خصلات الشمس الساقطة علي الباب تنزلق من خلال عدسة العين السحرية, فاخترقت عينه التي ترصد الرجل الذي يقف خارج الباب. حاول أن يزيح الأشعة المكثفة بعيدا عن مقلتيه, فصار صراعا شعاعيا التقط من خلاله صورة هلامية لرجل يرقص أمام الشقة المقابلة لشقته. انتهي الصراع الشعاعي بأن تراجع للوراء, فغمرت الدموع عينيه فأغمضهما. ربما كانت تلك هي المرة الوحيدة التي فشل في أن يضربه بحجر كبير فيكسر رأسه كأمثاله من السكان الذين يقومون بأفعال غريبة أمام شقته. تذكر في نفس الوقت المرأة التي كانت تهبط متمايلة, فكانت العين السحرية تبتلعها, فيستطيع أن يحتويها ويفعل معها كل ماتخيل أن يفعله, لكنها استطاعت أن تفلت من بين براثنه, وقفزت من العين الي المسافة الفاصلة مابين الشقة والسلم, وعندما هم باللحاق بها, اصطدمت عينه بالدائرة البصرية, فكادت تفرغ من محتوياتها. المرات التي كانت تتصل عينه اليمني بالعين السحرية بالليل والظلام يحتل ساحتها الأمامية, كان يسمع أصواتا تنفث ثورة مكتومة. شعر بجسده يصير ثعبانا فينزلق من تحت الباب, فينهش الرجال الذين ينزلون من الأدوار العليا, والذين كان يرتاب من أفعالهم في هذا الوقت من الليل. الفرحة التي كانت تنتابه والثعبان الذي يلقف أجسادهم الواحد تلو الآخر كانت تظهر علي عينه الملتصقة بالعين السحرية فتتسع بشدة, حتي يبصر المنظر بالخارج بوضوح. نال هزائم منكرة مع بعض الرجال الذين كانوا يصعدون للمرأة التي تقطن بالدور الرابع. ربما استطاع أن يعرقل بعضهم, فينتفض أحدهم واقفا, ويهبط السلالم متدحرجا, وتتقاطر دماؤه خلفه, فيرسل صاحب العين بصقة لزجة يمررها من خلال خلايا العين السحرية. قضي ثلاث ليال في أرق شديد, كانت الوحدة تلتف حول جسده, وتخرج من عينيه, فتنساب من خلال العين السحرية, وتتقاطر أمام باب الشقة الموحش, وتمتزج مع رمال الصحراء القاحلة, شعر عندئذ بالسراب الذي أومأ إليه بأن يمتطيه فينقله الي كل المشاهد التي يتمناها في هذا الوقت. نقل اليه مشهد عابر من إحدي الشقق التي تكتظ بالنساء وبالأطفال. عندما رأي هذا المشهد ارتفع بجسده قليلا, فكان المشهد قد اختفي من شاشة السراب الصحراوي. المرات الأولي التي كان يقف علي عتبة العين السحرية لم تمح من ذاكرته, فقد كان حينئذ يلامس أجساد النساء اللاتي ينزلن من الأدوار العليا. كانت امرأة تمعن في هز جسدها, سواء كان عن قصد أو دون قصد. منهن امرأة تعيش في الدور الرابع تصدر صوتا مكتوما عندما تصل الي الدور الثالث الذي يعيش فيه صاحب العين السحرية, وعندما كانت تصل الي مجال العدسة تكشف عن جمال جسدها, وتنظر بين الفينة والأخري الي العين, فتلمح عينا يؤرقها الشوق واللهفة, التي تكاد تقفز من فوهة العدسة. لم يلحظ الصاعدون والهابطون أن المرأة قد استغرقت ساعة أمام العين تراودها عن نفسها, ولم يبصر أحد أن المرأة قد أظهرت شيئا من جسدها, أو حتي ناورت به, فالقدرة التي جعلتها تفي رغبات صاحب العين المتأججة, وفي نفس الوقت تتخذ موضع الخجل كلما صعد شخص مافتوحي بأنها في طريقها الي الأسفل, هي نفس القدرة التي جعلت صاحب العين يمعن في كتم رغباته اللاهثة. لم تكن العين السحرية تمثل له حاجزا يحيل بينه وبينها, فقد قربها اليه حتي لامسها وأدركت هي أن ماتفعله هو نفس ماتفعله عندما تكون بمفردها أمام المرآة. ولم لا, فتلك المساحة لايوجد بها بشر, وتلك الشقة مهجورة لايسكنها كائن حي. فتحركت يمينا ويسارا, وشدت عباءتها السوداء علي جسدها. أما مسألة وجود شخص ما خلف العين يعاين جسدها فهذا محض خيال فإذا صعد زوجها في نفس الوقت, ورآها تتمايل هكذا, وإن أمعنت في إثبات العكس, فعليه أن يثبت أن ثمة رجلا مايدير حركاتها بخيوط وهمية فيما وراء العين السحرية. ظل عاما كاملا قبل هذا اليوم يحاول أن يلفت انتباه تلك المرأة, ذات مرة سمعت صوت احتكاك بالباب فلم تعره اهتماما, لكن هذا الصوت كان يتكرر كلما صعدت, لأنها كانت تستغرق وقتا أكثر من الهبوط, أما تلك المرة التي وقعت في شبكته, رأت الضوء الساقط علي العين السحرية يعكس شيئا ما, ولما دققت بصرها رأت العين الموقوتة التي صارعت الضوء, ودفعته للخارج, فكون شعاعا سينمائيا يحمل في طياته صورا لعين بشرية تعاين جسدها الفائر. مافعلته أمام العين في تلك اللحظة لم يره ولم يتخيله, لأنه عندما ادرك أنها كشفت عينه, رجع للوراء, وترك العين السحرية دون حراسة بصرية, لكنه بالتأكيد سمع حركات جعلته يخاف, حاول بخبرته أن يتخيل تلك الحركات, فبدأ بأكثر الاحتمالات سوءا: أن تطرق علي الباب, وعندما يفتح تكيل له الشتائم, والاتهامات التي تجعلها ضحية, تلك الصورة تضمن لها الشرف طيلة حياتها. وتخيل أيضا أنها ستحدث جلبة, وتجمع الناس بصراخها, وتقتحم الباب وتكشف سره الذي ظل لسنوات مقدسا. ثم تخيل العكس تماما, بأن تطرق علي الباب بصوت أنثوي, وتحثه علي لقاء رائع. لكنه أسلم نفسه لما سيحدث فوقف عاجزا وتيبست تبريراته في ركبتيه. اليوم التالي عندما كان يعتلي شرفة العين, صعدت السلم في نفس الوقت ولوحت له بيدها, ساعتها أدرك أن مافعلته بالأمس لم يكن استنكارا, وتمني لو يعود هذا اليوم, فيري مافعلته في تلك اللحظة, وإن كانت الآن قد عوضته بالكثير من الإيماءات والحركات الأنثوية الفائرة. لم يشعر أي كائن في العالم المعاناة التي خاضها عندما توقفت تلك المرأة عن الصعود والهبوط, وكانت العين السحرية قد شعرت بعجزها عن نقل الصور التي يبتغونها, فكانت أحيانا تنقل شعاعا خافتا عندما كان يرتكن الي الجدار المجاور للباب, فكان يرفع بصره نحو العين, فربما تكون هي من نقل الشعاع صورتها, فتخيب نظراته, فتسقط قبل أن تقفز من خلال العين فتكون امرأة أخري غيرها. عندما عرف من كلام السكان المتناثر فوق السلالم بعد ذلك بأسبوع أن تلك المرأة اختفت وقع علي الأرض, وظل يبكي بحرقة, ولبث يومين دون أن يأكل. لم يفارق العين السحرية التي راحت تعيد الي بصره مشاهدات قديمة للمرأة من خلالها. فرأي المرأة لاتزال موجودة في عالمه, فومضت عيناه بالسعادة, ورآها تبادله الحب من خلال نبض جسدها الذي لايسمعه إلا هو. تذكر المرة التي سأل فيها نفسه: تري هل تشعر تلك المرأة بسعادة مما تفعله وهي لم ترني؟ ربما كانت الإجابة أسرع مما يتخيل, فقد رآها في هذا اليوم عشرين مرة, فأدرك أن السعادة التي يشعر بها من وراء العين السحرية, تقابلها سعادة أخري بكل أوجهها أمام العين. في هذا اليوم أخرج يده من خلال العين السحرية وأمسك بكتف المرأة وضمها نحوه, وقبلها قبلة طويلة. وأسلمت نفسها له, فاقتربت من الباب وتعانقا طويلا. كانت العين السحرية في تلك اللحظة قد انصهرت تماما لم تكن تلك اللحظات أو الساعات الطويلة كما تخيلها بعد ذلك, إلا ثانية قصيرة جدا تم فيها هذا اللقاء العاطفي في ساحة العين السحرية. اليوم الذي سمعت فيه صرخات في هذه العمارة لم يمر بسهولة, انتاب الذعر السكان وخصوصا النساء, فمنهن من كانت في الشارع وأبت أن تصعد لشقتها, ومنهن من كانت بالفعل داخل الشقة لكنها شمت رائحة الجريمة التي حدثت بالدور الثالث فراحت تصرخ بشكل هستيري. لكن ما لم يتخيله الرجال أن القتيل الذي وجد مضرجا في دمائه كان يقطن في الشقة رقم6, أما الدهشة التي تشبثت بألسنة النساء عندما عرفن أن القتيل الذي كان يراودهن عن أنفسهن في الشقة رقم6 وجدوه ممددا, وساقاه الرفيعتان ملتويتان, وبجواره عكازان قديمان, وعلي مسافة قريبة جدا كانت العين السحرية تجاهد عبثا الوصول الي عينيه اللتين أغمضتا لأول مرة.