شيخ الأزهر يستقبل مدير كلية الدفاع الوطني    محافظ أسيوط ورئيسة القومي للطفولة يفتتحان مقرًا جديدًا    إقبال في اليوم الثاني من إعادة انتخابات مجلس النواب 2025 بالأردن    دخل موسوعة جينيس.. «ميناء السخنة» بوابة مصر الجديدة للاقتصاد العالمي    محافظ الجيزة يتفقد الموقع المقترح لإقامة سوق اليوم الواحد    الاتحاد العام للمستثمرين الأفرو-آسيوى يُكرم وزير السياحة والآثار    الأمم المتحدة تحذّر من تصاعد خطر الموت بردًا في غزة    الأمم المتحدة تحذر من تصاعد العنف في كردفان السودانية: 104 قتلى بينهم 43 طفلا في هجمات جوية منذ بداية ديسمبر    الأردن والسويد يؤكدان ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار في غزة    انطلاق مباراة مصر ونيجيريا الودية    الشرقية: السيطرة على حريق اندلع في مكتبة حديقة الطفل بالزقازيق    «الأرصاد» تكشف خريطة الظواهر الجوية المتوقعة الأيام المقبلة    4 مصابين جراء تصادم ميني باص وميكروباص في المنوفية    مي عز الدين تعلن خروج مسلسل «قبل وبعد» من سباق رمضان 2026    وزير الأوقاف يشهد الجلسة الختامية لمؤتمر الإفتاء الدولي    افتتاح متحف قرّاء القرآن الكريم بالعاصمة الجديدة    ما حكم من يتسبب في قطيعة صلة الرحم؟.. أمين الفتوى يجيب    السكرتير العام لبني سويف يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات الخطة الاستثمارية    الكشف على 1208 مواطنين ضمن القافلة الطبية بقرية أبو جازية بالإسماعيلية    هجوم سيبرانى مريب يضرب مجلس النواب الألمانى خلال زيارة زيلينسكى    عمر مرموش: نخوض أمم أفريقيا لتحقيق اللقب وهدفنا الفوز بكأس العالم    رئيس هيئة المحطات النووية يناقش مع الجانب الروسي تقدم مشروع محطة الضبعة النووية    التأمين الصحى الشامل.. خطوات الاشتراك ومزايا الرعاية الطبية المتكاملة للأسرة    خالد الجندي: لن ندخل الجنة بأعمالنا    سكاي: يونايتد وسيتي يتنافسان على سيمينيو.. وشرط جزائي لرحيل اللاعب في يناير    نداهة فرسان الشرق بالرقص الحديث في مسرح الجمهورية    صدور رواية "ظل الإمام" للكاتبة نهلة النمر عن مركز الحضارة للتنمية الثقافية    حلمي عبد الباقي ردًا على المتحدث الرسمي لنقيب الموسيقيين: لم يوجه لي أي اتهامات في التحقيق    ذا بيست.. دوناروما أفضل حارس مرمى في العالم 2025    نهاية قصة "توشيبا العربي" بعد سنوات من التعاقد بمصر    زلزال بقوة 3.8 درجة على مقياس ريختر يهز أنطاليا التركية    البورصة تخسر 22 مليار جنيه بختام تعاملات منتصف الأسبوع    قرطاج تستقبل أول عروض "ضايل عِنا عر" اليوم بمدينة الثقافة التونسية    غدا أولى جلسات محاكمة «ولي أمر » في قضية التعدي على مدرس بالمقص في الإسماعيلية    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل جواهرجى البحيرة إلى يوم 12 يناير    الندوة الدولية الثانية للإفتاء تدين التهجير القسري وتوضِّح سُبل النصرة الشرعية والإنسانية    اعتدى على أطفال وصورهم.. تجديد حبس مدرب أكاديمية الكرة بالمنصورة    وزير التعليم ومحافظ أسوان يواصلان جولتهما التفقدية بزيارة المدرسة المصرية اليابانية    إغلاق ملف فيتوريا رسميًا.. تسوية نهائية بين المدرب واتحاد الكرة في «CAS»    الصحة تُحذر من تخزين المضاد الحيوي واستعماله مرة أخرى    غزل المحلة: لدينا أكثر من 90 ألف دولار عند الأهلي.. وشكونا بلوزداد ل فيفا    * رئيس هيئة الاستثمار يثمن دور "نَوَاه العلمية" في تعزيز الابتكار والمعرفة ويؤكد دعم الهيئة المستمر للقطاع العلمي    حماس: 95% من الشهداء بعد وقف إطلاق النار مدنيون.. ولا يحق لإسرائيل استهداف رجال المقاومة    ب 90 مليون جنيه، محافظ بني سويف يتفقد مشروع أول مدرسة دولية حكومية    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 16ديسمبر 2025 فى المنيا    هل تلتزم إدارة ترمب بنشر ملفات إبستين كاملة؟ ترقّب واسع لكشف الوثائق قبل الجمعة    من المنزل إلى المستشفى.. خريطة التعامل الصحي مع أعراض إنفلونزا h1n1    توروب يتمسك بمستقبل الأهلي: شوبير عنصر أساسي ولا نية للتفريط فيه    رئيس قطاع المعاهد الأزهرية: الاعتماد مسار شامل للتطوير وليس إجراءً إداريًا    الزمالك يجدد ثقته في نزاهة جهات التحقيق في أرض أكتوبر ويؤكد التزامه الكامل بالقانون في قضية أرض أكتوبر (بيان رسمي)    دغموم: الزمالك فاوضني من قبل.. وأقدم أفضل مواسمي مع المصري    عضو بالأزهر: الإنترنت مليء بمعلومات غير موثوقة عن الدين والحلال والحرام    ارتفاع تأخيرات القطارات على الوجه القبلي بسبب الإصلاحات    «التضامن الاجتماعي» تعلن فتح باب التقديم لإشراف حج الجمعيات الأهلية لموسم 1447ه    قانون العمل الجديد يُلزم أصحاب العمل بإنشاء دور حضانة لرعاية الأطفال    مديرية الطب البيطري بالقاهرة: لا مكان سيستوعب كل الكلاب الضالة.. وستكون متاحة للتبني بعد تطعيمها    أسعار الخضار والفاكهة اليوم الثلاثاء 16-12-2025 فى المنوفية    محمد القس يشيد بزملائه ويكشف عن نجومه المفضلين: «السقا أجدع فنان.. وأتمنى التعاون مع منى زكي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع بيجوفيتش فى ثنائيته التكاملية[2]
نشر في المصريون يوم 23 - 08 - 2010

(1) بعد أن عرض بيجوفيتش مجموعة من الآيات القرآنية واضحة الدلالة فى توجهها إلى عالم الطبيعة ينتقل بنا إلى فكرة أخرى مستخلصة من هذا التوجّه حيث يقول: " إنَّ توجُّهَ الإسلام نحو العالم الخارجي يَمنحُه واقعيةً خاصة في فَهْمِه للإنسان، فَتَقَبُّلُ الطبيعة بصفة عامة يَتَضَمَّنُ أيضًا تَقَبُّلَ الطبيعة الإنسانية.." ثم يؤكد: " لقد رَفَضَت جميع الأديان الأخرى هذا العالم بما في ذلك جِسْمُ الإنسان.. فالإسلام في نَظَرَ المسيحية هو تحقيق المستحيل، والمستحيل عندها وهو الاعتراف بواقعية العالم، ولذلك تبدو بعضُ الآيات القرآنية غريبة في نَظَرِ الدين المجرد ، على سبيل المثال تلك الآيات المتعلِّقة بِتَقَبُّلِ المتعة البدنية والحبّ الجنسي والكدح والصحة .. وهكذا تبلورت أكبر حقيقة حاسمة في تاريخ الأديان، وفي تاريخ العقل الإنساني بصفة عامة، تَمَيَّزَتْ بظهور (دين العالمين) عالم الدنيا وعالم الآخر .. عالم المادة وعالم الروح .. بمعنى آخر ظهرت المنظومة التي تَحْتَضِنُ الحياةَ الإنسانية بكلِّ جوانبها الروحية والمادية جميعا.. وتَحَقَّقَ الإنسان أنه ليس في حاجة إلى أن يَرْفُضَ الدين من أجل العلم ، أو يتخلَّى عن الكدح في سبيل حياة أفضل من أجل الدين.." .
في الوقت الذي يُؤَكِّد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته يبدي واقعية شديدة: فالإسلام لا يتعسَّف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان .. إنه لا يحاول أن يجعل مِنّا ملائكة ؛ لأن هذا مستحيل بل يميل إلى جَعْلِ الإنسان إنسانًا .. في الإسلام قَدْرٌ من الزهد ولكنه لم يحاول بهذا الزهد أن يُدَمِّرَ الحياة أو الصحة أو الفكر أو حب الاجتماع بالآخرين أو الرغبة في السعادة والمتعة .. هذا القدر من الزهد أريد به توازنًا في غرائزنا ، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروح .. بين الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية . وهكذا : من خلال الوضوء والصلاة والصيام وصلاة الجماعة [بصفة خاصة] والنشاط والملاحظة والكدح والتوسّط، بهذا كلِّه يواصل الإسلام عمل الفطرة في تشكيل الإنسان..." .
(2) يؤكد عزت بيجوفيتش أن "هذا الموقف الإسلامي بالذات هو الذي سَبَّبَ سوء فَهْمِ العقل الغربي لهذا الدين .. وهو سوء فَهْمِ لا يزال مستمرًّا إلى اليوم !! ..
[ ولست أشك أن دعوة كنيسة أمريكية اليوم لحرق المصحف فى احتفال علنيّ خارج الكنيسة وهو عمل إرهابي وتحريضى على أحط مستوي،مقصود به تشويه صورة الإسلام وتعريض حياة المسلمين للاضطهاد فى أمريكا، لست أشك أن بعض دوافعه تكمن فى سوء الفهم المزمن للإسلام عند الغربيين, أما تبريره بمسرحية واقعة 11سبتمبر 2001فذلك استخدام سياسي وضيع من نسج المسيحيين الصهاينة] .
يواصل بيجوفيتش شرحه فيقول: " لقد هَاجَمَ بعضُ النقاد الإسلامَ لِحِِسّيتهِ المزعومة مُعَزِّرينَ دعواهم بمقتبسات من آيات القرآن وأمثلة من سيرة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول بصراحة وبلا مواربة : نعم .. إنَّ الإسلام يدافعُ عن الحياة الطبيعية ولا يُكَرِّسُ الزهد فيها .. وأنه يدافع عن الثراء ضد الفقر ، وعلى قدرة الإنسان في تسخير الطبيعة ، ليس فقط على هذا لكوكب الأرضي فقط ولكن في الكون كله ما أمكنه ذلك .. ولكن لكي نَفْهَمَ موقف الإسلام فَهْمًا صحيحًا لابدَّ أن ننظر إلى أفكارنا عن: الطبيعة والثروة والسياسة والعلم والقوة والمعرفة والسعادة بطريقة مختلفة عما اعتاد عليه الناس في الحضارة الغربية .." ولبيجوفيتش تحليلات ومقارنات فى هذا المجال بديعة ومبهرة.. وهو من خلال ذلك يمهد لتقرير هذه الحقيقة وهى أن: " الحياة فى الإسلام يَحْكُمُها عاملان متكاملان : أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة والثاني الكمال الأخلاقي.." ثم يلفت نظرنا إلى أن هذين العاملين قد يبدو أنهما متعارضان وأن أحدهما يطرد الآخر في إطار المنطق النظريّ ، ولكنهما يتآزران بطرق عديدة في حياتنا وأمام أعيننا...
(3) ينتقل بيجوفيتش إلى مجال التطبيق والمقارنة بين موقفى الإسلام والمسيحية فيقول: " تتهم الأناجيل الغرائز وتتحدَّث عن الروح فقط أمَّا القرآن فإنه يستعيدُ الغرائز، لأنها حقيقة واقعة وإن لم يكن فيها سُمُوّ .. يتناول القرآن الغرائز مُتَفَهِّمًا لا مُتَّهِمًا .. ولحكمةٍ ما أَمَرَ الله الملائكة بالسجود للإنسان .. ألا يَتَضَمَّنُ هذا السجود تَفَوُّقَ ما هو إنساني على ما هو ملائكي..؟ " ولبيجوفيتش فى هذه النقطة كلمات حكيمة يقول فيهأ: " ليس الناس كائنات نبيلة حلوة الشمائل ، إنما هم فحسب مُهَيَّئُون لفعل الخير .. إنَّ لهم أبدانًا وفيهم غلظة وتتجاذبهم الرغبات والمغريات من أقطارهم .. وتحت تأثير رغبة شاذَّة أن نجعل من الناس كائنات معصومة من الخطأ مُبَرَّأة من الإثم تَحَقَّقْنا فجأة أننا (بدلاً من ذلك) حصلنا على شخصيات زائفة حساسة شاحبة .. كائنات غير قادرة على فِعْلِ شرٍّ ولا خير...!"
(4) أما موقف الإسلام من قضية الإنسان كما يراه بيجوفيتش فهو مختلف تماما عن موقف الدين المجرد حيث يقول:" إن قضية الإسلام هي قضية اتساق الإنسان مع نفسه .. اتساقُ مُثله العليا مع رغباته المادية والاجتماعية والفكرية ، ذلك لأن الصراع في هذا المجال الحيوي مصدر أساسي للأمراض النفسية والعصابية ، يضافُ إلى المصدر الآخر ألا وهو الصراع بين الإنسان وبيئته..." ويتابع مفصلا فيقول: " إنَّ الاضطرابات العصابية والتشوّه النفسي الذي أصاب الإنسان الغربي يُعْتَبَرُ جزئيًّا نتيجة للصراع الداخلي بين المُثُلِ العليا للمسيحية وبين المنظومات السياسية للمجتمع التي تطورت منفصلة عن هذه المُثُل العليا ، بحيث أصبحت الكنيسة تَرْعَى الروح بينما تَتَوَلَّى الدولة التَّحَكُّمَ في الأجسام وَفْقَ المُسَلَّمة القائلة : (أَعْطِ ما لقيصرَ لقيصرَ وما لله لله) .. لقد سُمِحَ للإنسان الغربي أن يكون مسيحيًا في حياته الخاصة وأن يكون (مكيًافيليًّا) في معاملاته العامة وأعماله ، والذين لا يستطيعون أن يتحمَّلوا هذا الصراع يقعون فريسة للاضطرابات العصابية ... "
وبالمقارنة: " يكاد يُجْمِعُ الذين أُتِيحَ لهم التعرُّف على العالم الإسلامي على انطباع بأنه يوجد اتساق بين الإنسان وبين مجتمعه ، وباندماج الفرد في النسيج الاجتماعي، وليس هذا الالْتِحَام صناعيًّا أو سياسًّا أو قانونيًّا وإنما الْتِحَام جُوّاني عضويّ .. هذه حقيقة قائمة رغم انتشار الفقر والتخلُّف في هذه البلاد..."
(5) يقول بيجوفيتش: " لقد رَفَضَ النبي صلى الله عليه وسلم التطرُّف فى كل أمر.. وقد نَسَبَ إليه رلف والْدو إمرسون حديثًا بهذا المعنى : (أنا خصمُ تقيّ جاهلٍ وعالمٍ كافرٍ) .. ولا شكَّ أنَّ النبي كان مخاصمًا لكثير من الأضداد المتطرفة : المؤمنون الضعفاء .. والحكام الذين لا يؤمنون بالله .. والنفس النقية في بَدَنٍ قَذِرٍ .. والنفس الفاسدة في جِسْمٍ مُهَنْدَم .. كان محمد خصمًا للعدالة التي لا تساندها قوة .. كما كان خصمًا للقوة الباغية .. لم يكن محمد ليعترض على الغِنَى والوفرة ولكنه كان يُصِرُّ على الفضيلة مع الغِنَى .. وكان بالتأكيد ضد الفضيلة العريانة العاجزة التي ليس لها من يَحْمِيها .. وقد سَوَّى الرسول الجهاد من أجل حياة أفضل بالجهاد ضد الطغيان والجهل والمرض والفقر والقذارة..."
فى إطار ثنائية بيجوفيتش التكاملية " ليس المسلمون قديسين حتى عندما يُصَلُّون ويصومون .. إنهم أناس عاديون – رجالاً ونساءً – يَحْلمُون بالحبّ ومُتَعِ الحياة ومع ذلك فَهُم إنسانيون إلى النخاع .. يشاركون في الحياة الواقعية ويعودون إليها دائمًا ، إنهم لا يعتزلون في الكهوف بعيدًا عن المجتمع ولا يُهْمِلُون أنفسَهم ، إنهم لا يَسْتَسْلِمُون ليكونوا تحتَ رحمة أعدائهم .. ولا يَرْفُضُون التمتُّع بالطيبات التي رَزَقَهم الله بها .. إنَّ المسلمين لا يَعْتَبِرُونَ الحرية الجوانية كافية فكلُّ مؤمن يستمتعُ بهذا النوع من الحرية ، ولكنهم يحرصون على الحرية المادِّيَّة ولا يرضون بأن يكونوا عبيدًا لأحد .." ويرتّب على هذه النظرة نتيجة حاسمة حيث يقول: " من هنا جاءت أهمية الإسلام باعتباره الحلَّ الأمثل للإنسانية لأنه يَعْترِفُ بما في طبيعة الإنسان من ثنائية ، وأيّ حلٍّ مختلف يُغَلِّبُ جانبًا من طبيعة الإنسان على حساب جانبه الآخر من شأنه أن يعوق انطلاق القُوَى الإنسانية الكامنة ، أو يُؤَدِّي إلى صراع داخلي .. إنَّ الإنسان بطبيعته الثنائية أكبر حجة للإسلام ... "
(6)يرى بيجوفيتش أن الثنائية ليست فلسفة سامية وإنما هي نوع من الحياة الإنسانية السامية : فالشعر مثلاً من حيث المبدأ مسألة قلبية إلا أنَّ كبار الشعراء قد جمعوا في شِعْرهم بين العقل والمشاعر .. بين العلم والجمال .. فإذا كان الشعر تعبيرا عن ذات الشاعر الفرد إلا أنَّ هناك قصائد ساعدت في تشكيل الأمم ، كما مهّدت للقضاء على العبودية فى المجتمعات...
يستعرض بيجوفيتش تطبيقات ثنائيته التكاملية فى مجالات الحياة الإنسانية ويبرز آثارها فيقول: " ينطوي العقاب القانوني على فكرة الثنائية أيضًا فالعقاب وإن كان إجراء قَمْعِيًّا إلا أنه حافز أخلاقيًّ قويًّ.. فإذا قام العقاب على العدل كانت له قيمة تعليمية بالنسبة للمذنب ولغيره من الناس .. فالخوف الذي يتولَّد من فكرة العقاب هو بداية للأخلاق مثلما أن خَوفَ الله هو بدايةٌ لِحُبَّه .. وتعكسُ الثنائية نفسها في الرياضة البدنية فهي وإن كانت مجرد نشاط بدني إلا أن لها قيمة تعليمية كبيرة .. فلا غرابة أن الجسم والنفس، القلب والعقل، العلم والدين، تجتمعُ كلها عند نقطة واحد تُمَثِّلُ قِمَّةَ الحياة .. أما العقل العريان أو الإلهام المجرد فَهُما من علامات التدهور...".
(7) ولبيجوفيتش ملاحظات فكرية عميقة وحكيمة تستحق التأمل، حيث يقول" في الوحدة ثنائية القطب يخدم المبدأ العلماني المبدأ الروحي : فنظافة البدن تساعد على تطهير النفس وتصبح الصلاة أسْمَى أنواع التأمل الروحي .. ولابدَّ أن يكون الجسم قويًّا ليقدر على إطاعة العقل فالخادم الجيد لابدَّ أن يكون قويًّا .. وتفسح التجاوزات الطريق أمام الأهواء التي تضعف أجسامنا في النهاية .. وعلى عكس ذلك يُؤَدِّي تعذيب البدن بالامتناع عن الطعام إلى النتيجة ذاتها ولكن لسبب مضاد .. وكلما كان الجسم ضعيفًا كان سلطانه على العقل أقوى وكلما كان قويًّا كان أكثر طاعة لأوامر العقل .. فجميع الأهواء الحسية مختزنة في الجسم الضعيف وكلما قَلِّ إشباعها كلما أوقعت بنا الآلام . والقوة – من حيث المبدأ – لا صلة لها بالأخلاق ولكن في الحياة الواقعية لا توجد عدالة حقيقية بدون قوَّة تُعَزِّزُها ، فالعدالة وحدة تَجْمَعُ بين مفهومي الإنصاف والقوة معًا .. لقد انبثقت أفكار المساواة والحرية والإخاء من الدين ، ولكن من حيث الواقع كان تحقيق هذه المبادئ بواسطة الثورة .. أعني بالسياسة والعنف .. وكان عجزُ الدين فى الغرب عن تحقيق بعض مبادئه العظيمة سببًا في التهوين من مصداقيته أمام المستضعفين والمقهورين، وعلى العكس أمْكَنَ تبريرُ العنف والسياسة لأنهما أوْجَدَا الوسائل المطلوبة لتحقيق الأفكار العظيمة التي دعا إليها الدين وبَشْرَ بها ولكنه عَجَزَ عن ترجمتها إلى واقع ..."
(8) للعمل الإنساني عند بيجوفيتش جانبان.. الأول هو النشاط نفسه وهو إنساني لا نفعي ، والثاني هو النتيجة المترتبة على هذا النشاط أو الناتج الذي تُحَفِّزُ إليه المنفعة ، والدين مَعْنِي بالجانب الأول أما الحضارة فَمَعْنِيَّة بالجانب الثاني .. فالحضارة لا تُفَكِّر إلا في النتائج .. وهي تحاول أن تَتَجَنَّب العمل بقدرِ ما تستطيع ، وذلك من خلال استجلاب قوة العمل سواء كانوا من العبيد في الزمن السالف أو الآلات في الزمن اللاحق ، وفى ذلك يقول: " بتحليل العمل رأينا أنَّ العمل كنشاط نافع له جانبان : جانبه الأخلاقي وجانبه الاقتصادي .. فهو دفاع ضد الشرِّ والهوى كما أنه دفاع ضد الفقر ، والعمل بهذه الصفة الثنائية ظاهرة إسلامية .
ويُمْكِنُ ملاحظة التوازي بين النافع والأخلاقي بوضوح في ظاهرة تهمُّ كلّ من الحياتين الطبيعية والاجتماعية للإنسان .. إنها ظاهرة مَنْعِ أو تحديد الزواج من الأقارب خلال تاريخ تطور الأسرة الإنسانية ، في هذه الناحية نجدُ أن موقفَ العلم والأخلاق متفقان اتفاقًا كاملاً .. لقد وُجِدَ تحريمُ زواج الأقارب الأدْنين في كل بقاع العالم وفي جميع الأزمنة ، وهذا مَثَلُ حَيًّ لما يُمْكِنُ أن نُسَمِّيَه بالإسلام الفطري، وكأن الحياة نفسها قد اهتدت إلى طريقها الإسلامي ...! كما وُجِد أن تحريمَ هذا النوع من الزواج مَبْنيّ على أسباب أخلاقية بمقدار ما هو مَبْنيّ على أسباب بيولوجية صحية .. فقد أثبتت التجارب أنه قانون طبيعي لا يخصُّ الإنسان وحده وإنما ينطبقُ على الحيوان كذلك .. ويلاحظ أنَّ تحريم زواج الأقارب قديم جدًّا ، وقد اعتبر زواج المحارم خطأ أخلاقيًّا .. وهذا مَثَلٌ كامل على التوافق بين الأخلاق والعلم وهو يُمَثِّلُ جوهر ما نُسَمِّيه بالمقترب الإسلامي الفطريّ ..."
(9) ينتقل عزت بيجوفيتش إلى مجال الطب ليثبت ما فيه من ثنائية ، فلم يكن الطب – في الماضي أو الحاضر – علمًا بحتًا ، ولكن جَمَعَ إلى جانب العلم الحكمة والأخلاق والنظام الروحي في وقت واحد .. وقد اكتشفت حديثًا أمراض لم يُعْرَفْ لها أسباب عضوية مُحَدَّدة وإنما لها علاقة بالاضطرابات النفسية ومن ثَمَّ نَشَأَ فرعٌ حديث في الطب اختص بدراسة التأثير المتبادل بين الجسم والنفس وهو علم الطب السيكوسوماتى (أى النفسجسدي) .. هذا العلم يَعْتَبِرُ القروح والربو الشعبيّ والبدانة والسّكري والشقيقة وأنواع الصداع الأخرى والآلام الروماتزمية .. كل هذه الأمراض في أساسها ذات أصل نفسي .. ولهذا السبب لا يُمْكِنُ اختزال العلاج الصحيح إلى مجرد علاج ( طبيعيكيميائي ) فقط أو مجرد جراحة .. ويختلف العلاج من شخص إلى شخص آخر رغم أن المرض واحد .. ولذلك قد تكون هناك أجزاء من الحقيقة لا يصحُّ أن نستبعدَها في القصص القديمة عن الشفاء بالصلاة والصدقات والصيام .. إنَّ مستشفيات باريس حتى اليوم تستخدمُ الموسيقى في العلاج .. ولا عجب فإنَّ الطبَّ شأنه في ذلك شأن أي شيء آخر مَعْنىً بالإنسان مباشرة ، ومن ثَمّ عليه أن يُحَقِّقَ التكامل بين العلم والدين ...
(10) المدرسة فى الإسلام: يرى بيجوفيتش أنه لا يُمْكِنُ تصنيف المدارس التى ظهرت فى تاريخ العالم الإسلامي وفْقًا للمعايير الأوربية الحديثة التي تُقَسِّمُ المدارس إلى مدنية ودينية، فهذا التقسيم غير معروف ولا تبرير له فى الإسلام.. أما ذلك النوع من المدارس التى نشأت فى حضن الإسلام واعتبرها المسلمون جميعًا أمرًا طبيعيًا، فهى المدارس التى جمعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا معا، وذلك لأنها انبثقت مباشرة من الروح الإسلامية، وظلَّ الموقف سائدًا على هذا النحو إلى الوقت الحاضر، وحيثما وجِدْت ختلافا فمرجعه إلى التأثير الأجنبي .. يقول بيجوفيتش:
" الوضع الأصليّ للمدرسة يتوازى مع المفهوم الإسلامي الأساسي الذي يُوَحِّدُ بين الدين والعلم .. فأزهر القاهرة هو أكبر وأقدم مدرسة (أُنْشِئ عام 972م) ويشار إليه دائمًا كجامع وجامعة ، ولم يقتصر التعليم في الأزهر على علوم الدين فقط إلا في أحلك فترات التدهور..." " وقد نَتَجَ عن التحام المسجد والمدرسة ظاهرة لا تُعْرَفُ إلا في إطار الثقافة الإسلامية ، وهي ما يُمْكِنُ أن يُطْلَقَ عليه ( المسجدرسة ) وهو بناء فريد يَجْمعُ بين وظيفتي المسجد والمدرسة معًا ، ولا يوجد له تسمية موازية في اللغات الأوربية ، ويوجد دليل تاريخي على أن المسجد الأول الذي بَنَاه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه كان مدرسة لتعليم المسلمين في نَفْسِ الوقت، وكان يُسَمَّى مسجد الصُّفًّة ... " هذا البناء المتميز هو المعادل المادِّيّ أو التِّقَنيّ لتلك المُسَلَّمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم التي بَدَأَ بها نزول القرآن نفسه : { اقرأ باسم ربك الذي خلق...}.
ونتابع الموضوع فى مقالة لاحقة إن شاء الله. [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.