(1) نتابع مع بيجوفيتش تفاصيل الخصائص المميزة للإسلام عن الدين المجرد حيث يفتح أمامنا مجالات من المقارنة لم تكن لتخطر لنا على بال، منها مثلا المقارنة بين قاموس المفردات المستخدمة في الأناجيل و تلك التي وردت في القرآن، فهو يرى أن هذه المقارنة تُُؤَدِّي بنا إلى العديد من الاستنتاجات الواضحة: ففي الأناجيل يتكرر ورود ألفاظ مُعَيَّنة تكرارًا ملحوظًا مثل : مبارك ، مقدَّس ، ملاك ، الحياة الأبدية ، سماوات ، الفرّيسون ، خطيئة ، حبّ ، ندم ، عضو ، سرّ ، الجسد (كحامل للخطيئة) ، النفس ، الخلاص .. الخ . بينما في القرآن نجد المصطلحات نفسها مصاغة على صورة هذا العالم وقد اكتسبت واقعيةً وتحديدًا.. مثل : العقل ، الصحة ، الوضوء ، القوة ، الشراء ، العقد ، الرهان ، الكتابة ، الأسلحة ، القتال ، التجارة ، الفاكهة ، العزم ، الحذر ، العقاب ، العدل ، الربح ، الانتقام ، الصيد ، الشفاء ، المنافع .. الخ .. ثم ينبهنا إلى حقيقة أن الإسلام لم يعرفُ كتابات دينية لاهوتية بالمعنى المفهوم في أوربا للكلمة ، كما أنه لم يعرف كتابات دنيوية مُجَرَّدة ، فكل مفكِّر إسلامي ظهر فى تاريح الثقافة الإسلامية كان أيضا عالم دين .. والنماذج المشهورة لا حصر لها، فأنت تجد فى المفكر الواحد شخصيات موسوعية عديدة: الفقيه والطبيب والفيلسوف، وأحيانا الشاعر والموسيقي والعالم الطبيعي وعالم الرياضيات فى شخصية واحدة.. كما أن كلَّ حركة إسلامية صحيحة كانت دائما حركة سياسية . (2) يُمْكِنُ استخلاص نتائج مماثلة من المقارنة بين المسجد والكنيسة ، فالمسجد كما وصفه بيجوفيتش بحق: " مكان للناس أما الكنيسة فهي معبد للرب.. في المسجد يسود جوٌّ من العقلانية وفي الكنيسة جوٌّ من الصوفية .. المسجد بؤرة نشاط دائم ، وهو عادة ما يُبنى قريبا من السوق في قلب المناطق الآهلة بالسكان ، أما الكنيسة فتبدو أقلَّ التحامًا ببيئتها ، ويميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظلام والارتفاع إشارة إلى عالم آخر .. وعندما يَدْخُلُ الناسُ كاتدرائية يتركون خارجها كلَّ اهتمام بالدنيا كأنهم داخلون إلى عالم آخر، أما المسجد فمن المفروضِ أن يُنَاقِشَ الناسُ فيه بعدَ انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم .. وهذا هو الفرق..." (3) يقول بيجوفيتش:" تستطيع الأناجيل أن تقول : (عِش كما تَحْيَا الزنابق في الحقول)، ولكن القرآن يحثُّ الناسُ على الكدح والسعي وراء العيش فيقول: { وجعلنا النهار معاشًا } , ويذكّرهم بنعمة النهار المضيء الذي يُسَهِّلُ السعي فيقول : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ }.. يؤكِّد القرآن (على خلاف) الأناجيل أنَّ الله خَلَقَ الإنسان ليكون سيدًا في الأرض خليفة، وأن الإنسان يُمْكِنهُ تسخيرَ الطبيعة والعالم خلال المعرفة والعمل أي بالعلم والفعل.. من هذه الحقيقة وبتركيز الإسلام على القانون والعدالة يبرهن على أنه لا يستهدف الثقافة فقط وإنما يَسْعَى لبناء حضارة أيضًا ..." و يُسْتَدَلُّ على موقف الإسلام تجاه الحضارة من خلال اهتمامه بالقراءة والكتابة باعتبارهما أَقْوَى مُحَرِّك للحضارة ، فلا غرابةَ أن يُعْنَى بهما الوحْي فكانت أول ما نَزَلَ على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن { إقرأ باسم ربك الذي خلق } .. . يقول بيجوفيتش: : " قد تبدو القراءة غريبة عن الدين المجرد.. فقد بقيت الأناجيل تقليدًا شفويًّا لفترة طويلة من الزمن ..بل كانت حكرا وسرّا لا يطّلع عليها عامة الشعب.. [ليفسّرها القساوسة حسب أهوائهم دون مراجعة أو نقد من جانب الناس] وعلى عَكْسِ ذلك اعتاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يُمْلِي آيات القرآن على كُتَّاب الوحْي فورَ نزولها ، وهي ممارسة لم يكن عيسى عليه السلام ِ ليقبلها لأنها أقرب ما تكون إلى اهتمامات الفرّيسيين التي كان يَسْتَنكِرُها..." (4) وفى موضع آخر يقول بيجوفيتش: "إنَّ إصرار القرآن على حقِّ محاربة الظلم وفقا للآية القرآنية الكريمة { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ليس من قبيل التَّدِيُّنِ بمعناه الضيق فاللاعُنْف واللامقاومة أقرب إلى مبادئ الدين المجرد.. وهي مبادئ تَظْهَرُ بشكل متماثل في تعاليم عيسى عليه السلام كما فى الفكر الهندي، حيث نجد لها امتدادًا عند غاندي في ال (سَتْيا جرَِاها) أو أسلوب النضال والمقاومة عن طريق اللاعنف والعصيان المدني ... وهنا يؤكد بيجوفيتش أن القرآن عندما أقرَّ القتال، بل أمر به بدلاً من الرضوخ للمعاناة والظلم لم يكن يُقَرِّرُ مبادئ دين أو أخلاق وإنما كان يَضَعُ قواعد سياسية واجتماعية، ولقد كان محمد نفسه مقاتلاً .. وفى هذا السياق يلفت بيجوفيتش انتباهنا إلى أن تحريم الخمر في الإسلام كان له صفة اجتماعية فالخمر شرٌّ اجتماعي ، وليس في الدين المجرد شيء ضد الخمر، بل إنَّ بعض الأديان استخدمت الكحول كعامل صناعي يُسَاعد على استحضار النشوة ، شأنه في ذلك شأن الإظلام في الكاتدرائيات ورائحة البخور المُعَطِّرة فكلُّها وسائل تُؤَدِّي إلى هذا النوع من الخدَر المطلوب .. ولا يرى المسيحيون خطأ في أن يتحوَّلَ الخمر (رمزيًّا) إلى دم المسيح خلال القربان المقدَّس، فلا نجد في المسيحية تحريمًا للخمر كما حَرَّمَها الإسلام واعتبرها من الكبائر .. ذلك لأن الإسلام عندما حَرَّمَ الخمر سَلَكَ مسلك العلم لا مسلك الدين المجرد... (5) بعد أن سرنا شوطا بعيدا مع على عزت بيجوفيتش فى ثنائيته التكاملية وتطبيقاتها فى مجالات إسلامية كثيرة ، وبعد أن تبيّن لنا بوضوح الفرق بين الإسلام وبين الدين المجرد، يحقّ لنا أن نتساءل: مالذى حدث إذن لنصل إلى هذا الحال المزرى الذى وصلنا إليه..؟! مالذى حدث لهذ الإسلام العظيم الذى قال فيه نبى الإسلام: "تركتكم على المحجّة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك"، وقال " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا: كتاب الله وسنتى"، لا بد أن شيئا جلَلاً قد حدث لهذا الإسلام فلم يعد (بحاله الذى صار إليه) قادرا على أن ينهض بنا مما تردّينا فيه...؟! ويقدم بيجوفيتش إجابته ببساطة شديدة وهو يضع أصبعه على مصدر الداء حيث يقول: " لقد انشطرت وحدة الإسلام على يد أُنَاسٍ قَصَرُوا الإسلام على جانبه الديني المجرد فأهدروا وحدته [ثنائية القطب]، وكانت هي خاصيته التي ينفرد بها عن سائر الأديان .." لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية [لا حظ هنا سبب اهتمام الأمريكيين بالفرق الصوفية والموالد , والاهتمام الظاهر فى إنفاقهم على برامج تدريب الأئمة خلال وزارة الأوقاف]، والنتيجة الحتمية هى مانراه من تدهور أحوال المسلمين ، ذلك لأن المسلمين عندما يضعف نشاطهم ، وعندما يُهْمِلُون دَورَهم الحقيقي في هذا العالم ، ويتوقَّفُون عن التفاعلِ معه تصبح الدولة المسلمة كأي دولة أخرى، ويصبح تأثير الجانب الديني من الإسلام كتأثير أي دين آخر، وتصبح الدولة قوة عريانة لا تخدمُ إلا نفسها؛ وأقصد المهيمنين على السلطة والثروة فيها ، في حين يبدأ الدين (الذي أصبح خاملاً) يجرُّ المجتمع نحو السلبية والتخلُّف ، ويُشَكِّلُ الملوك والأمراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت وفِرَقُ الدراويش والصوفية والشعراء السكارى ، يُشَكْلُون جميعًا الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام [فى صميم وحدته].. وهنا نَعُود إلى المعادلة المسيحية : " أعطِ ما لقيصرَ لقيصرَ وما لله لله".. (الدين لله والوطن للجميع).. (لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين" ...! (6) لبيجوفيتش نظرات عميقة فى السلوك الإنساني، وفى طبائع البشر وفى أساليب التربية والتعليم وتأثيرهما على الأنفس والمجتمعات، فنراه مثلا يميز بين فكرتيْ التدريب والتنشئة حيث يقول: " تُحْدِثُ التنشئة تأثيرًا لطيفًا على نَفْسِ الإنسان لا يمكن قياسُه ، فالتنشئة فاعلية مباشرة تدخل إلى القلب عن طريق الحبِّ والقدوة والتسامح والعقاب ، بقصد إحداث نشاط جوّاني في نفْسِ الإنسان .. أما التدريب باعتباره حيوانيًا في جوهره فهو نظام من الإجراءات والأعمال تُتخذ لفرض سلوك معين على الكائن البشري ، يزعمون أنه السلوك الصحيح...! " ومن دقائق الفروق التى تميّز بين الفكرتين كما يلفت بيجوفيتش نظرنا إليها: "أن التنشئة تنتمي إلى الإنسان أما التدريب فإنه مصمم من أجل الحيوانات.. بواسطة التعليم يُمْكِنُ تشكيل مواطنين ِيطيعون القانون ليس بوازع من الاحترام بل بدافع من الخوف أو العادة ، وقد يكون ضميرهم ميتًا ومشاعرهم ذابلة، ولكنهم لا يخرقون القانون لمجرد أنهم تَدَرَّبوا على ذلك .. ونرى في الكتابات الأدبية شخصيات يزعمون أنها لمواطنين طاهري الذيل وهم في الحقيقة مُفَرَّغون من الأخلاق.. وشخصيات لأناس خاطئين هم في أعماقهم أخيار ونبلاء .." ويستخلص بيجوفيتش من هذا أنه يوجد نوعان من العدالة : عدالة الإنسان والعدالة الإلهية تنظر الأولى إلى الأعمال، أما الثانية فإنها تنظر إلى جوهر الوجود الإنساني بأكمله... وفى هذا السياق يضع بيجوفيتش يدنا على حقيقة مذهلة رغم واقعيتها حيث يقول" المساحة الجوانية للإنسان شاسعة تكاد تكون لا نهائية . فهو قادر على أبشع أنواع الجرائم وعلى أنبل التضحيات .. وليست عظمة الإنسان في أعماله الخيرة وإنما في قُدْرَتِه على الاختيار.. وكل من يُقَلِّلُ أو يحدُّ من هذه القدرة يحطُّ بقدر الإنسان ، فالخير لا يوجد خارج إرادة الإنسان ولا يُمْكِنُ فرضَه بالقوة { لا إكراه في الدين } .." وينتهى إلى تقرير هذه النتيجة:" أن التدريب حتى ولو كان يفرض السلوك الصحيح هو في أساسه لا أخلاقي ولا إنساني.." (7) أرجو ألا يختلط الأمر على القارئ فإن بيجوفيتش يناقش مفهوم التدريب فى إطار النظم الشيوعية القهرية التى كانت ترى أن تدريب الناس على السلوك الصحيح فى غياب الدين والقيم الأخلاقية أمر ممكن، وهو كل ما هو مطلوب لإنتاج كائنات صالحة مطيعة للنظام وللقانون، وعندما يظهر أناس متمردون على النظام ترسلهم إلى سيبيريا لإعادة تدريبهم فى معسكرات العمل القسريّ.. ولا تزال نظمنا الحاكمة تؤمن بهذه الفكرة ومن أجل هذا توسعت فى بناء المعتقلات والسجون وأنشأت قوانين الطوارئ والمحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين.. لا على سلوكهم فحسب ولكن على أفكارهم ومعتقداتهم .. وذلك لإعادة تدريبهم لكى يعودوا مواطنين صالحين...! وإذا كانت الكنيسة متهمة بمعاقبة المسيحيات اللاتى أسلمن .. وباحتجازهن فى سجون خاصة وحرمانهن من حرية اختيار المعتقد الدينى الذى اقتنعن به فلا غرابة فى ذلك.. لأن هذا بالضبط ما تفعله السلطات الحاكمة مع معارضيها .. ومن هنا جاء التوافق كاملا بين قيادات السلطة الحاكمة وبين مسلك الكنيسة، وكان من الطبيعى والمفهوم أن الدولة بهذا لا ترى أى عيب فى مسلك الكنيسة ولا فى قيامها بالتعذيب واستخدام الوسائل المحرّمة فى غسيل عقول الذين تخلّوا عن المسيحية واعتنقوا الإسلام، ولا ترى أى عيب فى القبض عليهم وتسليمهم لسلطة الكنيسة كما حدث مع السيدة كامليا شحاته، ووفاء قسطنطين وغيرهما [إن كُن لازلن على قيد الحياة، فإن استخدام المواد الكيماوية مثل أقراص الهلوسة وغيرها لا تدمر خلايا المخ فحسب وإنما تؤدى إلى الوفاة...!] أما الحديث عن القانون والدستور والعدالة فلن يغير من الأمر شيئا لأن سلطات الدولة هى أول من يخالف هذه المؤسسات ولاتعيرها احتراما، إلا من الناحية الشكلية والتصريحات الرسمية ، وفيما عدا هذا فكل شيء مستباح.. والكنيسة أول من يفهم هذه الحقيقة، وأول من يجيد استغلالها، وأول من يعلم أن أي قوة لها حصانتها ودعمها الخارجي وكتلتها الطائفية التى جرى تثويرها وتدريبها على التمرد المنظم والعنف على مدى عقود ، يمكنها أن تأخذ القانون فى يدها وتفعل ما تشاء كسلطة موازية للسلطة الحاكمة .. أما السؤال: إلى أي مصير إذن نحن متجهون..؟ فهذا أمر آخر...! طبعا علاقة السلطة بالكنيسة ليست بالبساطة التى تبدو عليها، وإنما لها أبعاد سياسية بعيدة الغور خصوصا فى إحداث توازنات القوة بين كتلة طائفية تبدو متمردة فى الظاهر (ولكنها تجد مصلحتها فى الالتحام بالنظام الحاكم وتدعيمه، وتتبنى توجّهاته إلى أبعد المدى)، وبين كتلة معارضة إسلامية هى الأقوى على الساحة السياسية والأخطر فى حسابات صناديق الانتخاب ...! المهم فى النهاية أن نقرر مع عزت بيجوفيتش أن حرية الاختيار التى تميّز بها الإنسان والتى فضله الله بها على بقية مخلوقاته .. والتى جعلها الله مدار المسئولية والحساب، هذه الحرية هى أعدى أعداء الدكتاتوريات القمعية والنظم الدينية المغلقة القائمة على القهر والتسلّط والاستعباد .. وهى الهدف الأول الذى تسعى هذه الدكتاتوريات وتلك النظم للقضاء عليه وتدميره ...! ولله الأمر من قبل ومن بعد... [email protected]