- 4 - الدين والعالم الحديث هذه المحاولة من إقبال تأتي في سياق المحاولات التي أرادت أن تدافع عن مكانة الدين في العالم الحديث، أمام تقدم وصعود الفلسفات الأوروبية الحديثة، التي أزاحت وقلصت مكانة الدين، وحددت له مساحات ضيقة لا تأثير لها إلا في المجال الفردي, وبصورة سطحية للغاية. وانتصرت في المقابل لمكانة العلم الذي أحلته مكان الدين، وجعلت منه وكأنه دين العصر الجديد، وبالغت كثيراً في تصوير هذه المكانة للعلم على حساب مكانة ومنزلة الدين. وقد أراد إقبال وهو يدافع عن مكانة الدين في العالم الحديث أن يستحضر الأقوال والمناقشات التي دارت في نطاق الفلسفات الأوروبية الحديثة حول جدلية العلاقة بين الدين والعلم، وبين الدين والفلسفة. وهذا ما يفسر عناية واهتمام إقبال بأفكار وتصورات المفكرين والفلاسفة الأوروبيين في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلامي» حيث كان يجد في نفسه الثقة والكفاءة في مناقشة هؤلاء الفلاسفة ومناظرتهم، وهو الذي تلقّى علومه الفلسفية منهم، وأنه لابد من مواجهة تلك الأفكار والتصورات لمن يريد أن يبرهن على مكانة الدين في العالم الحديث، خصوصاً وأن إقبال أراد توجيه خطابه حتى للأوروبيين أنفسهم. والجهد الذي بذله إقبال في تأكيد معارضة روح القرآن للفلسفة اليونانية، كان بقصد تأكيد القطيعة مع العالم القديم من جهة، وتأكيد التناغم مع العالم الحديث من جهة أخرى. وبالذات مع إشارته إلى أن الدين هو الذي نهض بالثورة العقلية التي أطاحت بالفلسفة اليونانية القديمة، وبذلك أذن بميلاد العالم الحديث. وبالتالي فإن الدين الذي ساهم في تشكيل أرضيات ميلاد العالم الحديث، لا يمكن له إلا أن يكون قادراً على مجارة هذا العالم والتناغم والتفاعل معه. ولا يصح التبرير إلى تلك المحاولات التي عملت على إقصاء مكانة الدين في العالم الحديث، تحت عناوين أن الدين ينتمي إلى العالم القديم، وأنه لم يعد قادراً على مواكبة العصر، وبعد أن حل العلم مكانه. ولهذه المهمة دعا إقبال إلى تجديد التفكير الديني ليكون الفكر الديني في مستوى مجاراة العالم الحديث، ومواكباً لتطوراته، ومستجيباً لمقتضياته، ومتفاعلاً مع معارفه. وفي نطاق هذه العلاقة بين الدين والعالم الحديث، حاول إقبال أن يلفت النظر إلى الأمور التالية: أولاً: الحذر من أن يندفع الإنسان المسلم والمثقف المسلم نحو الفلسفات والمرجعيات الأوروبية, التي كانت تتحرك بسرعة في العالم متحدية الحواجز والمسافات، ومهيمنة على مناخ العصر، ومؤثرة على اتجاهات المعرفة الإنسانية، وكونها أنها كانت تدعي دون غيرها امتلاك مفاتيح الحداثة والتمدن والتقدم, ولهذا فقد استطاعت هذه الفلسفات أن تؤثر بقوة وعلى نطاق واسع في العالم. وقد كان إقبال شديد الوعي والإدراك بقوة تأثير هذه الفلسفات، لكن في اعتقاده أن أوروبا إذا كانت قد أقامت نظماً مثالية في العصر الحديث، فالتجربة بيّنت كما يقول، أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض, فإنه لا قدرة له على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها. ثانياً: اعتبر إقبال أن هناك أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية، وقد أصبح العالم مفتقراً إلى تجديد بسيولوجي، وأن أوروبا باتت أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان. لهذا فإن الدين في نظر إقبال هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري, إعداداً أخلاقياً يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادراً على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء. فالسمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء، وإلى أين المصير، هو وحده الذي يكفل آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية، بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية(12). ثالثاً: إن أول مسألة حاول إقبال معالجتها في كتابه، هي طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، وحددها بالسؤال التالي: هل من الممكن أن نستخدم في مباحث الدين المنهج العقلي البحت للفلسفة؟ وآخر مسألة عالجها في الكتاب نفسه هل أن الدين أمر ممكن؟ فالفلسفة التي كانت تمثل روح العالم الحديث هل أنها جاءت لكي تتغلب وتنتصر على الدين، بوصفها كما تدعي تمثل مرحلة متقدمة عليه في مسار تطور الفكر الإنساني، وبوصف الدين في اعتقادها يمثل مرحلة بدائية أو سابقة لمرحلة ما قبل انبعاث وميلاد الفلسفة؟ وبالتالي لا مكان للدين في عصر الفلسفة التي هي مرحلة العقل. ولا مكان له في المسائل الكبرى المتصلة بمجالات الحداثة والتمدن والتقدم، ومجالات بناء وتكوين المجتمع والدولة والأمة، وهذا ما حاولت تحقيقه العلمانية التي انتصرت في الغرب بالاستناد إلى مرجعيات الفلسفة هناك. وقد أراد إقبال أن يجادل في هذه المسألة، ويفتح حولها نقاشاً مختلفاً، ويفك الحصار عنها، ليقدم قراءة من فضاء ثقافي مختلف، ولكي يبرهن على أن الدين أمر ممكن، بل وضروري في العالم الحديث. وحين يريد إقبال أن يفرق بين روح الفلسفة وروح الدين، يرى أن روح الفلسفة هي روح البحث الحر، حيث تضع الفلسفة كل سند موضع الشك، ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها، وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار، أو إلى الإقرار في صراحة بعجز التفكير العقلي البحت عن اكتناه الحقيقة القصوى. وبعكس الفلسفة فإن جوهر الدين في نظر إقبال هو الإيمان. وهذا لا يعني في نظره أن الدين ليس بحاجة إلى الفلسفة، بل إن الدين ونظراً لوظيفته أشد حاجة حتى من المبادئ العلمية المسلّمة، إلى أساس عقلي لمبادئه الأساسية. فقد يتجاهل العلم الإلهيات التي تعتمد على العقل، بل لقد تجاهلها حتى الآن، ولكن الدين لا يكاد يستغني عن السعي إلى التوفيق بين المتضادات التي نجدها في عالم التجربة، وعن تعليل يبرر أحوال البيئة التي تجد الإنسانية نفسها محاطة بها، ويستشهد إقبال بمقولة المفكر الإنجليزي هويتهد بقوله: إن عصور الإيمان هي عصور النظر العقلي(13). وليس المقصود من النظر العقلي في الإيمان كما يعقب إقبال التسليم بتعالي الفلسفة على الدين، وإذا كان للفلسفة حق الحكم على الدين، فإن طبيعة ما يراد الحكم عليه في رأي إقبال لن يذعن لحكم الفلسفة، إلا إذا كان هذا الحكم قائماً على أساس ما يضعه هو من شرائط. وعندما تتهيأ الفلسفة للحكم على الدين، فإنها لا تستطيع أن تفرد له مرتبة دنيا بين الموضوعات التي تتناولها؛ لأن الدين كما يضيف إقبال ليس أمراً جزئياً، وليس فكراً مجرداً فحسب، ولا شعوراً مجرداً، ولا عملاً مجرداً، بل هو تعبير عن الإنسان كله، ولا مناص للفلسفة من التسليم بأن للدين شأناً جوهرياً في التأليف بين ذلك كله تأليفاً يقوم على التفكير(14). وليست الفلسفة هي غاية ما يريد أن ينتهي إليه إقبال كما حاول المفكرون الأوروبيون جاهدون، فهناك ما هو أسمى من الفلسفة عند إقبال وهو الدين. وبعد أن بذل إقبال جهداً في الاستدلال بالبراهين الفلسفية على ظهور التجربة الدينية، ختم كلامه بالقول: ولكن مطمح الدين يسمو فوق مطلب الفلسفة، فالفلسفة نظر عقلي في الأشياء، وهي بهذا الوصف لا يهمها أن تذهب إلى أبعد من تصور يستطيع أن يرد كل ما للتجربة من صور خصبة إلى نظام أو منهج، فهي كأنها ترى الحقيقة عن بعد. أما الدين فيهدف إلى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق، فالفلسفة نظريات، أما الدين فتجربة حية، ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته(15). رابعاً: من المكونات الأساسية في فلسفة إقبال، الدفاع عن النزعة الروحية التي حاولت النزعة العقلية في الفلسفات الأوروبية الحديثة تجفيف منابعها. ويمكن تصنيف فلسفة إقبال على الفلسفات التي لها طبيعة روحية. وبهذه النزعة الروحية تميز إقبال عن الفلاسفة الأوروبيين، وأظهر استقلاله عنهم، وبهذه النزعة أيضاً حاول إقبال التأثير في الفلسفات الأوروبية التي فقدت توازنها في نظره حين تخلت عن النزعة الروحية، وأظهرت موقفاً سلبياً منها سعياً نحو تحقيق انتصار نهائي وحاسم للعقل. وبخلاف هذا الموقف فإن إقبال يرى أن هناك ما هو أسمى من العقل يمكن أن يصل إليه الإنسان، وهو ذلك البعد الذي يتصل بالمعنويات وبالتجربة الروحية والشعورية عند الإنسان. لهذا فقد ظل إقبال يلفت النظر باستمرار إلى تلك النزعة الروحية، وهو يتنقل بين الموضوعات والقضايا التي عالجها في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) فحين يتحدث عن الطبيعة والعلوم الطبيعية فإنه يضفي عليها معنى روحياً، فالعلم بالطبيعة كما يقول هو علم بسنة الله، ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة، وما هذا إلا صورة أخرى من صور العبادة. وَأَنَّ إلَى رَبِّكَويرى إقبال في قوله تعالى: (16)، فإن هذه الآية في نظره تنطوي على فكرة هي من أعمقالْمُنتَهَى الأفكار التي وردت في القرآن الكريم، لأنها تشير على وجه قاطع إلى أن المنتهى الأخير يجب ألا يبحث عنه في حركة الأفلاك، وإنما يبحث عنه في وجود كوني روحاني لا نهاية له، ورحلة العقل إلى هذا المنتهى الأخير رحلة طويلة وشاقة، وفي هذا المنزع يبدو أن التفكير الإسلامي قد اتجه اتجاهاً مبايناً لاتجاه التفكير اليوناني كل المباينة(17). وحين يتحدث عن فكرة الحياة الإنسانية، وطبيعة الرابطة بين الناس، يقول إقبال: إن الإسلام يرفض اعتبار قرابة الدم أساساً لوحدة الإنسانية، لأن قرابة الدم عنده أصلها مادي مرتبط بالأرض، ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعاً روحية في أصلها ومنشئها، وهذا الذي ييسر للإنسان أن يحرر نفسه من أسر الروابط المادية(18). وعندما يقترب إقبال من الحديث عن مفهوم الدولة في الإسلام، يرى أنها ليست إلا محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني، وحتى الديموقراطية أعطاها إقبال وصف الديموقراطية الروحية، وهذا ما لم أسمعه من قبل إلا عند إقبال، حيث اعتبرها منتهى غاية الإسلام ومقصده. وهكذا عندما يوجه إقبال حديثه إلى الإنسانية كافة، وما تحتاج إليه اليوم في نظره يركز في هذه الحاجات على الأبعاد الروحية، حيث تحتاج إلى ثلاثة أمور كما يقول: إلى تأويل الكون تأويلاً روحياً، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي. وما يريد أن ينتهي إليه إقبال هو إعادة التوازن المفقود بين فلسفة الغرب وفلسفة الشرق. فلسفة الغرب التي انحازت كلياً إلى العقل وظلت بحاجة إلى النزعة الروحية لاكتساب التوازن. وفلسفة الشرق التي لها طبيعة روحية، وهي بحاجة إلى النزعة العقلية لاكتساب التوازن أيضاً. كما أراد إقبال الكشف عمَّا يفتقد إليه العالم الحديث، وهو البعد الروحي الذي منبعه الدين، لكي يكتسب الإنسان قوة المعنى بذاته، ويواجه أسئلة المصير، ويضفي جمالية الروح على العلاقات مع الناس. - 5 - مبدأ الحركة في تجديد التفكير الديني بعد أن ظل إقبال يناقض ويحاجج أفكار الفلاسفة الأوروبيين ومقولاتهم، وهو يدافع عن الأفكار الإسلامية، وعن مكانة الدين في العالم الحديث، أخذ ينتقل بتساؤلاته ومناقشاته إلى داخل الفكر الديني الإسلامي نفسه، باحثاً ومحللاً العوامل والأسباب الفكرية والتاريخية التي أوصلت العالم الإسلامي إلى حالة الركود والجمود، ومتسائلاً عن مبدأ الحركة في بناء نظام الإسلام، وهل أن شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ هنا يقترب إقبال من جوهر محاولته في تجديد التفكير الديني ليقدم تأملاته الفلسفية المبكرة في هذا الشأن، ويفتح أمام الفكر الإسلامي آفاق النظر في مثل هذا الموضوع الذي لا يخلو من حساسية وتعقيد. ولا شك في أهمية وقيمة التأملات التي أثارها إقبال في هذا المجال، فهي تمثل إضافة لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها لأي محاولة تتصدى لمهمة تجديد الفكر الديني. والأسباب التي أوصلت الفكر الديني التشريعي إلى حالة الجمود، هي في نظر إقبال ترجع إلى ثلاثة أسباب فكرية وتاريخية، هي: أولاً: تعثر وفشل الحركة العقلية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية نتيجة ما أثارته من خلافات مريرة، كالخلاف الذي ظهر حول خلق القرآن. فلم يكن واضحاً في نظر إقبال البواعث الحقيقية لهذه الحركة العقلية من ناحية، ومغالاة بعض العقليين في أفكارهم من دون قيد من ناحية أخرى. الوضع الذي جعل أهل السنة كما يقول إقبال يعتبرون هذه الحركة عاملاً من عوامل الانحلال، ويعدونها خطراً على استقرار الإسلام من حيث هو دستور اجتماعي، فأصبح الهم الرئيس هو الإبقاء على الوحدة الاجتماعية الإسلامية. ولم يكن لهم من سبيل لتحقيق ذلك إلا استخدام ما للشريعة من قوة مقيِّدة ملزمة، والاحتفاظ ببناء نظامهم التشريعي على أدق صورة ممكنة. ثانياً: ظهور التصوف ونموه متأثراً في تطوره التدريجي بطابع نظري بحت وغير إسلامي. حيث مثل التصوف في نظر إقبال صورة التفكير الحر، وعلى وفاق مع الحركة العقلية، حيث خلق بإصراره على التفرقة بين الظاهر والباطن, نزعة من عدم المبالاة بكل ما يتصل بالظاهر دون الباطن، فحجب أنظار الناس عن ناحية هامة من نواحي الإسلام بوصفه دستوراً اجتماعياً. ولمواجهة هذا الوضع وجد جمهور المسلمين أن خير ضمان لهم هو اتباع المذاهب في تسليم أعمى على حد وصف إقبال. ثالثاً: تخريب بغداد, وهي مركز الحياة الإسلامية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، حيث مثل تدميرها نكبة فادحة يصفها جميع المؤرخين الذين عاصروا غزو التتار بخوف مهووس على مستقبل الإسلام. وكان من الطبيعي كما يقول إقبال في مثل هذا العصر من الانحلال السياسي أن يخشى رجال الفكر من المحافظين وقوع انحلال آخر، فركزوا جهودهم كلها في أمر واحد هو الاحتفاظ بحياة اجتماعية مطردة واحدة للناس جميعاً، وأبدوا في سبيل ذلك غيرة شديدة فأنكروا كل تجديد في أحكام الفقه التي وضعها الرعيل الأول من الفقهاء، وحفظ النظام الاجتماعي كان بيت القصيد في تفكيرهم. وحين يتساءل إقبال من أين تبدأ الحركة في بناء الإسلام؟ يجيب أن مبدأ الحركة في الإسلام هي في الاجتهاد. والاجتهاد الذي يدعو إليه إقبال هو الاجتهاد المطلق, أي الاجتهاد الذي يعطي الحق الكامل في التشريع. وهذا النوع من الاجتهاد كما يقول إقبال سلم به أهل السنة من ناحية إمكانه النظري، ولكنهم أنكروا دائماً تطبيقه العملي منذ وضعت المذاهب، ذلك لأن الاجتهاد الكامل أحيط بشروط يكاد يستحيل توافرها في فرد واحد. ويرى إقبال أن العالم الإسلامي لكي ينهض بمهمة التجديد ويتخلص من رواسب الجمود بحاجة إلى الاجتهاد المطلق. ذلك لأن أحوال العالم الإسلامي في نظر إقبال قد تغيرت بصورة جذرية في عصره، مما أوجب الحاجة من جديد إلى الاجتهاد المطلق، وبواعث هذه الحاجة في نظره، هي: 1 أن العالم الإسلامي أصبح يتأثر بما يواجهه من قوى جديدة أطلقها من عقالها تطور الفكر الإنساني تطوراً عظيماً في جميع مناحيه. 2 أن أصحاب المذاهب الفقهية أنفسهم لم يدَّعوا أن تفسيرهم للأمور, واستنباطهم للأحكام هو آخر كلمة تقال فيها، وأنهم لم يزعموا هذا أبداً. 3 أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيراً جديداً على ضوء تجاربهم، وعلى هدي ما تقلب حياة العصر من أحوال متغيرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ. 4 حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج, يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه، من دون أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته الخاصة(19). وعندما يريد إقبال أن يثبت حقيقة قابلية الشريعة الإسلامية للتطور، يقول: إن التعمق في درس كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد، لابد من أن يجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي على حد وصفه, الذي يرى بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور، وهكذا عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها، وما ثار حولها من ظلال، فإن ذلك الجمود المزعوم يتبخر، ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد. وهذا ما حاول إقبال إثباته والكشف عنه، عندما أراد مناقشة تلك الأصول، مبرهناً كيف أن هذه الأصول تتناغم وفكرة التطور، وكيف أنها تستجيب لتطور الفكر الإنساني في المجتمع المعاصر. ومما جاء في هذه المناقشة لأصول الفقه، ما يلي: أولاً: القرآن. وهو الأصل الأول للشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسي في نظر إقبال أن يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله، وبينه وبين الكون من صلات. وليس من شك أيضاً أن القرآن يقرر بعض المبادئ والأحكام العامة في التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بنظام الأسرة التي هي الركن الركين للحياة الاجتماعية. والقرآن الذي يعتبر الكون متغيراً لا يمكن أن يكون خصماً لفكرة التطور، على أنه ينبغي حسب قول إقبال ألا ننسى أن الوجود ليس تغيراً صرفاً فحسب، ولكنه ينطوي أيضاً على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم. والمبادئ التشريعية الرحبة والواسعة في القرآن, هي أبعد ما تكون عن سد الطريق على التفكير الإنساني والنشاط التشريعي، وهي في حقيقة الأمر كما يقول إقبال تعمل كمنبهٍ للفكر الإنساني. وما يخلص إليه إقبال في هذا الأصل، لو أننا درسنا شريعتنا بالنسبة للانقلاب المنتظر في الحياة الاقتصادية الحديثة، فإن من المرجح أن نكشف في أصول التشريع عن نواحٍ جديدة لم تُكشف لنا بعد، مما يمكننا أن نطبقه بإيمان متجدد بحكمة هذه المبادئ. ثانياً: الحديث. وهو الأصل الثاني للشريعة الإسلامية، وفي نظر إقبال أن رجال الحديث قد أدوا أجل خدمة للشريعة الإسلامية بنزوعهم عن التفكير النظري المجرد, إلى مراعاة ما للأحوال الواقعة من شأن. ولو أننا واصلنا كما يضيف إقبال دراسة ما كتب عن الحديث, وعنينا بتقصي ما تدل عليه الآثار, من الروح التي كان يفسر النبي بها رسالته فقد تنجلي هذه الدراسة عن فائدة كبرى, في فهم قيمة الحياة لمبادئ التشريع التي صرح بها القرآن. وهذا الفهم وحده هو الذي يعنينا عندما نحاول تأويل أصول التشريع تأويلاً جديداً. ثالثاً: الإجماع. وهو في نظر إقبال قد يكون من أهم الأفكار التشريعية في الإسلام. ومن الغريب أن يشتد الخلاف حول هذه الفكرة الهامة في صدر الإسلام، حيث أثارت الكثير من الجدل العلمي، وظلت مجرد فكرة لا غير تقريباً، وقلما اتخذت شكل نظام دائم في أي بلد من بلاد الإسلام. ولعل تحول الإجماع إلى نظام تشريعي ثابت كما يضيف إقبال, كان يتعارض مع المصالح السياسية للحكم المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد عهد الخليفة الرابع مباشرة. وما يبعث على الارتياح التام على حد قول إقبال, أن نجد ضغط العوامل العالمية الجديدة، وتجارب الشعوب الأوروبية في السياسة, قد جعلت تفكير المسلمين في العصر الحديث يتأثر بما لفكرة الإجماع من قيمة وما تنطوي عليه من إمكانيات. إن نمو الروح الجمهورية في البلاد الإسلامية وقيام جمعيات تشريعية فيها بالتدريج, خطوة عظيمة في سبيل التقدم. ولما كانت الفرق المتعارضة تكثر وتزداد مما جعل انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب إلى هيئة تشريعية إسلامية, هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة، فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين، ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة, وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط فيما خيّم على نظمنا التشريعية من سبات، ونسير بها في طريق التطور. رابعاً: القياس. يبدو عند إقبال أن فقهاء الحنفية ونظراً لاختلاف الأصول الاجتماعية والزراعية التي كانت سائدة في البلاد التي فتحها المسلمون، لم يجدوا بصفة عامة الحالات المدونة في كتب السنة شيئاً يهتدون به، أو وجدوا من ذلك شيئاً قليلاً، فلم يكن أمامهم من سبيل سوى تحكيم العقل في الفتيا. وأوحت الأحوال التي استجدت في العراق بتطبيق منطق أرسطو، وإن كان قد ثبت أن هذا المنطق كان بالغ الضرر حسب نظر إقبال في المراحل الأولى لتطور التشريع؛ لأنه لو نظرنا إلى سير الحياة بمنظار المنطق الأرسطي لبدأ آلياً بحتاً ليس له في ذاته أصل يبعث فيه الحياة والحركة. وهكذا اتجه مذهب أبي حنيفة والكلام لإقبال إلى تجاهل ما للحياة من حرية مبدعة، وما فيها من تحكم، وأمّل في أن يقيم على أساس من التفكير النظري المجرد نظاماً تشريعياً منطقياً كاملاً. أمام هذا المسلك قدم علماء الأصول في الحجاز كما يقول إقبال, اعتراضات قوية على الدقائق الفقهية التي أثارها فقهاء العراق، وعلى ما نزعوا إليه من تخيل أحوال لا تمت إلى الواقع بسبب. ورأى علماء الحجاز أن هذه الأحوال المتخيلة لابد من أن تنتهي بالفقه الإسلامي إلى نوع من آلية لا حياة فيها. وقد وجد إقبال أن هذه الخلافات المريرة بين المتقدمين من فقهاء الإسلام كان من أثرها، أن محصت تعريف القياس وحدوده وشروطه وإصلاحاته(20). بعد هذا العرض يرى إقبال أنه ليس في أصول تشريعنا، ولا في بناء مذاهبنا ما يسوغ النزعة الحاضرة حسب قوله، وهي نزعة ما قبل التجديد. هذه لعلها أبرز التأملات والأفكار والسياقات التي تعبر عن رؤية وفلسفة إقبال في تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني في الإسلام.