(1) فى مقالات سابقة طرح لنا بيجوفيتش فكرته عن الدين المجرد ويقصد به الدين كما يفهمه الغرب من حيث هو علاقة روحية فردية بين الانسان وربه، لا تخرج فى مظهرها البرّانيّ عن كونها شعائر محددة يؤديها الناس فى كنيسة أومعبد فإذا خرجوا انتهى دور الدين فى حياتهم وتلبّسوا دورا آخر، تحكمه القوانين الوضعية السائدة. هذا هو معنى الدين فى العقل الغربي كما تر سّخ عميقا فى عقولهم وثقافتهم، بحيث أصبح هو الصورة الذهنية السائدة على تفكيرهم إذا فكّروا أو تحدّثوا عن [الدين]... ولكن يرى بيجوفيتش أن هذه الفكرة الغربية الراسخة عن الدين يستحيل أن تنطبق على الإسلام.. ولذلك أقام مفهوم الإسلام فى مقابل مفهوم الدين لعدم التساوى بين المفهومين .. ومن ثَمّ تراه يتحدث عن (الإسلام والدين) كأنهما كينونتين مختلفتين.. و لكى ييسّر الفهم على قُرّائه أضاف إلى الدين بمفهومه الغربيّ صفة [المجرد] حتى لا يلتبس على القارئ مقصده.. علما بأنك إذا ٍسألت أى مسلم حقيقى عن الدين فسوف يقرن فيه تلقائيا بين العبادات والمعاملات .. فإذا كان على شيئ من الفقه فسوف تعلم منه أن العبادة فى الإسلام تتسع لتشمل كل قول أو عمل أو موقف (عملي أو ذهني) يريد به المسلم وجه الله: ابتداءً من إماطة الأذى عن طريق الناس، أواستنكار المنكر ولو بالقلب، صعودا إلى الجهاد لرد الظلم والعدوان عن عباد الله... أدرك بيجوفيتش أن للإسلام خصوصية متفرّدة لا يشاركه فيها دين آخر.. ولذلك وصفه بأنه وحدة ثنائية القطب، يسميها الدكتور يوسف القرضاوي (الثنائية التكاملية).. وقد بنى بيجوفيتش على هذه الفكرة نموذجه التفسيريّ وطبقه على الإسلام فى كل جوانبه.. وهكذا انبثقت فلسفة بيجوفيتش المبدعة.. ولنبدأ بتطبيقاته على أعمدة الإسلام الخمسة: (2) الصلاة : يقرر بيجوفيتش حقيقة أن الصلاة في الإسلام لا تصحُّ بدون وضوء ، بينما في الدين المجرد يُمْكِنُ أداء الصلاة مع وجود القذارة البدنية، وقد وجدت هذه الحالة تسمية تاريخية هى (القذارة المقدَّسة) كما عرفتها نُظْمُ الرهبنة في كلِّ من المسيحية والهندوسية ، فالرهبان الذين يَتَجَنَّبون النظافة يشعرون شعورًا دينيًا أصيلاً أنَّ إغفالَ البدن بل الإهمال المتعمد لنظافته يُقَوِّي الجانب الروحي في الصلاة ، فالصلاة عندهم تكون أصدق إذا تَجَنَّبَ المرء أي عناية بالبدن.. حتى أن بعض الرهبان الأوائل كانوا يفخرون بأن الماء لم يمسس جلودهم إلا عندما كانوا يضطرون لعبور مجرى مائي يعترض طريقهم...! . أما في الإسلام فالوضوء والحركات في الصلاة تُشَكِّل الجانب العقلي منها ، فلا تجعلها مقصورةً على جانبها الروحي المجرد بل تضيف إليها النظام والصحة .. وفي الوضوء فجرًا بالماء البارد يوجد بالتأكيد شيء من الروح العسكرية، تؤكِّدها صفوف صلاة الجماعة المتلاحمة.. يقول بيجوفيتش: " تَشْمَلُ الحركات الخارجية للصلاة جميعَ أعضاء الجسم تقريبًا ولأنها تُؤَدِّي خمس مرات في اليوم على الأقل فهي وسيلة فَعَّالة لعلاج الخمول والاسترخاء.. فالصلاة بهذا الجمع بين الروحي والبدني في إطار واحد تعتبر أكمل تصوير لما يُطْلِقُ عليه بيجوفيتش الوحدة ثنائية القطب." " حتى الوضوء الذي يُحْسبُ على جانبه البدني والعقلاني في الصلاة هو بدوره ليس أُحَادي الجانب بل فيه ثنائية ، فهو نظافة وصحَّة ولكنه فضيلة روحية أيضًا لذلك . يقول الله سبحانه { إنَّ الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين } ، وعبارة " النظافة من الإيمان " لا تُوجَدُ إلا في الإسلام ، فالبدن ونظافته في جميع الأديان الأخرى المعروفة خارج الاعتبار .. وصلاة التراويح المصاحبة للصيام في رمضان لها أثرها الصحيّ ولها هَدَفٌ طبِّيٌ .. وهذا أيضًا ممكن فقط في الإسلام .." "إنَّ مواقيت الصلاة مثل مواقيت الصيام والحج تعتمدُ جميعًا على حقائق فلكية مُعَيَّنَة .. فالصلاة الإسلامية تشتملُ على عناصر روحية وعناصر مادية وطبيعية على حدٍّ سواء ... وكان التطور السريع لعِلْم الفلك في قرون الإسلام الأولى وثيق الصلة بحاجة المسلمين إلى التحديد الدقيق للمكان والزمان ،يقول بيجوفيتش: لدينا أسباب عديدة للاعتقاد بأن هذا التطور كان هَدَفًا من أهداف الإسلام ". "هذا الجانب من الصلاة (سَمِّه إنْ شِئْتَ الجانب الدنيوي أو العلمي أو الطبيعي) يُزَكَّى بقوة صفة أخرى هي الصلاة في جماعة ، ولكنها أيضًا مناسبة للعلاقات الشخصية المباشرة ، وبهذا الاعتبار تكون الصلاة ضد السلبية والفردية والانعزال ، فإذا كانت الحياة تُفَرِّقُ الناس فإنَّ المسجد يُجَمِّعُهم ويَمْزجُهم . إنها مدرسة يومية للتآلف والمساواة والوحدة ومشاعر الودّ . ويُتَوَّجُ هذا الاتجاه الاجتماعي في الصلاة خصوصًا صلاة الجمعة .. فهي تكاد أن تكون صلاة حضرية سياسية ، تقام في الإجازة الأسبوعية ، في مسجد مركزي جامع يَحضرُه بعض رجال الدولة .. وخطبة الجمعة قَبْلَ الصلاة جزءٌ لا يَتَجَزَّأُ من الصلاة ، وهي بصفة رئيسية رسالة سياسية .. وقد يقول المسيحيون : إنَّ هذا يتعارض مع مفهوم الصلاة ، وهو استنتاج يَتَّفِقُ مع الطريقة المسيحية في التفكير ، ولكنه استنتاج غير مُبَرِّرٍ من وجهة نَظَرِ الإسلام ..." (3) الزكاة : التحوُّل من الدين المجرَّد إلى الإسلام ظاهر بوضوح في مسألة الزكاة ، ففي المرحلة المكِّيَّة كانت الزكاة تُمْنَحُ للفقراء على سبيل التطوع .. ولكن عندما تَأَسَّسَ مجتمع المدينة – وهي اللحظة التاريخية التي تحوَّلت فيها الجماعة الروحية إلى دولة – بَدَأَ الرسول يعاملُ الزكاة باعتبارها التزامًا قانونيًا ، أي ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء. يقول بيجوفيتش:"إنها (على قَدْرِ علمنا) أول ضريبة من نوعها في التاريخ ، كأن الإسلام قد أنشأ الزكاة عندما أضاف الإلزام القانوني إلى المؤسسة المسيحية للصدقة" . هنا يبرز بيجوفيتش حقيقة إسلامية بالغة الأهمية حيث يقول: " لقد جاء فَرْضُ الزكاة استجابة لظاهرة ليست في حدِّ ذاتها واحدية الجانب، فالفقر ليس قضية اجتماعية بَحْتَةٌ ، فليس سَبَبُه العوز فقط وإنما يكمن أيضًا في الشرِّ الذي تنطوي عليه النفوس البشرية [الشّح] ، فالحرمان هو الجانب االبرّاني للفقر وأما جانبه الجُوّاني فهو الجشع والشّح، وإلا فكيف نُفَسِّرُ وجود الفقر في مجتمعات ثَرِيَّة..؟! إننا في النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال ثُلَثُ البشرية يعاني من نٌقْصٍ مُزْمِن في التغذية ، فهل يرجع هذا إلى نَقْصٍ في الغذاء أم إلى نَقْصٍ في الشعور..؟!" ويتابع بيجوفيتش فكرته مفصلا فيقول: " إنَّ أي حلّ لمشكلة الفقر ينبغي أن يَتَضَمَّنَ الاعتراف بالذنب .. فكلُّ حلٍّ اجتماعي لابدَّ أن يَتَضَمَّنَ حلاًّ إنسانيًّا ، بمعنى أنه لا ينبغي الاكتفاء بتغيير العلاقات الاقتصادية ، بل أيضًا العلاقات الإنسانية ، يجبُ إحداث التوزيع العادل ، وكذلك التنشئة الصحيحة للناس التي تَقُومُ على الحبِّ والتعاطف... الزكاة مرآة للناس ، إنها تقضي على الفقر بين المحتاجين وتقضي على الشّح واللا مبالاة بين الأغنياء ، إنها تُقَلِّلُ من التفاوت المادِّيّ بين الناس وتُقَرِّبهم بعضهم من بعض..." وعلينا أن نفهم " أنَّ غاية الإسلام ليست هي القضاء على الأغنياء وإنما القضاء على الفقر .. والاعتبارات القانونية المتصلة بالزكاة مقصورة على : كم تُعْطَي مما تملك لمن...؟ إلا أن مؤسسة الزكاة تَعْتَبَِرُ أنَّ مبدأ التضامن في حدِّ ذاته هو الأهم من مجرد النسب المستحقة والأرقام ، فطبقًا لهذا المبدأ يُمَثِّلُ التزام أغنياء المجتمع بكفالة فقرائه الأهمية الحاسمة في القضية .. ولا يساورنا أدنى شكٍّ أنه إذا قام نظام إسلامي صحيح فإنه سيناضل من أجل تحقيق الهدف من هذا المبدأ بصرْفِ النظر عن مستوى الدَّخل أو إحصائيات السكان .. وحيث أن الزكاة حقٌّ للفقراء فإنه سيتمُّ توفيرها بالقوة إذا لَزِمَ الأمر..." [ألهذا السبب يخشى الأثرياء المترفون حكم لإسلام...؟!] يمضى بيجوفيتش فى تعميق هذه الفكرة حيث يقول: "وفْقًا لبعض المصادر ذُُُكِرَ الإلزام بالصدقة والتوصية بها في اثنين وثمانين موضعًا بالقرآن ، ونتيجة لإصرار التعاليم الإسلامية على والصدقة، جَرَت ثورة هادئة في المجتمعات المسلمة تبلورت في مؤسسة الأوقاف، والوقف من حيث انتشاره وأهميته لا يوجد له مثيل في البلاد غير الإسلامية ، فلا تكاد توجد دولة إسلامية واحدة ليس فيها ممتلكات كبيرة مُخَصَّصة للأوقاف وخدمة الخير العام .. صحيح أن الوقف لم يذكر في القرآن ولكنَّه لم يظهر في المجتمعات الإسلامية بمحض الصدفة ، إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن ولتأثير وظيفة الزكاة التعليمي في المجتمعات المسلمة ، هذه التجربة الإنسانية تُوفِّر الأمل في أنَّ غايات اجتماعية مُعَيَّنة يُمْكِنُ تحقيقُها بدون عُنْفٍ..." هو يشير هنا إلى النظم الشيوعية التى لم تستطع تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة إلا عن طريق العنف الطبقي وحرب الطبقات... لقد اقترنت الزكاة بالصلاة فى القرآن بصفة دائمة.. فحيثما أمر الله بالصلاة أتبعها بأمرللزكاة ، ويرى بيجوفيتش: " أنه لا يوجد تفسير لذلك إلا أنها دعوة ضد فَصْلِ الأعمال عن الإيمان أو فَصْلِ الإنسان عن الدنيا ، وهي دعوة إسلامية في صميم جوهرها ... وقد استخدم أبو بكر (الخليفة الأول) المنطق نفسه عندما قَرَّرَ استخدام القوة ضد مانعي الزكاة .. وذُكِرَ أنه قال في هذا الموقف : "والله لأقاتلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة".. كما يرى إنَّ المعادلة القرآنية المألوفة التي تَجْمَعُ بين الصلاة والزكاة ليست إلا صيغة مُعَيَّنة من معادلة أخرى ثنائية القطب أكثر تكرارًا وأكثر عمومية وهي: آمِن، وافعل الخير( قُلْ آمنت ثم استقم).. وهذا هو الأساس الجوهري للأوامر الدينية والأخلاقية والاجتماعية في القرآن . هذه المعادلة تمثّل العمودين اللذين لا بديل لهما واللذين يَقُوم عليهما الإسلام كلّه .. ولعلَّ من المناسب النظر إلى هذه المعادلة باعتبارها أول صيغة للإسلام وأشملها ، فالإسلام بكامله يقع تحت صيغة ( الوحدة ثنائية القطب ) . (4) بهذا الأسلوب التحليلي المبدع يتناول عزت بيجوفيتش النطق بالشهادتين والصوم والحج ليكشفَ لنا عن انطباقِ هذا المبدأ في أمور أخرى كثيرة قد لا تَخْطُر على بالِ أحد فيقول : إنَّ الثنائية التي يتميز بها الإسلام واضحة في أمور أخرى كثيرة ، انظر إلى هذه الآية من القرآن : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } المائدة : 89 وهكذا .. ترى في هذا الموقف أن الأعمال الاجتماعية المفيدة في العالم البرّاني لها أولوية على الأعمال الروحية الخالصة ، فالأخيرة تُطَبَّقُ فقط كبديلِ عندما يستحيلُ أداء الأولى [ إطعام المساكين وعتق الرقاب مقدّم على الصيام ...!]". (5) يُكَرِّس العهد القديم فكرة الأذى بالأذى ، ويُكَرِّس العهد الجديد العفو ، فانظر إلى القرآن كيف يُرَكِّب جُزْئيًّة من هاتين الذرتين : { وجزاء سيئة مثلها ، فمن عفى وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين } .. ويكاد التركيب يبدو مباشرًا وآليا في بعض الأحيان ، ففي سياق ذِكْرِ التوراة تَرِدُ في القرآن هذه الآية : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنف بِالأنف َ وَالأذن بالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} المائدة : 45.. يقول بيجوفيتش: " إنَّ الإسلام ليس دِينًا يُحَرِّمُ على الإنسانِ فاكهةَ الأرض ولا يُسرفُ في التحريم ، إنه لا يَلْعنُ الأرض بل على العكس تمامًا فقد جَعَلَ ترابها طهورًا : فإذا لم يجد الإنسان الماءَ للطهارةِ والوضوءِ فترابُ الأرضِ بديلٌ يُمْكِنُ استخدامُه فيما يُعَرَفُ ( بالتّيمُّمِ ) ، والرمزية في التيمُّمِ ( وضوء بغير ماء ) ليس لها معنى سوى ذلك.." (6) يتناول بيجوفيتش بعض المسلمات الإسلامية، كالأمر بالنظافة وتحريم الخمر ، والأوامر المشابهة، ويلفت انتباهنا إلى أنها ليست من الدين المجرد لسبب بسيط عنده وهو أنها تنبعُ من العناية بالحياة ( البرّانية ) المادِّيَّة أو الاجتماعية،التى يخرجها الدين المجرد من حسابه.. ولكنها تضرب فى أعماق الإسلام بوحدته ثنائية القطب.. وهى تكتسب معناها الكامل في إطارها الحضاري .. فالمدن الكبرى المزدحمة اليوم لا يُمْكِنُ الحفاظ على الحياة فيها بدون قَدْرٍ من النظافة الشخصية والعامة ، أما إدمان الخمر فقد أثبت أنه أكبر مشكلة في عَصْرِ التكنولوجيا والحياة المدنية المعاصرة ... (7) تنطبق الثنائية أيضًا على مصادر الإسلام نفسه، فنحن نعلم أن للإسلام مصدرين أساسيين: هما القرآن والسُّنَّة النبوية ،يقول بيجوفيتش:" إنهما يُمَثِّلانِ مَعًا الإلهام والخبرة ، الخلود والزمن ، التفكير والممارسة ، الفكرة والحياة .. وتشيرُ التفاسير القرآنية إلى أنه بدون السُّنَّة النبوية أي بدون حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتعسَّرُ فَهْمُ القرآن فَهْمًا صحيحًا ، إنه فقط من خلال فَهْمِنا لحياة الرسول يَعْرِضُ الإسلامُ نفسَه كفلسفة عملية أو خُطَّة شاملة للحياة كلها ، من هنا جاء القول: (كان خُلُقُه القرآن) وأنه ( كان قرآنًا يمشي على الأرض )، فهكذا وُصِفَ الرسول صلى الله عليه وسلم ووُصِفَتْ حياته..." . يقول بيحوفيتش: " إذا أضفنا إلى تحليلنا لهذين المصدرين فكرة ( الإجماع ) فإننا نظلُّ في إطار الثنائية : فالإجماع عند الإمام الشافعيّ يعني اتفاق جميع الآراء وعند الطبريّ والرازيّ اتفاق أغلب علماء الفقه .. ولم يكن الإسلام ليكون ما هو عليه لو أنه لم يجمع في ثنائيته مبدأ الصفوة ومبدأ العدد معًا: ففى الإجماع توجدُ الصفوة النوعية أوالأرستقراطية الفكرية.. كما يوجد الجانب العددي (أى الديمقراطية).. وأخيرًا نجد أنَّ أعظم شخصية في الإسلام هي شخصية المجاهد الشهيد في سبيل لله: فهو راهب وجندي في شخص واحد ، فما انقسم في المسيحية إلى مبدأ للرهبانية ومبدأ للفرسان اتحد في الإسلام في شخصية الشهيد (رهبان بالليل وفرسان بالنها) .. فالشهيد يمثل وحدة الروح والدم معا وهما مبدأن يَنْتَمِيَان إلى عالمين مختلفين . (8) يؤكد بيجوفيتش أن القرآن لا يحتوي على حقائق علمية جاهزة ، ولكنَّه يتضمَّنُ موقِفًا علميًّا جوهريًّا ( يتجلَّى ) في اهتمامه بالعالم البرّاني، وهو أمر غير مألوف في الأديان .. يشيرُ القرآن إلى حقائق كثيرة في الطبيعة ويدعو الإنسان للاستجابة إليها .. يأمر القرآن بالعلم وبالقراءة، ولا يرى بيجوفيتش أن الأمرُ بالعلم وبالقراءة ينطوى على أى تعارض مع فكرة الألوهية ، بل إنه قد صُدِّرَ باسم الله : {إقرأ باسم ربك الذي خلق } ... بمقتضى هذا الأمر لا يلاحظ الإنسان ويبحث ويَفْهَم طبيعةً خَلَقَتْ نفسَها ( كما يزعم المادِّيُّون ) وإنما يلاحظُ ويَفْهَمُ الكون الذي أَبْدَعَه الله.. ، ولذلك فإن الملاحظة ( المطلوبة ) ليست بلا هَدَفٍ أو خالية من الشوق وإنما هي مزيج من العلم وحبِّ الاستطلاع والإعجاب الديني ، وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية .. ويستدل بيجوفيتش على ذلك بإيراد اثنتي عشرة آية نذكر منها هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الأنعام : 95 – 99 . يقول على عزت بيجوفيتش: " في هذه الآيات التي اتجهت بِكُلِّيَّتِها إلى الطبيعة نجدُ تقبُّلاً كاملاً للعالم ، ولا أثر فيها لأي نوع من الصراع مع الطبيعة ، فالإسلام يبرز ما في المادة من جمال ونُبل كما هو الحال بالنسبة للجسم في موقف الصلاة ، فالعالم ليس مملكة للشيطان ، وليس الجسم مستودعًا للخطيئة ، حتى عالم الآخرة ، وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها ، صَوَّرَه القرآن مغموسًا بألوان هذا العالم ، ويرى المسيحيون في هذا حسيّةً تتنافي مع عقيدتهم ، ولكن الإسلام لا يرى العالم المادِّيّ مستغربًا في إطاره الروحي . وبعض آيات القرآن تُوقِظُ الفضولَ الفكري وتُعْطِي قوة دافعة للعقل المكتشف : {وجعلنا من الماء كل شيء حي } ، { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِماء واحد ونفضّل بعضها على بعض فى الأكُل، إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون} الرعد:4" نواصل إن شاء الله رحلتنا مع بيجوفيتش فى ثنائيته التكاملية ... [email protected]