصحة: ارتفاع الإصابات بالفيروسات التنفسية متوقع.. وشدة الأعراض تعود لأسباب بشرية    توصيات «تطوير الإعلام» |صياغة التقرير النهائى قبل إحالته إلى رئيس الوزراء    الاستراتيجية الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة تؤكد: دمج حقيقي وتمكين ل11 مليون معاق    الإفتاء توضح مدة المسح على الشراب وكيفية التصرف عند انتهائها    نيافة الأنبا مينا سيّم القس مارك كاهنًا في مسيساجا كندا    «طفولة آمنة».. مجمع إعلام الفيوم ينظم لقاء توعوي لمناهضة التحرش ضد الأطفال    نقابة المهن التمثيلية تنعى والدة الفنان هاني رمزي    معدل البطالة للسعوديين وغير السعوديين يتراجع إلى 3.4%    وزير الصحة: تعاون مصري تركي لدعم الاستثمارات الصحية وتوطين الصناعات الدوائية    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : وزارة العدالة الاجتماعية !?    تاجيل محاكمه 49 متهم ب " اللجان التخريبيه للاخوان " لحضور المتهمين من محبسهم    السيمفونى بين مصر واليونان ورومانيا فى استقبال 2026 بالأوبرا    مواصفات امتحان الرياضيات للشهادة الإعدادية 2026 وتوزيع الدرجات    لقطات جديدة من مسلسل اتنين غيرنا للنجمين آسر ياسين ودينا الشربينى.. صورة    وفاة والدة الفنان هاني رمزى بعد صراع مع المرض    مصر والسودان تتفقان على تعزيز الاستثمارات والتبادل التجاري وإنشاء مناطق لوجستية    اسعار الخضروات اليوم الإثنين 29ديسمبر 2025 فى اسواق المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    وزير الخارجية يؤكد دعم مصر لتعزيز منظومة الصحة والأمن الدوائي في إفريقيا    أسود الأطلس أمام اختبار التأهل الأخير ضد زامبيا في أمم إفريقيا 2025.. بث مباشر والقنوات الناقلة    «الوطنية للانتخابات» توضح إجراءات التعامل مع الشكاوى خلال جولة الإعادة    حمو بيكا ينعي دقدق وتصدر اسمه تريند جوجل... الوسط الفني في صدمة وحزن    فوضى السوشيال ميديا    مشروبات تهدئ المعدة بعد الإفراط بالأكل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع بيجوفيتش فى ثنائيته التكاملية[2]
نشر في المصريون يوم 23 - 08 - 2010

(1) بعد أن عرض بيجوفيتش مجموعة من الآيات القرآنية واضحة الدلالة فى توجهها إلى عالم الطبيعة ينتقل بنا إلى فكرة أخرى مستخلصة من هذا التوجّه حيث يقول: " إنَّ توجُّهَ الإسلام نحو العالم الخارجي يَمنحُه واقعيةً خاصة في فَهْمِه للإنسان، فَتَقَبُّلُ الطبيعة بصفة عامة يَتَضَمَّنُ أيضًا تَقَبُّلَ الطبيعة الإنسانية.." ثم يؤكد: " لقد رَفَضَت جميع الأديان الأخرى هذا العالم بما في ذلك جِسْمُ الإنسان.. فالإسلام في نَظَرَ المسيحية هو تحقيق المستحيل، والمستحيل عندها وهو الاعتراف بواقعية العالم، ولذلك تبدو بعضُ الآيات القرآنية غريبة في نَظَرِ الدين المجرد ، على سبيل المثال تلك الآيات المتعلِّقة بِتَقَبُّلِ المتعة البدنية والحبّ الجنسي والكدح والصحة .. وهكذا تبلورت أكبر حقيقة حاسمة في تاريخ الأديان، وفي تاريخ العقل الإنساني بصفة عامة، تَمَيَّزَتْ بظهور (دين العالمين) عالم الدنيا وعالم الآخر .. عالم المادة وعالم الروح .. بمعنى آخر ظهرت المنظومة التي تَحْتَضِنُ الحياةَ الإنسانية بكلِّ جوانبها الروحية والمادية جميعا.. وتَحَقَّقَ الإنسان أنه ليس في حاجة إلى أن يَرْفُضَ الدين من أجل العلم ، أو يتخلَّى عن الكدح في سبيل حياة أفضل من أجل الدين.." .
في الوقت الذي يُؤَكِّد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته يبدي واقعية شديدة: فالإسلام لا يتعسَّف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان .. إنه لا يحاول أن يجعل مِنّا ملائكة ؛ لأن هذا مستحيل بل يميل إلى جَعْلِ الإنسان إنسانًا .. في الإسلام قَدْرٌ من الزهد ولكنه لم يحاول بهذا الزهد أن يُدَمِّرَ الحياة أو الصحة أو الفكر أو حب الاجتماع بالآخرين أو الرغبة في السعادة والمتعة .. هذا القدر من الزهد أريد به توازنًا في غرائزنا ، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروح .. بين الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية . وهكذا : من خلال الوضوء والصلاة والصيام وصلاة الجماعة [بصفة خاصة] والنشاط والملاحظة والكدح والتوسّط، بهذا كلِّه يواصل الإسلام عمل الفطرة في تشكيل الإنسان..." .
(2) يؤكد عزت بيجوفيتش أن "هذا الموقف الإسلامي بالذات هو الذي سَبَّبَ سوء فَهْمِ العقل الغربي لهذا الدين .. وهو سوء فَهْمِ لا يزال مستمرًّا إلى اليوم !! ..
[ ولست أشك أن دعوة كنيسة أمريكية اليوم لحرق المصحف فى احتفال علنيّ خارج الكنيسة وهو عمل إرهابي وتحريضى على أحط مستوي،مقصود به تشويه صورة الإسلام وتعريض حياة المسلمين للاضطهاد فى أمريكا، لست أشك أن بعض دوافعه تكمن فى سوء الفهم المزمن للإسلام عند الغربيين, أما تبريره بمسرحية واقعة 11سبتمبر 2001فذلك استخدام سياسي وضيع من نسج المسيحيين الصهاينة] .
يواصل بيجوفيتش شرحه فيقول: " لقد هَاجَمَ بعضُ النقاد الإسلامَ لِحِِسّيتهِ المزعومة مُعَزِّرينَ دعواهم بمقتبسات من آيات القرآن وأمثلة من سيرة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول بصراحة وبلا مواربة : نعم .. إنَّ الإسلام يدافعُ عن الحياة الطبيعية ولا يُكَرِّسُ الزهد فيها .. وأنه يدافع عن الثراء ضد الفقر ، وعلى قدرة الإنسان في تسخير الطبيعة ، ليس فقط على هذا لكوكب الأرضي فقط ولكن في الكون كله ما أمكنه ذلك .. ولكن لكي نَفْهَمَ موقف الإسلام فَهْمًا صحيحًا لابدَّ أن ننظر إلى أفكارنا عن: الطبيعة والثروة والسياسة والعلم والقوة والمعرفة والسعادة بطريقة مختلفة عما اعتاد عليه الناس في الحضارة الغربية .." ولبيجوفيتش تحليلات ومقارنات فى هذا المجال بديعة ومبهرة.. وهو من خلال ذلك يمهد لتقرير هذه الحقيقة وهى أن: " الحياة فى الإسلام يَحْكُمُها عاملان متكاملان : أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة والثاني الكمال الأخلاقي.." ثم يلفت نظرنا إلى أن هذين العاملين قد يبدو أنهما متعارضان وأن أحدهما يطرد الآخر في إطار المنطق النظريّ ، ولكنهما يتآزران بطرق عديدة في حياتنا وأمام أعيننا...
(3) ينتقل بيجوفيتش إلى مجال التطبيق والمقارنة بين موقفى الإسلام والمسيحية فيقول: " تتهم الأناجيل الغرائز وتتحدَّث عن الروح فقط أمَّا القرآن فإنه يستعيدُ الغرائز، لأنها حقيقة واقعة وإن لم يكن فيها سُمُوّ .. يتناول القرآن الغرائز مُتَفَهِّمًا لا مُتَّهِمًا .. ولحكمةٍ ما أَمَرَ الله الملائكة بالسجود للإنسان .. ألا يَتَضَمَّنُ هذا السجود تَفَوُّقَ ما هو إنساني على ما هو ملائكي..؟ " ولبيجوفيتش فى هذه النقطة كلمات حكيمة يقول فيهأ: " ليس الناس كائنات نبيلة حلوة الشمائل ، إنما هم فحسب مُهَيَّئُون لفعل الخير .. إنَّ لهم أبدانًا وفيهم غلظة وتتجاذبهم الرغبات والمغريات من أقطارهم .. وتحت تأثير رغبة شاذَّة أن نجعل من الناس كائنات معصومة من الخطأ مُبَرَّأة من الإثم تَحَقَّقْنا فجأة أننا (بدلاً من ذلك) حصلنا على شخصيات زائفة حساسة شاحبة .. كائنات غير قادرة على فِعْلِ شرٍّ ولا خير...!"
(4) أما موقف الإسلام من قضية الإنسان كما يراه بيجوفيتش فهو مختلف تماما عن موقف الدين المجرد حيث يقول:" إن قضية الإسلام هي قضية اتساق الإنسان مع نفسه .. اتساقُ مُثله العليا مع رغباته المادية والاجتماعية والفكرية ، ذلك لأن الصراع في هذا المجال الحيوي مصدر أساسي للأمراض النفسية والعصابية ، يضافُ إلى المصدر الآخر ألا وهو الصراع بين الإنسان وبيئته..." ويتابع مفصلا فيقول: " إنَّ الاضطرابات العصابية والتشوّه النفسي الذي أصاب الإنسان الغربي يُعْتَبَرُ جزئيًّا نتيجة للصراع الداخلي بين المُثُلِ العليا للمسيحية وبين المنظومات السياسية للمجتمع التي تطورت منفصلة عن هذه المُثُل العليا ، بحيث أصبحت الكنيسة تَرْعَى الروح بينما تَتَوَلَّى الدولة التَّحَكُّمَ في الأجسام وَفْقَ المُسَلَّمة القائلة : (أَعْطِ ما لقيصرَ لقيصرَ وما لله لله) .. لقد سُمِحَ للإنسان الغربي أن يكون مسيحيًا في حياته الخاصة وأن يكون (مكيًافيليًّا) في معاملاته العامة وأعماله ، والذين لا يستطيعون أن يتحمَّلوا هذا الصراع يقعون فريسة للاضطرابات العصابية ... "
وبالمقارنة: " يكاد يُجْمِعُ الذين أُتِيحَ لهم التعرُّف على العالم الإسلامي على انطباع بأنه يوجد اتساق بين الإنسان وبين مجتمعه ، وباندماج الفرد في النسيج الاجتماعي، وليس هذا الالْتِحَام صناعيًّا أو سياسًّا أو قانونيًّا وإنما الْتِحَام جُوّاني عضويّ .. هذه حقيقة قائمة رغم انتشار الفقر والتخلُّف في هذه البلاد..."
(5) يقول بيجوفيتش: " لقد رَفَضَ النبي صلى الله عليه وسلم التطرُّف فى كل أمر.. وقد نَسَبَ إليه رلف والْدو إمرسون حديثًا بهذا المعنى : (أنا خصمُ تقيّ جاهلٍ وعالمٍ كافرٍ) .. ولا شكَّ أنَّ النبي كان مخاصمًا لكثير من الأضداد المتطرفة : المؤمنون الضعفاء .. والحكام الذين لا يؤمنون بالله .. والنفس النقية في بَدَنٍ قَذِرٍ .. والنفس الفاسدة في جِسْمٍ مُهَنْدَم .. كان محمد خصمًا للعدالة التي لا تساندها قوة .. كما كان خصمًا للقوة الباغية .. لم يكن محمد ليعترض على الغِنَى والوفرة ولكنه كان يُصِرُّ على الفضيلة مع الغِنَى .. وكان بالتأكيد ضد الفضيلة العريانة العاجزة التي ليس لها من يَحْمِيها .. وقد سَوَّى الرسول الجهاد من أجل حياة أفضل بالجهاد ضد الطغيان والجهل والمرض والفقر والقذارة..."
فى إطار ثنائية بيجوفيتش التكاملية " ليس المسلمون قديسين حتى عندما يُصَلُّون ويصومون .. إنهم أناس عاديون – رجالاً ونساءً – يَحْلمُون بالحبّ ومُتَعِ الحياة ومع ذلك فَهُم إنسانيون إلى النخاع .. يشاركون في الحياة الواقعية ويعودون إليها دائمًا ، إنهم لا يعتزلون في الكهوف بعيدًا عن المجتمع ولا يُهْمِلُون أنفسَهم ، إنهم لا يَسْتَسْلِمُون ليكونوا تحتَ رحمة أعدائهم .. ولا يَرْفُضُون التمتُّع بالطيبات التي رَزَقَهم الله بها .. إنَّ المسلمين لا يَعْتَبِرُونَ الحرية الجوانية كافية فكلُّ مؤمن يستمتعُ بهذا النوع من الحرية ، ولكنهم يحرصون على الحرية المادِّيَّة ولا يرضون بأن يكونوا عبيدًا لأحد .." ويرتّب على هذه النظرة نتيجة حاسمة حيث يقول: " من هنا جاءت أهمية الإسلام باعتباره الحلَّ الأمثل للإنسانية لأنه يَعْترِفُ بما في طبيعة الإنسان من ثنائية ، وأيّ حلٍّ مختلف يُغَلِّبُ جانبًا من طبيعة الإنسان على حساب جانبه الآخر من شأنه أن يعوق انطلاق القُوَى الإنسانية الكامنة ، أو يُؤَدِّي إلى صراع داخلي .. إنَّ الإنسان بطبيعته الثنائية أكبر حجة للإسلام ... "
(6)يرى بيجوفيتش أن الثنائية ليست فلسفة سامية وإنما هي نوع من الحياة الإنسانية السامية : فالشعر مثلاً من حيث المبدأ مسألة قلبية إلا أنَّ كبار الشعراء قد جمعوا في شِعْرهم بين العقل والمشاعر .. بين العلم والجمال .. فإذا كان الشعر تعبيرا عن ذات الشاعر الفرد إلا أنَّ هناك قصائد ساعدت في تشكيل الأمم ، كما مهّدت للقضاء على العبودية فى المجتمعات...
يستعرض بيجوفيتش تطبيقات ثنائيته التكاملية فى مجالات الحياة الإنسانية ويبرز آثارها فيقول: " ينطوي العقاب القانوني على فكرة الثنائية أيضًا فالعقاب وإن كان إجراء قَمْعِيًّا إلا أنه حافز أخلاقيًّ قويًّ.. فإذا قام العقاب على العدل كانت له قيمة تعليمية بالنسبة للمذنب ولغيره من الناس .. فالخوف الذي يتولَّد من فكرة العقاب هو بداية للأخلاق مثلما أن خَوفَ الله هو بدايةٌ لِحُبَّه .. وتعكسُ الثنائية نفسها في الرياضة البدنية فهي وإن كانت مجرد نشاط بدني إلا أن لها قيمة تعليمية كبيرة .. فلا غرابة أن الجسم والنفس، القلب والعقل، العلم والدين، تجتمعُ كلها عند نقطة واحد تُمَثِّلُ قِمَّةَ الحياة .. أما العقل العريان أو الإلهام المجرد فَهُما من علامات التدهور...".
(7) ولبيجوفيتش ملاحظات فكرية عميقة وحكيمة تستحق التأمل، حيث يقول" في الوحدة ثنائية القطب يخدم المبدأ العلماني المبدأ الروحي : فنظافة البدن تساعد على تطهير النفس وتصبح الصلاة أسْمَى أنواع التأمل الروحي .. ولابدَّ أن يكون الجسم قويًّا ليقدر على إطاعة العقل فالخادم الجيد لابدَّ أن يكون قويًّا .. وتفسح التجاوزات الطريق أمام الأهواء التي تضعف أجسامنا في النهاية .. وعلى عكس ذلك يُؤَدِّي تعذيب البدن بالامتناع عن الطعام إلى النتيجة ذاتها ولكن لسبب مضاد .. وكلما كان الجسم ضعيفًا كان سلطانه على العقل أقوى وكلما كان قويًّا كان أكثر طاعة لأوامر العقل .. فجميع الأهواء الحسية مختزنة في الجسم الضعيف وكلما قَلِّ إشباعها كلما أوقعت بنا الآلام . والقوة – من حيث المبدأ – لا صلة لها بالأخلاق ولكن في الحياة الواقعية لا توجد عدالة حقيقية بدون قوَّة تُعَزِّزُها ، فالعدالة وحدة تَجْمَعُ بين مفهومي الإنصاف والقوة معًا .. لقد انبثقت أفكار المساواة والحرية والإخاء من الدين ، ولكن من حيث الواقع كان تحقيق هذه المبادئ بواسطة الثورة .. أعني بالسياسة والعنف .. وكان عجزُ الدين فى الغرب عن تحقيق بعض مبادئه العظيمة سببًا في التهوين من مصداقيته أمام المستضعفين والمقهورين، وعلى العكس أمْكَنَ تبريرُ العنف والسياسة لأنهما أوْجَدَا الوسائل المطلوبة لتحقيق الأفكار العظيمة التي دعا إليها الدين وبَشْرَ بها ولكنه عَجَزَ عن ترجمتها إلى واقع ..."
(8) للعمل الإنساني عند بيجوفيتش جانبان.. الأول هو النشاط نفسه وهو إنساني لا نفعي ، والثاني هو النتيجة المترتبة على هذا النشاط أو الناتج الذي تُحَفِّزُ إليه المنفعة ، والدين مَعْنِي بالجانب الأول أما الحضارة فَمَعْنِيَّة بالجانب الثاني .. فالحضارة لا تُفَكِّر إلا في النتائج .. وهي تحاول أن تَتَجَنَّب العمل بقدرِ ما تستطيع ، وذلك من خلال استجلاب قوة العمل سواء كانوا من العبيد في الزمن السالف أو الآلات في الزمن اللاحق ، وفى ذلك يقول: " بتحليل العمل رأينا أنَّ العمل كنشاط نافع له جانبان : جانبه الأخلاقي وجانبه الاقتصادي .. فهو دفاع ضد الشرِّ والهوى كما أنه دفاع ضد الفقر ، والعمل بهذه الصفة الثنائية ظاهرة إسلامية .
ويُمْكِنُ ملاحظة التوازي بين النافع والأخلاقي بوضوح في ظاهرة تهمُّ كلّ من الحياتين الطبيعية والاجتماعية للإنسان .. إنها ظاهرة مَنْعِ أو تحديد الزواج من الأقارب خلال تاريخ تطور الأسرة الإنسانية ، في هذه الناحية نجدُ أن موقفَ العلم والأخلاق متفقان اتفاقًا كاملاً .. لقد وُجِدَ تحريمُ زواج الأقارب الأدْنين في كل بقاع العالم وفي جميع الأزمنة ، وهذا مَثَلُ حَيًّ لما يُمْكِنُ أن نُسَمِّيَه بالإسلام الفطري، وكأن الحياة نفسها قد اهتدت إلى طريقها الإسلامي ...! كما وُجِد أن تحريمَ هذا النوع من الزواج مَبْنيّ على أسباب أخلاقية بمقدار ما هو مَبْنيّ على أسباب بيولوجية صحية .. فقد أثبتت التجارب أنه قانون طبيعي لا يخصُّ الإنسان وحده وإنما ينطبقُ على الحيوان كذلك .. ويلاحظ أنَّ تحريم زواج الأقارب قديم جدًّا ، وقد اعتبر زواج المحارم خطأ أخلاقيًّا .. وهذا مَثَلٌ كامل على التوافق بين الأخلاق والعلم وهو يُمَثِّلُ جوهر ما نُسَمِّيه بالمقترب الإسلامي الفطريّ ..."
(9) ينتقل عزت بيجوفيتش إلى مجال الطب ليثبت ما فيه من ثنائية ، فلم يكن الطب – في الماضي أو الحاضر – علمًا بحتًا ، ولكن جَمَعَ إلى جانب العلم الحكمة والأخلاق والنظام الروحي في وقت واحد .. وقد اكتشفت حديثًا أمراض لم يُعْرَفْ لها أسباب عضوية مُحَدَّدة وإنما لها علاقة بالاضطرابات النفسية ومن ثَمَّ نَشَأَ فرعٌ حديث في الطب اختص بدراسة التأثير المتبادل بين الجسم والنفس وهو علم الطب السيكوسوماتى (أى النفسجسدي) .. هذا العلم يَعْتَبِرُ القروح والربو الشعبيّ والبدانة والسّكري والشقيقة وأنواع الصداع الأخرى والآلام الروماتزمية .. كل هذه الأمراض في أساسها ذات أصل نفسي .. ولهذا السبب لا يُمْكِنُ اختزال العلاج الصحيح إلى مجرد علاج ( طبيعيكيميائي ) فقط أو مجرد جراحة .. ويختلف العلاج من شخص إلى شخص آخر رغم أن المرض واحد .. ولذلك قد تكون هناك أجزاء من الحقيقة لا يصحُّ أن نستبعدَها في القصص القديمة عن الشفاء بالصلاة والصدقات والصيام .. إنَّ مستشفيات باريس حتى اليوم تستخدمُ الموسيقى في العلاج .. ولا عجب فإنَّ الطبَّ شأنه في ذلك شأن أي شيء آخر مَعْنىً بالإنسان مباشرة ، ومن ثَمّ عليه أن يُحَقِّقَ التكامل بين العلم والدين ...
(10) المدرسة فى الإسلام: يرى بيجوفيتش أنه لا يُمْكِنُ تصنيف المدارس التى ظهرت فى تاريخ العالم الإسلامي وفْقًا للمعايير الأوربية الحديثة التي تُقَسِّمُ المدارس إلى مدنية ودينية، فهذا التقسيم غير معروف ولا تبرير له فى الإسلام.. أما ذلك النوع من المدارس التى نشأت فى حضن الإسلام واعتبرها المسلمون جميعًا أمرًا طبيعيًا، فهى المدارس التى جمعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا معا، وذلك لأنها انبثقت مباشرة من الروح الإسلامية، وظلَّ الموقف سائدًا على هذا النحو إلى الوقت الحاضر، وحيثما وجِدْت ختلافا فمرجعه إلى التأثير الأجنبي .. يقول بيجوفيتش:
" الوضع الأصليّ للمدرسة يتوازى مع المفهوم الإسلامي الأساسي الذي يُوَحِّدُ بين الدين والعلم .. فأزهر القاهرة هو أكبر وأقدم مدرسة (أُنْشِئ عام 972م) ويشار إليه دائمًا كجامع وجامعة ، ولم يقتصر التعليم في الأزهر على علوم الدين فقط إلا في أحلك فترات التدهور..." " وقد نَتَجَ عن التحام المسجد والمدرسة ظاهرة لا تُعْرَفُ إلا في إطار الثقافة الإسلامية ، وهي ما يُمْكِنُ أن يُطْلَقَ عليه ( المسجدرسة ) وهو بناء فريد يَجْمعُ بين وظيفتي المسجد والمدرسة معًا ، ولا يوجد له تسمية موازية في اللغات الأوربية ، ويوجد دليل تاريخي على أن المسجد الأول الذي بَنَاه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه كان مدرسة لتعليم المسلمين في نَفْسِ الوقت، وكان يُسَمَّى مسجد الصُّفًّة ... " هذا البناء المتميز هو المعادل المادِّيّ أو التِّقَنيّ لتلك المُسَلَّمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم التي بَدَأَ بها نزول القرآن نفسه : { اقرأ باسم ربك الذي خلق...}.
ونتابع الموضوع فى مقالة لاحقة إن شاء الله. [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.