محمود بركة تبحث الصورة عن لحظة لإيقاف الزمن، وكتابة الحقيقة المفتوحة في أوقات أصبحت معها الآلام، والفرح الغائب، هي سيّرة الفلسطيني وعنوان رحلته في الأرض المحتلة، ذاكرة تاريخ حيّ تخلّد نضاله العربي في وجدان الأجيال بالكلمة والصوت والصورة، وسيّر من عبروا طريق الحرية الصحيح. إبراهيم عصام، من مواليد مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، سافر إلى أوكرانيا لدراسة العلاقات الدولية لكنه عاد إلى غزة ليحقق حلمه الفني حيث شغفه الأساسي بصناعة الأفلام والرسوم المتحركة ولم يوقف سعيه الحرب الأخيرة المستمرة منذ أكتوبر 2023 فلجأ إلى الكاميرا: عين مفتوحة، تحلم وتحب وتناضل في مساحة بين شاطىء البحر من الشمال، مروراً بالمحافظة الوسطى المعروفة بالنخيل والزيتون، وصولاً إلى الجنوب. ترصد عدسته زمنًا تحاصره الإبادة، والجوع والعطش، والكلام المهزوم بصمت رهيب. في تلقائية لا تحتاج إلى عمليات تجميل البلاغة، تكتب عدسة المصور الفعل مستحضراً زمن الصورة، إذ تتحرك الكاميرا رغم الصعوبات في أوقات النزوح بحثًا عن إجابة السؤال: متى تنتهى الحرب؟ متى تعود المدينة إلى لحظة تخلو من أصوات الطائرات والقصف والمدافع المدوية منذ أكثر من سنة وستة أشهر؟ إبراهيم عصام أخرج وأنتج عددًا من المسرحيات في فلسطين، عمل كمدرب للأطفال في صناعة الرسوم المتحركة، كتبَ عناوين غزة وأحلامها، يروي المشهد بالصورة ليقطر منها خلاصة الحياة الفلسطينية. أنجز إبراهيم خلال رحلته قبل زمن الحرب الأخيرة شريطًا فنيًا من الصور توثيقًا لحركة الناس، حيث أنتج أربعة أفلام وثائقية منها فيلمه « كم كنت وحدك» شارك في المهرجان الدولي للفيلم القصير بتونس، ومهرجان نابل الدولي للسينما العربية. استمر إبراهيم عصام في إنجاز لوحات تعيد تأكيد المعنى «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» لتعطي تعرّيفًا واقعيًا لم تكن غايته الفُرجة بل يستدعي الانتباه وكتابة صورة تخّلد الأثر الإنساني بعدما صار المحو هدف الاحتلال الممنهج منذ بدايات حرب التدمير والإبادة. سافر إبراهيم عصام إلى القاهرة، مشاركاً بفيلم «لا داعي للقلق» خلال المهرجان الدولي لذوي القدرات الخاصة، وساهم داخل قطاع غزة بالعديد من دورات تعليم وتدريب الأطفال لإعطائهم فرصة التعرف على الصورة، وما تفعله الكاميرا من محاكاة الواقع، فتح للأطفال «أستوديو أحلامهم» يرافقهم ويبحث عنهم، حتى بعدما هجروا بيوتهم بحثًا عن النجاة. وجد إبراهيم عصام في الكاميرا رفيقه الوفي، مساحته الحرة ومكانه الخاص، الحوار مع المشهد في كل صورة يُسجلها، تتبع عيناه حركة الصورة، وإذا توقف الزمن المحاصر بالموت والإبادة، لم يكن إبراهيم عصام يتوقف عن التصوير، فالوقت قصير وسريع، رغم المعاناة لتوثيق مشاهد الغروب الذي يحبه ويذهب إليه في المساء باحثاً عن صورة نهاية اليوم ونوم الشمس. قبل الحرب بعامين، اقتطع إبراهيم عصام جزءًا من بيته في مدينة غزة، أسس ستوديو للتدريب والإنتاج السينمائي، ساعياً للمساهمة بتوفير دورات تدريبية لفنون السيناريو والمونتاج، على أمل وصوله لإنتاج أفلام مستقلة، فجاءت الحرب، حطمت هذا العمل والحلم بعد قصف وتدمير الأستوديو الذي طالما عمل لأجله. من الحلم المفقود في الحرب، إلى النزوح جنوبغزة، والكاميرا رفيق رحلته. يسجل الأوجه الصامتة والمتحركة، على كل وجه خطابات لا تنتهي، في كل عين مساحة لرؤية ما يدور في فلك الأرواح والأجساد المُتعبة من الحرب والجوع والنزوح والفقد. الصورة بينه وبين الاَخرين تتم دون إنتباه واستعداد، تستنطق وجوهاً لا وقت عند أصحابها غير البحث عن تدابير الحياة وحماية وجودهم. سجلت كاميرا إبراهيم عصام زوايا مختلفة وما يمكن تسميته «النشيد الجسدي» من خلاله رصد ما يحدث دون الحاجة لاستدعاء نظريات ما لقراءة المكان والزمن، في نقاش فني يحمل صوت الراحلين ومن على قيد البقاء، تنظر إلى الصور، لتتعرف على الوجه الفلسطيني الملتصق بالأرض والإرث، أصل السردية بين الناس والبلاد، ليضيف بعمله سيرة إضافية في معرفة الوطن. ساعدتني رحلة إبراهيم عصام التسجيلية بصورها الثابتة والمتحركة الملتقطة وقت الحرب في غزة، لتستعيد ذاكرتي ما رأيته قبل سنوات بعيدة، في فصل الربيع خلال أوقات حصار فرضه الاحتلال يمنع الخروج من البيوت، لكن يومًا خرج الناس ليلاً بعد رؤيتهم الأنوار تحمل ألوان الأحمر والأخضر والأزرق. كنت طفلاً في ذلك الوقت، سألت جدتي: ما هذا الضوء الذي يخرج من تحت التراب وجذور الزيتون؟ قالت «هذه دماء الشهداء» وذكرتْ أسماء من استشهد وتاريخ استشهاده، وعندما تعرفت على إبراهيم عصام مع بداية الحرب من خلال اللحظات والمشاهد التي يجسدها، رأيته يرسم بعدسته اللون والضوء نفسيهما رغم عتمة الحرب والإبادة القاتلة، سجل مشاهد لأطفال تسكن الخيام، وتابعها في لحظات ألم البحث عن الطعام والماء والدواء، صوّر بعدسة أرهقها صوت الحرب وجوهًا تصيغ الألوان في لحظات الخوف والتعب والوحدة. قال لي إبراهيم عصام: في بداية الحرب ومع الإنشغال بهموم الأسرة وطوابير الخبز والماء، أصابني الإحباط، توقفت عن التصوير لفترة لعدم استطاعتي تصوير مشاهد المجازر والدماء التي لا تتوقف، أصدقائي خارج فلسطين ساندوا بالتشجيع عودتي للتصوير، ذهبت بالفعل حاملاً الكاميرا إلى شاطىء بحر غزة وغروب الشمس، رغم الانتقادات «أنني مفصول عن الواقع» لكن ومع الجرح في القلب فأني أحمل أيضًا صورة وذاكرة لمدينة جميلة أحببت، وسط الحرب والتدمير، التمسك بالاحتفاظ بجمالياتها ودهشتها». ما يقوله إبراهيم يؤكد على حب الفلسطيني للحياة ومحاولاته انتزاع لحظات الفرح وسط الإبادة. لهذا استمر مصورنا في البحث عن الأطفال والتركيز على لقطات لوجوههم، يقول: «لأنهم يحملون إيماءات حقيقية يستطيع المشاهد عبرها قراءة ما تحمله هذه الأوجه من تعب العيش تحت الحرب، وما تحمله من تطلعات الحياة». لعل رؤيته تلمس ضمير العالم. ستروي ذاكرة الأجيال ما حدث في سنوات الحرب من خلال الصور، كما كنّا نسمع في سنوات سابقة حكايات من الأباء والكبار عن سنوات الحروب، والبقاء سيكون لمن يحافظ على قوة القصة والحكاية وميراث وطنه، كما فعل إبراهيم عصام عبر صوره التي تطارد الزمن المفقود في غزة.