سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    عصام العرجاني باحتفالية مجلس القبائل: شكرا للرئيس السيسى على التنمية في سيناء    اللواء عادل العمدة: لولا الشهداء ما استطعنا استرداد الأرض والكرامة    منسق مبادرة المقاطعة: الحملة تشمل الأسماك واللحوم والدواجن بسبب جشع التجار    أخبار الاقتصاد اليوم: تراجع أسعار الذهب.. وتوقف محافظ الكاش عن العمل في هذا التوقيت.. ارتفاع عجز الميزان التجاري الأمريكي    البنتاجون: الولايات المتحدة بدأت بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات    شوبير يحرس مرمي الأهلي أمام مازيمبى    محافظ الإسكندرية يستقبل الملك أحمد فؤاد الثاني في ستاد الإسكندرية (صور)    عضو «مجلس الأهلي» ينتقد التوقيت الصيفي: «فين المنطق؟»    «اِنْتزَعت بعض أحشائه».. استجواب المتهمين في واقعة العثور على جثمان طفل في شقة بشبرا    «ليه موبايلك مش هيقدم الساعة».. سر رفض هاتفك لضبط التوقيت الصيفي تلقائيا    بيان من النيابة العامة في واقعة العثور على جثة طفل داخل شقة بالقليوبية    بحوث ودراسات الإعلام يشارك بمؤتمر «الثقافة الإعلامية من أجل السلام العالمي»    4 أبراج فلكية يحب مواليدها فصل الصيف.. «بينتظرونه بفارغ الصبر»    محمد الباز: يجب وضع ضوابط محددة لتغطية جنازات وأفراح المشاهير    لهذا السبب.. مصطفى خاطر يتذكر الفنان الراحل محمد البطاوي    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: هذا ما ينقص الزمالك والأهلي في بطولات أفريقيا    رئيس المنتدى الزراعي العربي: التغير المناخي ظاهرة عالمية مرعبة    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    بيان مهم للقوات المسلحة المغربية بشأن مركب هجرة غير شرعية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    جوائزها 100ألف جنيه.. الأوقاف تطلق مسابقة بحثية علمية بالتعاون مع قضايا الدولة    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    هل الشمام يهيج القولون؟    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    هشام نصر يجتمع مع فريق اليد بالزمالك قبل صدام نصف نهائي كأس الكؤوس    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    إدريس: منح مصر استضافة كأس العالم للأندية لليد والعظماء السبع أمر يدعو للفخر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    هل تحتسب صلاة الجماعة لمن أدرك التشهد الأخير؟ اعرف آراء الفقهاء    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    النيابة العامة في الجيزة تحقق في اندلاع حريق داخل مصنع المسابك بالوراق    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة بأطفيح    الرئيس السيسي: خضنا حربا شرسة ضد الإرهاب وكفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    التجهيزات النهائية لتشغيل 5 محطات جديدة في الخط الثالث للمترو    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مهرجان الإسماعيلية.. السؤال السينمائي للفيلم الوثائقي
نشر في أخبار السيارات يوم 27 - 04 - 2019

»نحنا منا أميرات»‬ (2018، 75 دقيقة) للسورية عتاب عزام والإنجليزية بريدجيت أوجير، هو الفيلم الذي افتتح الدورة ال21 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، يحكي عن لاجئات سوريات في بيروت، لا يقترب مباشرة من أجواء الحرب في سوريا؛ لكنه يتطرق إلي أصدائها وتأثيراتها علي نساء اضطرتهن هذه الحرب إلي الرحيل عن وطنهن، وصار الاغتراب شوكة في القلب ووجع يغمدنه بالانخراط في حاضرهم الجديد.
يتابع الفيلم هؤلاء النسوة غريبات الدار، غير المستسلمات للانكسار، فيما كل واحدة منهن تغير شيء ما في شخصيتها مع تبدل الحال والمكان، إذ انسلخن عن قديمهن وتحولن إلي نموذج للاحتجاج، يتقن المواجهة ولا يقبل العودة إلي الوراء، إحداهن تقول أنها إذا عادت إلي سوريا لن تعيش كما كانت من قبل، فقد صارت أقوي مثل »‬أنتيجون» بطلة الأسطورة الإغريقية ومسرحية سوفوكليس (497 406 قبل الميلاد)، التي يتدربن عليها مع »‬منظمة أوبن أرت» التي أقامت ورشة للمسرح كنوع من دعم اللاجئات السوريات، تتقاطع حالة »‬أنتيجون» وتتوازي مع واقعهن في تفاصيل كثيرة، تظهر في رواية كل واحدة منهن لحكايتها فصاحة رحبة تليق بحضورها الجديد، هن لسن أميرات مثل أنتيجون؛ لكن هذا لم يمنع أن تتمازج الحكايات بين المعيشة اليومية وبين تدريباتهن المسرحية وصورة أنتيجون التي تلبستهن بشكل أو آخر، هذه الشخصية الأسطورية التي طوقتها عذابات الحرب بين أخويها وتكبدتها حتي بعد موتهما، المرأة التي ترفض قرار الملك بعدم دفن أخيها وتموت شهيدة تشبثها بيقينها، تتماس معهن وتفسر ما حدث لهن في حرب تخاصم وتقاتل فيها أبناء الأرض الواحدة، فوجدن أنفسهن ممزقات بين المتحاربين؛ هذا غير الفزع والنزوح والشتات، لكنهن هنا لا يمتن ولا يدفنن أحياء، بل يولدن قويات، محصنات بروح أنتيجون شديدة البأس في دنيا مغايرة، لا يفتن فيها الماضي؛ وإنما يذهبن إلي المستقبل بعناد الصامدين، مثل فتاة ال»‬راب»، تغنيه وتتمثل بإيقاعه غير الملتزم بلحن، تتخاتل بكلمات الأغاني في المساحة بين التحدي والاستحياء، بنفس الطريقة التي تستعرض فيها حذائها ذو الكعب العالي الذي لازمها في رحلة هروبها إلي لبنان، بعد ما اندلعت الأحداث أثناء زيارتها لجدها، وظلت ترتديه وتتحمل الألم ساعات طويلة علي الحدود، فلم تكن مستعدة لهذه الرحلة وكذلك لم تمتلك حذاء غيره، لذا لم تتخل عنه وتحتفظ به لترتديه في رحلة عودتها المأمولة إلي الديار، كرد فعل يأتلف مع التصدي والرفض لحرب فرضت عليها، قد يكون الحذاء ذكري لوجع غالب ولكن وجوده في نفس الوقت ضروري حتي لا يتحجر القلب، ومثل »‬فدوي» التي تجابه عبث الحياة بابتسامتها الساخرة، تذهب إلي السينما وتتدرب في المسرح وتستعيد ذكرياتها القديمة، ثم تسجل لحظتها القاسية عندما فقدت ابنها ولم تستطع دفنها.
حديث نساء الفيلم المغلف بتراجيديا الحرب وسطوتها الباطنية وبانفعالات متباينة، ربما يؤدي إلي تطهر النفس وإنارتها، لكن هل يستطيع وحده أن يكون كافياً للولوج إلي عالم الصورة؟ هل يتحرر من الأنماط التقليدية؟.. إن الحكايات توالت في الفيلم عبر بناء سردي لم يأخذ شكلاً ينسجم مع فكرته الدرامية، كانت أقرب إلي التقرير الصحفي علي الرغم من حداثة فكرته ومن مشاهد الرسوم المتحركة التي كانت بديلاً لحضور سيدات أخريات، لم يحظين بالظهور علي الشاشة بسبب معارضة الأهل، أو مشاهد البروفات المسرحية أو التفاصيل المنزلية، فالفيلم مال إلي الشكل التليفزيوني الكلاسيكي؛ مقابلات تليفزيونية وكلام متتابع لا يلتقط منه المتفرج ما وراء الحكي أو التماهي مع أسطورة »‬أنتيجون»، فالتواصل بين نساء الفيلم والبطلة الإغريقية لم يتجاوز كلاماً غير مغري للإطراد والاستمرارية في الفرجة، هناك ثقل في الصورة المغرمة بتسجيل الكلام دون تغلغل في المعني وإنارته، ليس هناك ما يثير أكثر من فكرة عامة؛ ظاهرياً هي أخاذة وجاذبة إلي التلاقي والتباين بين عالم أنتيجون والمرأة السورية اللاجئة، لكن تنفيذ الفكرة كما قدمها الفيلم أثارت الملل بسبب فقدانه للحساسية السينمائية في أغلبه، بنفس المغزي جاء الفيلم الوثائقي القصير الحائز علي جائزة لجنة التحكيم »‬الجحيم الأبيض» (2018، 14 دقيقة) إخراج محمود خالد، أحمد عاصم، عمر شاش، فالمخرجون الثلاثة التقوا معًا في صناعة عملاً وثائقياً بمدلول يقترب أكثر إلي التقرير التليفزيوني، حيث شغلتهم حكاية استندت إلي الواقع في عالم المحاجر، بيئة العمل الوعرة بكل ما تحمله من فداحة ومشقة؛ ما بين أدوات قطع الحجارة وسُحب الغبار الأبيض الذي يتسلل إلي الرئتين، ويصيبهما بالتليف، الفظاعة التي يتعرض لها نحو 35 ألف عامل يعانون من ظروف عملهم القاسي، مقابل أجر زهيد لا يساوي المخاطر الجسيمة التي يعيشونها، موضوع الفيلم يتحمل زوايا كثيرة تعبر عن جبروت العلاقة بين البشر والحجر، الاثنان يكسران بعضهما في عنف؛ ربما عبر العنوان الشاعري للفيلم عن هذه العلاقة المألوفة والمستعصية في ذات الوقت، يحاوطها الخوف وعدم الاستغناء والانغماس في هذا الجحيم الأبيض الجاثم علي الصدور والأوجه المعفرة، كذلك نجحت مشاهد الغبار في صوغ الاختناق وذوبان البشر في هبوة الحجر، لكن لا عنوان الفيلم ولا هذه المشاهد أغنت مخرجيه الذين ارتدوا الكمامة أو واق الوجه كنوع من التماهي مع الحالة، عن اعتماد الشكل التسجيلي الكلاسيكي الدارج، حيث أقحم اللقاءات التليفزيونية لعمال المحاجر، فبدت كتعليق صوتي متكرر ودخيل علي الحالة الشعورية، الكلام زائد وقاتل للصورة المؤثرة، مما يدلل علي أن بعض الأفلام القصيرة تعطي إحساساً بأنها طويلة، بما حملته من ثقل التسجيلي وحشو التقرير اللغوي، وهو ما ينطبق علي هذا الفيلم، رغم الجهد التكنيكي الذي يشير إلي طموح مخرجيه الثلاث، فإنه يطرح القضية الإشكالية حول صناعة الفيلم الوثائقي وزوايا التلاقي بين الموضوع والصورة، خصوصاً أن العين تتوقف عند الصنيع البصري، هو اللافت أولاً والمثير للانتباه، لكن لابد أن يكون للصورة السينمائية معني وأن تحاكي الخيال، فللوثائقي أيضاً »‬روائيته» ومتخيله، وهذا يعني تعاقب مشاهده بحرفية لا يطغي فيها جانب علي الأخر.
عند هذه النقطة تعددت أنواع الأفلام، قضاياها وأشكالها الفنية، في مهرجان الاسماعيلية كجزء من الاشتباك السينمائي حول الصورة والموضوع، الخيال والحكاية، الروائي والواقعي، الفيلم ببنيته السينمائية أو بطرازه التليفزيزني، هناك أفلام وثائقية مثلاً وقفت علي محك التساؤلات عن المعني المقصود بالتسجيل أو إلتقاط القضايا، وما الذي أراده المخرج أن ينتزعه من الواقع ويوثقه؟ ولماذا تضاءلت الصورة أمام الصوت؟ وهناك أفلام تسلل إليها النفس الروائي وتقاطع فيها الزمان والمكان والشخصيات التي لم تأت من عدم، كما حدث في فيلم »‬تأتون من بعيد» (2018، 84 دقيقة) إخراج أمل رمسيس، الحاصل علي جائزة لجنة تحكيم نقاد السينما الإفريقية وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين »‬فيبريسي»، يتناول قصة غير عادية لعائلة فلسطينية، تشتت وافترقت عن بعضها البعض بسبب الاضطرابات التي شهدها القرن العشرين، بداية من الحرب الأهلية الإسبانية(1936 1939) التي شارك فيها الأب (نجاتي صدقي) في النضال ضد الفاشية، مرورًا بالحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وبعدها النكبة الفلسطينية (1948) ثم الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990).
الفيلم هو تأكيد علي خطوات مخرجة موهوبة ومكترثة بالعمل السينمائي وبجماليات الصورة الوثائقية حين تسرد الحكاية، والحكاية تتمحور حول دولت صدقي أو دولشيكا ابنة سعدي، حسبما أطلق البعض عليها هذا اللقب لينسبوها إلي أبيها محمد نجاتي صدقي (1905-1979) كاتب وناشط وطني فلسطيني، وأحد أهم ناشطي الحركة الشيوعية في العالم العربي وعضو المنظمة الأممية الشيوعية »‬كومنترون»، يُعتقل الأب ومعه لوتكا (1905-2000) رفيقته وزوجته الأوكرانية، تاركين طفلتهما في أحد ملاجيء موسكو، بعد الخروج من السجن تعيش الأم مع طفلتها في فندق، ثم ترتبك حياتهم بعد فصل الأب من الحزب الشيوعي، فتعيد ابنتها إلي الملجأ مرة أخري وتسافر إلي فلسطين لتلتقي بالأب، علي أمل العودة لتسترد ابنتها بعد عام كما وعدتها، لكن الحرب العالمية الثانية تشتعل، ثم يتأجج الوضع في فلسطين بعد حرب 1948، وتهرب العائلة من القدس إلي بيروت ومعهما طفليهما الأصغر سعيد وهند، بينما موسكو ترفض أن تعيد لهما دولت، لتبق وحدها بعيداً عن عائلة لم تعرفها حتي كبرت والتقت بهم وعمرها 26 عاماً لأول مرة في بيروت، الابنة التي لا تتحدث إلا الروسية وسط أشقاء يتحدثون العربية، ظل التلاقي مع عائلتها مستمراً ما بين روسيا واليونان والبرازيل، حتي جمعتهم أمل رمسيس مرة أخري في موسكو، أشقاء كبار في السن ودوليشكا الأخت الكبري تسير ببطء ويتلون وجهها المغضن بالتسامح مع مضي، تتحدث عن روسيا كوطن وتطلب أن تدفن في القدس حتي ترتاح روحها.
هنا، يظهر الجهد الكبير الذي بذلته أمل رمسيس علي مدار سنوات عدة حتي تجمع الحكاية ولا تقف عند شقها السياسي فقط، فيأت سردها الوثائقي عن لحظات تاريخية مهمة في هذا العالم، تستعيد من خلاله قصص وبلاد وشخصيات وملامح إنسانية وصور عائلية امتزجت تفاصيلها بالتغيرات التي نجمت عن الحروب، وزعتها أمل رمسيس بمهارة تكشف ماضي متخم بالأحداث والالتباسات المختلطة، موضوعها هو أبناء نجاتي صدقي، الرجل الأممي، المناضل ضد الفاشية في أي جغرافيا، لكن فيلمها يتسع لما هو أكبر ويقدم صورة تأملية للواقع من خلال هؤلاء الاخوة، في قصتهم استبصار يفوق المتخيل، هذا غير الشحنة العاطفية التي استمدتها من شخوص فيلمها، فكانت عنصراً فعالاً في بنية الفيلم؛ مفتوحاً علي جماليات التوثيق السينمائي والتعمّق الهادئ والمتأمل في ذاكرة العالم، هو ما صنعته أمل رمسيس بأسلوب يعزز حيوية النص الوثائقي.
شتات آخر يصوره فيلم »‬ممشي» (2018، 52 دقيقة) يتابعه المخرج الفلسطيني، المقيم في لبنان هشام كايد، حين يحكي عن حال شقيقين فلسطينيين مقيمان في لبنان، اضطرا إلي السفر لألمانيا؛ بسبب ظروف المعيشة الصعبة.. المروي هنا شخصي وإن ارتبط بالأحوال العامة، تتنقل الكاميرا ما بين لبنان وألمانيا، ومع ذلك تظل حصة الكلام أكبر من الصورة في متتاليات كلامية عن المعيشة الصعبة والهجرة والترحال.
الترحال هو قاموس الغجر، يمشون مع الريح ويدقون أوتار خيمتهم علي أرض تناديهم، وحين يرحلون مرة أخري يتركون أثارهم: أغنية ورقصة وأسطورة، فمن هؤلاء الغجر رفاق التجوال وأليفي الخلاء؟ .. هو السؤال الذي طرحه فيلم معجزة البقاء (2019، 52 دقيقة) إخراج حسن صالح وني، هبة الحسيني، متوغلاً في العالم السري للغجر بأسطوريته وغموضه، متخذاً من غجر مصر مثالاً مذهلاً في مجتمع مغلق عليهم، مجتمع الغجر بقوانينه وقواعده الخاصة، محاولاً الوصول لجذورهم، لكنهم أبناء الريح في العالم كله، إنهم الدومر في الشام، والجيبسي في إسبانيا، والرومن في شرق أوروبا، أما في مصر فقد تعددت المسميات: النَوَر، الغجر، الهنجرانية، لكل اسم فئة، ولكل فئة حكاية، ومعجزة في بقائها حتي اليوم. الفكرة في حد ذاتها مثيرة ومغرية بالتسلل إلي هذا العالم الفاتن، لابد أن تستحوذ علي الانتباه وتجعل صناع الفيلم ينسحبون وراء هؤلاء الطائشين في الفضاء، فالإغواء كبير لدرجة أن الفيلم تاه في دوامات البحث والنبش في الماضي والحاضر، وكذلك في سخاء الموضوع وتنوع أفرعه، بدا مخرجا الفيلم كمن عثرا علي كنز كبير ولم يعرفا كيف يتعاملا معه، كيف يوزعانه، هذا لا ينفي الجهد المبذول أو جدية العمل ولا ينكر جماليات الفيلم، إنما توزعت أكثر من حدوتة وأكثر من محور، بداية من حضور المخرج والكاتب محمد حسان عاشور الذي يروي حكاية الغجر، إلي الانجرار وراء البحث التاريخي، ثم إطلالة فئات متباينة من الغجر علي الشاشة؛ كل واحد فيهم هو موضوع فيلم بمفرده، زكريا الحجاوي (أحد رواد الفن الشعبي المصري، قدم التراث الشعبي المصري عبر وسائل الإعلام الحديثة كالصحافة والإذاعة والتلفزيون)، الغوازي، بنات مازن، يبقي أن الفيلم فتح باباً واسعاً علي عالم مذهل تم إهماله وتهميشه بالرغم من ثرائه الثقافي، من ناحية أخري فإن الفيلم مشروع خام، مترف بالحكايات والصور السينمائية التي تستحق التوقف عندها.
المخرج عمرو بيومي بعد فيلميه »‬الجسر» (1997) و»‬بلد البنات» (2008) عاد بفيلمه الطويل »‬رمسيس راح فين» (2019، 62 دقيقة) الفائز بجائزة أفضل فيلم، وهو هذه المرة يقدم فيلماً وثائقيا علي العكس من تجربتيه السابقتين في السينما الروائية، وإن كان يميل هنا إلي المزج بين الواقعي والمتخيل، يتناول حدثاً بارزاً في الذاكرة الشعبية وهو نقل تمثال رمسيس من الميدان الذي حمل اسمه سنوات طويلة ولازال، ينقل الحدث بحرفية مهني منفتح علي أفق سينمائي ؛ يصنع من جوهر الحكاية شهادة صوراً تعينه علي اشتغاله السينمائي، مستنداً علي جهده البحثي في تجميع المادة الفيلمية كشخص مهموم بمواكبة التغيير في مجتمعه وتبدلاته، وبطريقة تكشف شيئًا كبيرًا من الحساسية الإنسانية، يوثق لحظات حية ويسرف في إظهار التماس بين العام والخاص، حيث تُهيمن الحميمية الفردية علي السياق السردي والمسار الحكائي، تفاصيل صغيرة تثير الانتباه وتربط بين السلطة الأبوية المتعسفة وبين رؤساء تعاقبوا علي مصر بنفس النسق الأبوي، فيما كان تمثال رمسيس الرابض في الميدان شاهداً علي الجميع، مسار تصاعدي للحكاية والصورة اعتمد فيه بيومي علي منهجه الجامع بين الأرشيف والحاضر، الذكري والراهن المتأهب والمحتشد في تلك البقعة الجغرافية، ميدان رمسيس، بالذكريات والأحلام والخيبات والسخرية من دون الابتعاد عن نبض المجتمع وتحولاته، هذه الحميمية ربما هي ما دفعت المخرج ليكون هو الراوي؛ معبراً عن خطه الذاتي كواحد من هؤلاء الذين عاصروا وجود التمثال في الميدان مشاركاً إياهم يومياتهم وتعبهم المتكرر، لكن رمسيس ليس تمثالاً فقط؛ بل هو الملك المصري، لذا فإنه في لحظة خروجه من الميدان، يبدو عظيماً لا ينظر إلي أحد وإنما يتطلع إليه الجميع، وتكبر اللحظة في دراميتها فيخرج بظهره، يودعه شعبه في الشوارع والشرفات، فيما يقول البعض »‬الميدان من غير رمسيس وحش»، إذا يفتقدون مرورهم اليومي كأنه ظل لهم في تعاستهم الأبدية، لا يجد الفيلم سبباً منطقياً لنقل التمثال، الرواية الرسمية تقول أن النقل يتم لحمايته من التلوث والصدأ، وأحد المهندسين ينفي ذلك ويؤكد ما أشيع عن أن النقل برغبة شخصية من مبارك نفسه، لأن محطة مترو الأنفاق التي تحمل اسمه تحت تمثال رمسيس الذي يحمل الميدان كله اسمه، علي أية حال فإن الفيلم يمزج بين الخروج والسخرية والمرارة، وتتسلل الأغنية الشعبية ملازمة لهذا الخروج، مرة يتسلل صوت بدرية السيد، وفي الأخري يختم بالموال النوبي »‬عم يا جمّال» فالمخرج استعان بالأغاني وبالتحريك كما في الإعلان الشهير »‬رمسيس راح فين» للرائد الأول والأب الروحي للرسوم المتحركة المصرية علي مهيب، لترسيخ المزج بين الحقيقة والخيال في الوثائقي الذي يرواغ سؤاله بين رمسيس راح فين؟ إلي مصر بأكملها راحت فين؟!
بهذه التعددية التي ظهر بها الفيلم الوثائقي، يظل الرهان علي حيوية مهرجان الاسماعيلية لا يفشل، إنه رهان باحث عن الجديد والقديم أيضاً كما فعلت الدورة 21 حيث أكدت أنها حدثاً ثقافياً في التواصل والنقاش، تنبع قوته من الرمز الكامن فيه، حفاظه علي خصوصيته ومواكبته لسينما مغايرة، دورة مثالية شكلاً ومضموناَ بدا فيها الانسجام بين طموح عصام زكريا رئيس المهرجان ودأب د. خالد عبد الجليل خالد عبدالجليل رئيس المركز القومي للسينما، الجهة المنظمة للمهرجان، فبخلاف الأمور التنظيمية والتنوع في اختيار الأفلام والتبادل المعرفي في الندوات، طالعتنا أيضاً مطبوعات المهرجان: سامي السلاموني إعداد يعقوب وهبي، عطيات الأبنودي سفيرة الغلابة للكاتب حسين عبد اللطيف، نجيب محفوظ للكاتب طارق الطاهر، سعيد شيمي الرجل الذي يري (بعيون النقاد والكتاب)، برهان علوية للناقد نديم جرجورة، جاز وأفلام.. سينما السود بأنغام الجاز للكاتب صلاح هاشم، أسامة فوزي إعداد محسن ويفي، عن النقد السينمائي في السبعينيات (أبحاث منشورة ضمن حلقة البحث التي أقامتها جمعية نقاد السينما المصريين بالتعاون مع المهرجان) كتب تعد إضافة ثقافية وفنية نوعية، وحاجة ضرورية للتفاعل، فمن ناحية تلعب دوراً في زيادة المعرفة، ومن ناحية أخري تكون نافذة تنفتح علي الأسئلة والتجارب المختلفة، خصوصاً في ندوات مناقشتها التي تعتبر وسائل حيّة لتطوير حضور الكتاب وتأثيره في المشهد الثقافي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.