«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسى وعيسى ومحمد [2]
نشر في المصريون يوم 18 - 07 - 2010

(1)الدين المجرد: هذا مصطلح صكّه بيجوفيتش لأول مرة ليصوّر به فروقا جوهرية بين الدين بمفهومه الغربي وبين الإسلام .. فالإسلام فى ضوء هذا المفهوم الغربي ليس مجرد دين .. أو بالأحرى ليس [دينا مجردا] وفى إطار هذا المفهوم يسهل على بيجوفيتش أن يتحدث عن [الإسلام والدين] كفكرتين مستقلتين .. يستغرق الإسلام الدين ويزيد عليه .. بينما الدين المجرد يستحيل عليه أن يستوعب الإسلام .. وقصاراه: أنه يقابل الجانب الروحي الفردي الخالص فى المركّب الإسلامي [ثنائي القطب] .. وبيجوفيتش هنا يحاول تأصيل الفكرة مبتدئا بدراسة مقارنة لليهودية والمسيحية ..حيث يقول:
" المادية اليهودية أو الوضعية هي التي لفتت العقل الإنساني خلال التاريخ اليهودي إلى العالم، وأثارت الاهتمام بالواقع البرّاني.. أما المسيحية، فقد لفتت الروح الإنسانية إلى ذاتها. فالواقعية الصريحة «للعهد القديم» لا يمكن التغلب عليها إلاّ بمثالية حاسمة من «العهد الجديد»..." ففى المسيحية لا يصح شطر الطاقة الإنسانية إلى اتجاهين متعاكسين: اتجاه السماء واتجاه الأرض. «فلا يستطيع إنسان أن يخدم سيدين، فهو إما أن يكره أحدهما ويحب الآخر، أو يتمسك بأحدهما ويستخف بالآخر: "إنك لا تستطيع أن تخدم الله وتخدم [مامون].." وينطلق «تولستوي» من هذه الفكرة فيطوّرها، حيث يقول: «لا يستطيع إنسان أن يُعنى بروحه وبمتاع الدنيا في الوقت نفسه، فإذا كان الإنسان يطمح إلى المتاع فعليه أن يتنازل عن روحه، وإذا كان يطمح إلى خلاص روحه فعليه أن يتخلى عن متاع الدنيا.. وإلا فإنه يتمزق بينهما، فلا يصل إلى هذه أو تلك.. لقد اعتاد الناس أن يسعوا للحصول على الحرية عن طريق تجنبهم ما يعوقهم ويعوق أبدانهم، أو يحول بينهم وبين الحصول على رغباتهم.. ولكن الوسائل التي يتخذونها لتحقيق متعهم البدنية المادية ، من ثراء ومراكز عالية وسمعة بين الناس كلها لا تؤدي إلى الحرية المرغوبة، بل على العكس تقيد هذه الحرية أكثر وأكثر. فإذا أراد الناس أن يحققوا حريتهم، عليهم أن يبنوا من خطاياهم وأهوائهم وضلالاتهم سجنًا يحبسون فيه أنفسهم بين جدرانه..» ولقد لاحظت السلطات الكنسية وجود اختلافات جوهرية بين روح «العهد القديم» و«العهد الجديد»، حيث يذهب إنجيل مرقص إلى أن المسيح عيسى قد ألغى قانون موسى، واستبدل ب «يهْوى» إله العدالة ومنقذ العالم المادي، إله الحب الذي خلق عالم الغيب اللامرئي.
ولذلك، فإن الدين منذ البداية ينبذ أي توجّه لتغيير العالم الخارجي أو محاولة جعله عالمًا كاملاً، فالدين المجرد( من هذا المنطلق) يحكم على أي اعتقاد إنساني، يهدف إلى تنظيم العالم البرّاني أو تغييره إلى عالم أفضل بأنه خطيئة، أو هو في الحقيقة نوع من أنواع خداع النفس.. فالدين بهذا المفهوم ينحصر فى الإجابة على سؤال: كيف تحيا في ذاتك وتواجه هذه الذات..؟، وليس إجابة على سؤال: كيف تعيش في العالم مع الآخرين..؟، إنه (كما يصفه بيجوفيتش): معبد على قمة جبل.. ملاذ على الإنسان أن يرتقي إليه، تاركًا خلفه خواء عالم لا سبيل إلى إصلاحه.. عالم يهيمن عليه الشيطان وحده.. وهذا هو الدين المجرد.. فى مفهوم الكاثوليكية الأصلية...!
(2) يقول المسيح عليه السلام: «لا تقلق على حياتك فتقول ماذا ستأكل وماذا ستشرب».. «إذا أوقعتك عينك اليمنى في الزلل فاقتلعها، وإذا أوقعتك يدك اليمنى في الزلل فاقطعها».. «كل من ينظر إلى امرأة بشهوة فكأنه قد زنى بها في قلبه».. «إنه مكتوب أني سأدمر حكمة الحكيم وسأحيل عقل الحصيف إلى عدم.. أين الحكيم..!؟ وأين الكاتب..!؟ وأين المُجادِل عن هذه الدنيا..!؟»... «وسأله الناس قائلين: وماذا نفعل إذن..!؟» فأجاب المسيح: «من كان له ثوبان فليعط واحدًا لمن لا ثوب له.. ومن كان عنده لحم فليفعل بالمثل...»..
ويعلق بيجوفيتش قائلا: "إن التشابه بين هذه العبارات الإنجيلية وبين بعض المبادئ الاشتراكية ليس إلا تشابهًا ظاهريًا.. فلا مناقشة هنا لمجتمع وما فيه من علاقات، وإنما الأمر كله منصبٌّ على الإنسان الفرد وروح الإنسان التى تتطلّلع إلى الخلاص... فالدين يدعو إلى العطاء، والثورة «الاشتراكية» تدعو إلى الأخذ.. وقد تكون النتيجة البرّانية واحدة، ولكن النتيجة الجُوانيّة مختلفة كل الاختلاف...!"
ويتابع بيجوفيتش :" الطريق الذي يدعو إليه الدين طريق شاق، ولا يصلح لسلوكه إلا من كرَّسوا أنفسهم له.. وعندما صرح القرآن: {لا يُكلِّف اللهُ نفسًا إلا وُسْعها...} كان يوجه الإشارة بوضوح إلى المسيحية.. ولذلك عرفت الأديان المجردة طريقين أو برنامجين: ففى البوذية مثلا يوجد ما يُسمى ب (الماهايان) أو الطريق العظيم، وهو طريق شاق أليم مكرَّس للصفوة، وطريق آخر يسمى (الهنايانا)، وهو طريق ميسر، وأقل قسوة مفتوح لعامة الناس.. و كذلك في المسيحية تقسيم أخلاقي مماثل: فهناك حياة خاصة للقساوسة والنظام الأكليروسي، في مقابل الحياة العادية لعامة الشعب؛ فالعزوبة [الكاثوليكية] لرجال الدين فقط، في مقابل الزواج المسموح به لعامة الناس.. والمفهوم ضمنا فى إطار الثقافة والهوية الكاثوليكية أن العزوبة هي الطريق الصحيح والأمثل ، أما الزواج فتسوية.. أو حل وسط.. أوهو شر لابد منه.." ويرتب بيجوفيتش على هذه الفكرة المركزية نتائج بالغة الأهمية خلاصتها: " أن القوى الجوانية المصحوبة بنكران الذات مسألة شخصية بأسرها ترتبط دائمًا برفض كل نشاط اجتماعي.. فالمسيحية أوالدين المجرد بصفة عامة، من حيث معارضتهما للعنف، لا يمكن لهما التأثير في أي شيء من شأنه أن يحسِّن من وضع الإنسان من الناحية الاجتماعية.. فالتغيير الاجتماعي لا يأتى بواسطة الصلوات أو الأخلاقيات، وإنما عن طريق قوة مدعمة بالأفكار و المصلحة.. ومن هنا جاء الاتهام (الذي قد يبرره التاريخ ولكن لا تبرره الأخلاق) بأن الدين إنما يدعم الأمر الواقع السائد في عصره.. وأنه بهذا يخدم الطبقة الحاكمة بصرف النظر (عن المعارضة الروحية).. ولذلك نلاحظ أن القرآن يسمي المسيحية (بلاغًا)، وتسميها الأناجيل (بشارة).. فهى بشارة لأعمق ما في الوجود الإنساني من حقائق؛ (حبّ جارك كما تحب نفسك)..(حبّ أعداءك وبارك لاعنيك) .. (لا تقاوم الشر) .. ولكن هذه المطالب تسير ضد فطرة المنطق العملي في حياة الإنسان، مما يوجهنا نحو البحث عن معناها الحقيقي.. إنها توحي بالبشارة لعالم آخر، ولذلك أعلن المسيح عليه السلام بوضوح لا لبس فيه: (مملكتي ليست في هذا العالم)...!
يقول بيجوفيتش: "إن الإلهام الواضح الحاد للأناجيل يعتبر نقطة تحول في التاريخ، فلأول مرة يتضح للبشرية الوعي الكامل بالقيمة الإنسانية، ومن خلال هذا الوعي تحقق التقدم الكيفي لا التقدم التاريخي.. ولذلك كان ظهور عيسى (عليه السلام) مَعْلَم من معالم تاريخ الإنسانية.. (آية للعالم..)، وقد تجسدت رؤيته والأمل الذي بثه في جميع الجهود الإنسانية من ذلك الوقت.. ولا تزال الحضارة الغربية (برغم كل انحرافاتها وضلالاتها وشكوكها) تحمل بصمة التعاليم المسيحية الأولى.. ففي الصراع المبدئي بين المجتمع والإنسان، بين الخبز والحرية، بين الحضارة والثقافة، يجد الغرب نفسه (وهو ملتزم بالتقاليد المسيحية ربما بلا وعي منه) منحازًا إلى الاختيار الثاني.." ويفسر لنا هذا [الانحياز الواضح] المترسّب بين نخبة من المثقفين وجموع غفيرة من الجماهيرفى الغرب إلى قضايا الحرية وحقوق الإنسان، [وانحيازها ضد الحروب الإمبريالية فى العراق وأفغانستان وضد الحصار على غزة وفلسطين.. وضد تكبيل الدول الفقيرة بالديون ونهب ثراواتها لصالح الرأسمالية الجشعة...!]
(3) يؤمن بيجوفيتش بأن الدين يؤثر في العالم فقط عندما يصبح هو نفسه دنيويًا، بمعنى أن يصبح معنيًا بالسياسة في معناها الواسع.. ومن هذه الناحية، يعتبر الإسلام فى نظر البعض مسيحية أُعيد تكييفها تجاه العالم.. هذا التعريف يكشف لنا عن التشابه، و فى الوقت نفسه عن الاختلاف بين المسيحية والإسلام.
يقول بيجوفيتش: إذا نظرت إلى الإسلام من برّانيه كمفكر أجنبيّ تجد أنه يشتمل على عنصر يهودي واحد، ولكنه يشتمل أيضًا على عناصر كثيرة غير يهودية.. وفي تصنيف «هيجل» للأديان اعتبر الإسلام استمرارًا لليهودية.. وهذه الفكرة عن الإسلام تنبع من وجهة نظر مسيحية، وذهب «شبنجلر» إلى رأي يشبه هذا، عندما قال: إن [كتاب أيوب فى العهد القديم] كتابة إسلامية.. و قد ضعت «مِرْسيا إلْيادي» فى كتابها: (أنماط من الأديان المقارنة) النبيَّ محمدا على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة (والأخيرة) من مراحل التحول الروحي للجنس البشري. ومن ثَََمّ فالمرحلة الثالثة التي لم تنته بعد بدأت بمحمد، حيث تذهب «إليادي» إلى أن تاريخ العقل الإنساني هو عملية «علْمَنَة» عامة، وبهذه الرؤية، يقف محمد على حافة مرحلة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث.. بمعنى أنه يقف في النقطة البؤرية للتوازن التاريخي...
يقول بيجوفيتش: "إذا نحّينا جانبًا رؤية «إليادي» التاريخية ذات البعد الواحد.. وهي رؤية غير مقبولة من وجهة نظرنا.. نستبقي منها إشارتها إلى الموقف الوسط للإسلام ولمحمد الذي تتميز به هذه الرؤية..هذا الانطباع يظل ثابتًا بصرف النظر عن اختلاف المقتربات أو التفسيرات..."
لقد تجنب المسيح دخول القدس لأنها مدينة «الفرّيسيين» والمجادلين والكتّاب والكفار وأصحاب الإيمان السطحي.. وبالمقابل لا توجه الاشتراكية خطابها لأبناء الريف، وإنما تتوجه به لأبناء المدن الكبرى.. أما محمد، فكان يذهب إلى غار حراء (ليتعبّد)، ولكنه كان يعود في كل مرة إلى المدينة الكافرة (مكة) لكي يؤدي رسالته فى خضمّ مجتمع مقاوم رافض للإيمان الجديد...
ويعلق بيجويتش قائلا: "ومع ذلك، فإن كل ما حدث في مكة لا يمكن وصفه بأنه «الإسلام»، لأن الإسلام اكتمل وبلغ ذروته في (المدينة).. لقد كان محمد في غار حراء صائمًا متنسكًا متصوفًا حنيفًا، وكان في مكة مبشرًا بفكرة دينية.. أما في المدينة، فقد أصبح داعية إلى [الفكرة الإسلامية].. إن الرسالة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم اكتملت وتبلورت في المدينة.. فهناك، وليس في مكة، كانت «بداية ومصدر [لنظام الإسلامي الاجتماعي كله]...
كان لا بد لمحمد أن يعود من «الغار»، فلو أنه لم يعد لبقي «حنيفيًا»، ولكنه عاد من الغار وشرع يدعو إلى الإسلام.. وهكذا تم الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع، بين التنسك والعقل، بين التأمل والنشاط.. لقد بدأ الإسلام صوفيًا روحيا وأخذ يتطور حتى أصبح دولة.. وهذا يعني أن الدين قد تقبّل عالم الواقع وأصبح «إسلامًا».
(4) الإنسان ونفسه: هذه هي الصلة بين محمد وبين عيسى (العهد الجديد).. فبين الكتب المقدسة وبين النفس تشابه في الطبيعة.. في جوهرها جميعًا سر واحد.. فالنفس والكتب المقدسة يمثل أحدهما الآخر بطريقة رمزية.. وكلاهما يلقي الضوء على الآخر.. أما الإسلام فهو نسخة من الإنسان بجمعه وكلّيته .. ففي الإسلام تمامًا ما في الإنسان.. فيه تلك الومضة الإلهية، وفيه تعاليم عن الواقع والظلال.. يقول بيجوفيتش: "بالإسلام جوانب قد لا تروق للشعراء الرومانسيين.. فالقرآن، كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم.. والإسلام بدون إنسان يطبقه يصعب فهمه، وقد لا يكون له وجود بالمعنى الصحيح.."
مُثُلُ «أفلاطون» وملائكة المسيحية، تشير في جوهرها جميعًا إلى شيء واحد: مملكة عالم سرمدي كامل مطلق ثابت.. أما الإسلام، فإنه لا يعطي لهذا العالم قيمة مثالية.. فالملائكة وهم ينتمون إلى هذه المملكة سجدوا للإنسان الذي علّمه الله «الأسماء كلها». مما يؤكد غلبة الحياة والإنسان والدراما على الكمال الساكن المخلّد..
(5) فى نظر بيجوفيتش: أن المسيحية لم تبلغ أبدًا الوعي التام بوحدانية الله..صحيح أن بها مفهوم مفعم بالحيوية عن الألوهية.. ولكن لا توجد بها فكرة واضحة عن الله.. وكانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل الفكرة الإنجيلية عن الله أكثر وضوحًا وأقرب إلى عقل الإنسان وفكره. فالله هو الإله (الواحد) الذي تتوق إليه النفوس وتصبو إليه أفكار نبيلة في عقولنا.. يقول بيجوفيتش: " في الأناجيل، الإله «أب»، وفي القرآن الله "رب العباد".. الإله في الأناجيل محبة، وفي القرآن «جلال يستحق الحمد والثناء».. هذه الخاصية في فهم المسيحية للألوهية انقلبت فيما بعد إلى سلسلة من الصور المختلطة ضحَّت بالوحدانية الأصلية للمسيحية في سبيل الثالوث.. وتكريس الأم العذراء والقديسين..»ثم يضيف مؤكدا: "مثل هذا التطور يستحيل أن يحدث في الإسلام، فبرغم كل ما مرّ به الإسلام من نكبات تاريخية، ظل أنقى أديان التوحيد.. ومن الضروري أن نلحظ هنا حقيقة جوهرية وهى أن النفس الإنسانية قادرة على تصور الألوهية فحسب.. أما خلال العقل، فإن الألوهية تتحول إلى فكرة (الله الواحد الأحد) ...
إله المسيحية، هو رب عالم الأفراد (الناس والأنفس)، بينما يملك الشيطان زمام العالم المادي.. ولذلك، فإن الاعتقاد المسيحي في الله يتطلب الحرية الجوانية، بينما العقيدة الإسلامية في الله تنطوي [إضافة إلى ذلك] على الحرية البرانية أيضًا.. والعقيدتان الأساسيتان في الإسلام: «الله أكبر» و«لا إله إلا الله» هما في الوقت نفسه أعظم القوى الثورية في الإسلام..إنهما بحق ثورة ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الإلهي في حكم العالم.. ويذهب سيد قطب إلى أنهما يعنيان: «انتزاع السلطة من الكهان ومن زعماء القبائل والأغنياء والحكام، وإعادتها إلى الله»، ولذلك كانت «لا إله إلا الله» ضد جميع أصحاب السلطة في كل عصر وفي كل مكان»...!
(6) لم تستطع المسيحية كذلك أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنسانًا، ومن ثَمَّ استنتج المسيحيون من كلام عيسى فكرة (الإله الإنسان)، واعتبروا عيسى ابنًا لله.. ولكن محمدًا ظل إنسانًا فقط، وإلا أصبح زيادة لا ضرورة لها.. لقد أعطى محمد (صلى الله عليه وسلم) المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت ذاته، أما عيسى (عليه السلام)، فقد خلّف انطباعًا ملائكيًا...
كذلك كان الأمر بالنسبة للنساء، فقد احتفظ القرآن بوظائفهن الطبيعية كزوجات وأمهات، على عكس صورة مارتا ومريم في الأناجيل وهما أختان قرويتان وأخوهما يسمى «إليعازار».. تذكر الأناجيل أنه الشخص الذي أحياه المسيح بعد موته كمعجزة من معجزاته، وكانت المرأتان من أتباع المسيح ومحبيه وتحكي قصتهما الأناجيل بشيء من التفصيل ...
يقول على عزت: "إن الهجوم المسيحي على طبيعة محمد (الإنسانية الخالصة) هو هجوم ناتج في الواقع عن سوء فهم.. فالقرآن نفسه يؤكد أن محمدًا ليس إلا إنسانًا.. وقد كشف عن الاتهامات التي ستُوجّه إليه في المستقبل حيث قال: { وقالوا ما لِهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...!} الفرقان آية7 ، وفى آيات أخرى يؤكد القرآن بشرية محمد وإنسانيته لينفرد الخالق سبحانه بالوحدانية والتنزيه دون سائر مخلوقاته.. من هذه الآيات: { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولاً...} الإسراء آية93.. و { قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد...} الكهف آية 110..
(7) كان محمد صلى الله عليه وسلم موضع تصديق مطلق من أتباعه وقد عرفوه معرفة حميمة ورصدوا كل كلمة نطق بها وكل تصرف وكل لمحة وكل نظرة بدرت منه .. رأوه ليل نهار بينهم وهو يتعبد ويأكل ويشرب ويلبس ويتحدث ويتصرف (فى مختلف المناسبات والمواقف) .. وكادوأ أن يعدّوا عليه أنفاسه .. أحبوه أكثر من حبهم لأنفسهم .. ولو أنه كان دعيّا كما يزعم الأفاقون والمفترون لما جاء القرآن الذى بلّغه [هو] إليهم بنفسه يؤكد بشريته بهذه القوة والوضوح .. ولما تضمّن عتابا له من ربه فى بعض المواقف.. لو كان القرآن كلام محمد كما زعم المبطلون لما تضمن هذا التأكيد ولا سجّل هذا العتاب على نفسه أبدا.. ولما أورد فيه هذه الآية الصاعقة: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين} الحاقة:44-47
وتلك نقطة بالغة الأهمية على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن ثمّ كانت محورا مركزيا لكتاب كامل ألّفه مفكر إسلاميّ عظيم آخر هو (مالك بن نبي) بعنوان (الظاهرة القرآنية) يؤكد فيه أن القرآن وحده و فى حد ذاته هو أكبر برهان على صحة رسالة محمد وصدقها...!
ونتابع الحديث فى حلقة قادمة إن شاءالله...
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.