«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذلك الصوت في البدء كان السكون‏..‏

وإذا بالصرخة المدوية تمزق نسيج الليل في اللحظة التي يستيقظ فيها دوما من كابوس‏,‏ وضجة الارتطام المفاجئ تطرق كيانه بكل قوة قد يكون كابوسا آخر قال لنفسه ذلك مرات لكنه
الآن وتلك اللحظة الخاطفة كالبرق يدرك بفطرة لا تخطئ ان شيئا ما يحدث‏,‏ وفوق إرادة الجميع‏.‏
في البداية جاءه الصوت كطرقة هائلة لحجر كبير قذفه مشاكس اعلي السطح‏,‏ وبطريقة عمودية هوي متدحرجا علي درجات السلم‏..‏ كان يتكرر في اللحظة ذاتها وعلي مدي شهرين فاتا‏..‏ بالتأكيد هي ساعة دقيقة لا يتسلل اليها التخريف‏,‏ تلك التي يضبطها المشاكس وهو يقطع المنعطفات والحواري‏,‏ بعدما خفت الرجل تماما‏,‏ وترامت ظلال الجدران فوق أسفلت الطريق باهتة بالضوء الليلي الخفيف‏,‏ ليفعل فعلته المقصودة ثم يمضي تاركا خيطا من التساؤل القلق‏..‏ كان الصوت يباغته كحلم‏..‏ منذ أسبوع تراءي له تصور مخيف ومدهش ثمة قبضة حديدية لمجهول تهوي علي جسد سمين مكتنز من الخلف فيترنح كالسكير بين الدرابزين الحديدي والحائط‏,‏ ثم يسقط مترجرجا امام الشقة كما الصوت يبين محدثا ذلك الارتطام المرعب‏..‏ يأتي المساعدان ولابد بأنهما يرتديان سترات سوداء لامعة‏,‏ واحذية خفيفة كالحة‏..‏ يجرانه من رجليه القصيرتين الداميتين علي الدرج الرخامي خوفه ان ذلك التصور بدأ ينسج خيوطه ليكتمل كالفرض الوحيد المؤكد‏,‏ فأهله في الريف يدركون شفافيته الدهشة حتي سرت بينهم مقولة ان فيه شيئا لله‏.‏
يندهش لمجرد تصور جريمة تحدث داخل تلك العمارة التي يسكنها ست أسر ولم ينوه بها أحد منهم امامه‏,‏ او يشاركه الرأي في حسمها‏,‏ هم يخرجون جميعا في أوقات متفاوتة‏,‏ بعد أن يلقوا علي بعضهم سلاما باردا‏,‏ واحيانا يشيرون فقط بأيديهم وعلي وجوههم ذلك التعبير المشوش بالراحة أو اللامبالاة‏.‏
قرر ان يجلس يوما خلف الباب مباشرة ليقطع الشكوك التي تهزم طمأنينته‏..‏ اعد عدته‏,‏ عصا خيرزانية تنتهي بقبضة مكورة وسكين‏..‏ كان ذلك حين رحلت زوجته لزيارة أقارب لها في الريف‏..‏ ارتمي علي كرسي الصالون مرتفقا بيديه علي حوافه‏..‏ اسلحته البدائية تشرع رءوسها القاتلة تجاه الباب‏..‏ كان يعد الدقائق بنفاد صبر‏..‏ يقوم بين حين وآخر ليعدل هندامه‏..‏ يزرع الصالة ذهابا وايابا‏..‏ يطل علي ولديه النائمين في الحجرة المطلة علي الشارع‏!‏ إذا ترامي له صوت البداية كطبل بدائي ينبعث من زمن موغل في القدم‏..‏ ها هو شيء ما يتحرك حثيثا ثمة مشاورات‏..‏ وحوار قصير يدور بين القاتل والضحية‏,‏ والقبضة الملعونة لا تخطئ اللحظة الموعودة فتهوي بكل قوة وحنق‏..‏ بكل ضراوة الوحش الرابض علي ذلك الرأس المسالم الذي هوبالضرورة كبير‏..‏ يترنح الجسد السمين الذي يحمل في شجاعة ذلك الرأس المسالم الكبير‏..‏ يقابل الدرابزين الحديدي فينزف دما‏,‏ ثم يهوي محدثا ذلك الصوت العميق الذي يشبه آهة مكتومة لا تخرج من الفم ولكن من الجسد الضخم الذي لا يجد من ينجده‏.‏
قرر ان يفتح الباب ليداهمهم في عنفوان الجريمة قبل أن يأتي المساعدان بستراتهما السوداء اللامعة كما شاهدهما في فيلم قديم‏..‏ قلبه يضج بقوة لم يعتدها‏,‏ واعضاؤه تنتفض كطائر كسيح‏,‏ وقوة مبهمة تشده إلي الخلف فيغوص في كرسيه مذهولا‏,‏ وعرق غزير يسري ساخنا علي جلده المشدود‏.‏
مرتاعا كان يحسب الدقائق التي تبقت علي عبور الشعاع الأول من نور الصباح من فتحات الشيش‏,‏ لم يراوده طائف النوم مرة واحدة‏,‏ عيناه الحادتان الواسعتان ترمقان الباب بتحد‏,‏ وتعيدان تصور المشهد الدامي بدهشة طفل‏..‏ الصوت كان أعلي من ذي قبل‏,‏ لانه كان قريبا من الجريمة بدرجة مذهلة‏..‏ لا حاجز سوي الباب الرابض في سكينة علي مدخل الشقة‏..‏ لو انه امتلك الشجاعة منذ ساعة لكانت أشياء كثيرة قد تغيرت‏,‏ كان سيقضي نهائيا علي مصدر ارقه كل ليلة‏..‏ ماذا لوقال لزوجته التي تبصر دوما نياشين النصر متوسدة رفوف المكتبة في الصالة‏,‏ لكنه في مأزق فوق احتماله وهي لم تسمع شيئا من قبل ولو أصر ستساعده حتما بطريقة ما لكنها بالتأكيد ستقول جبان لايستطيع حمايتها بدت المشكلة في حما انفعاله المختزلة دفاعا عن كرامته‏,‏ وحين اطل شعاع الصباح الدافئ من شيش البلكونة انفرج قلبه‏..‏ استيقظ ولداه الصغيران‏..‏ جهز فطورا‏..‏ فتح الباب بحذر‏..‏ ومرتابا اطلق نظرة فاحصة إلي المكان‏..‏ باغتته المفاجأة الحمراء التي تقبع في حجم ذبابة علي الرخام لصق الباب بالضبط‏..‏ انحني ثانيا جذعه النحيف لأسفل ومرعوبا مد اصبعه‏(‏ نقطة دم‏).‏
تملكته قشعريرة باردة‏..‏ شعر بآلالف الأضواء الباهرة تسلط علي ملامحه المرتبكة‏..‏ احس بالرطوبة العفنة تزحف في حواسه من قاع البئر السحيقة التي يغرق فيها‏..‏ حتما ستشير كل اصابع الاتهام اليه هو متستر علي جريمة تحدث امام شقته كل ليلة‏,‏ بالأمس وجدنا قطرة دم وبالتحليل في المعمل الجنائي ثبت انها دم انسان قتل بضربة قوية فوق رأسه‏,‏ فبقعة الدم ياسيدي تتناثر حولها أنسجة ميتة من قاع المخ‏,‏ كما أن السكان يختفون واحد وراء الآخر دون ان يتركوا لجيرانهم اي شيء عن اماكنهم‏,‏ أو سر غيابهم الطويل‏,‏ ونأمل في النهاية ان تنال عدالتكم حقها المشروع في حماية المواطنين‏.‏
يقف‏..‏ سيكون خلف قضبان الحديد المدبب بلحية مرسلة‏,‏ وشعر أشعث أغبر‏,‏ وملابس مميزة‏,‏ بالتأكيد هو يعطي المسألة اكبر من حجمها الضئيل كذبابة‏..‏ ها هي البقعة الارجوانية تتمدد حتي تصير بحيرة هلامية عميقة‏,‏ وموحشة‏.‏ جرب أن يلمسها لكن محارة لزجة طوته في غموضها القارس‏,‏ ولم يفق الا عندما اطلق عليه السلام جاره في الدور الثالث‏..‏ هل يوقف الرجل الذي لايكاد يعرف شيئا عنه سوي اسمه ليحادثه بشأن ما يحدث ليفكرا معا؟ لم ينتبه الا علي ضغط الاصابع الصغيرة وهي تشده للمضي‏..‏ عندما توقفت سيارته امام النادي الرياضي الذي يعمل نائبا لمديره قرر أن يعود ليرسم خطوطا واضحة للجريمة‏.‏
قطع الدرج بحذر المسافر‏..‏ تمهل امام باب شقته‏..‏ اقترب من الدرابزين الحديدي‏..‏ رنا ببصره لأعلي‏..‏ بونديرة السلم مقفلة كما هي‏,‏ والسلم الحديدي الصدئ معلق اسفلها كل الدلائل تشير لفاعل من داخل العمارة‏,‏ انه يتحدي الجميع‏,‏ بل يتحداني شخصيا ومضي يستحث ذاكرته العتيقة امام كل واحد‏..‏ يحلل مواقف قديمة فتتراءي له حقائق لم تكن لتخطر بباله لكن اسم واحد تستمر في رأسه المنهك عباس حسنين الجزار انه الرجل الذي يستطيع تحدي الجميع بلا خوف كما أنه يكرهه‏,‏ فحين يراه خارجا من البوابة يقف مواجها له‏..‏ العين في العين‏,‏ ويدا الرجل ملطختان بدماء الذبيحة وهو يقول‏:‏ اهلا ياكابتن وضحكة طويلة تطارده من الخلف
حتي يصل لباب السيارة‏,‏ وهو الوحيد الذي يطرق باب أي من السكان ليطلب شيئا ما‏,‏ ريفي النشأة مثله لكنه لا ينحني لأحدهم مثلما يفعل الجميع‏..‏ فكر أن كل ذلك ليس سببا كافيا لأن يتحكم الرجل بمصائر السكان هكذا‏.‏
خطا متئدا علي حواف السلم يقيس بالنظر المسافات‏..‏ يحاول إعادة مشهد يتصوره كل ليلة‏,‏ كأنه يهم بكتابة سيناريو لفيلم بوليسي‏..‏ باغت سمعه أزيز باب يفتح‏..‏ عاد بجوار الشقة‏,‏ وتحسس الحوائط‏,‏ وفحص المدخل حين مرت زوجة عباس بطرحتها القاتمة‏,‏ وجلبابها الضيق‏,‏ وفمها الصغير الذي لا يناسب جسدها السمين‏:‏
صباح الخير يا أستاذ محمود‏..‏ خير؟‏!‏
لا‏..‏ أطمئن فقط علي ورق نسيته‏.‏
تشاغل في فتح جواب كان بجيب بذلته المقلمة‏..‏ حاول أن يتحاشي نظراتها خصوصا بعدما رأي ظل ابتسامة بشعة فوق شفتيها‏,‏ ابتسامة تقول شيئا غامضا لا يستطيع تفسيره‏..‏ قرر أن يطوي الدرج نازلا إليها‏..‏ يقبض بلطف مرفقيها ويسألها ملحا‏:‏ هل تعرفين شيئا؟‏,‏ لكنها القوة الغامضة التي تشده دوما وتسمره حين يهم بخطوة إيجابية‏..‏ تذكر أنها سألته بالأمس عن زوجها فأكد أنه لم يره منذ أيام‏,‏ وأكدت مؤمنة علي كلامه أنه يغيب أياما طويلة‏,‏ ويعود في الليل نحو ساعة‏..‏ ربما تسأله لتدفع الحيرة لديه إلي أقصي حدودها‏..‏ دخل شقته الفسيحة فاستقبله الهواء المنعش‏..‏ جاب الحجرات‏.‏ كانت الأشياء علي حالها كما تركها‏..‏ ارتمي علي فراشه‏..‏ رنا إلي السقف الأبيض الناصع ك كوب من لبن أو براءة طفولية‏,‏ وضاجع حلما صباحيا فاترا‏.‏
عناكب الوحدة تسكنك رغم الأسرة الهادئة‏..‏ تنسج أول الليل خيوطها الواهية لتقتنص كل فرص الطمأنينة في الليلة التالية كان علي أتم استعداد‏..‏ انسحب من فراشه بهدوء محاذرا زوجته الغارقة في النوم‏..‏ فتح نافذة البلكونة‏,‏ وواربها وراءه‏..‏ كان البرد قارسا‏,‏ والظلام الدامس يستلقي علي القبة السماوية كجسد مسجي‏..‏ مسح بناظريه زبالات الضوء المرتعش علي أرض الشارع الخالي‏..‏ ولج إلي حجرته مرة أخري‏,‏ ثم وارب باب الشقة‏,‏ وأخرج عينيه من الشق‏,‏ ليتحسس بهما الجدران والسلالم والخطوات‏..‏ يود لو يطمئن علي سكان العمارة أين ذهبوا؟ ومن بقي مؤرقا مثله بالتفكير‏,‏ أو بألتقاط أي صوت غريب؟
فتح التليفزيون‏..‏ كان عبد الحليم يصدح بأغان شجية في ذكراه‏..‏ أقفله‏,‏ وأخرج كتابا قديما عن الأمراض النفسية والذهانية كان يهوي قراءته‏..‏ لاشك أنه ينطوي علي إعجاب خفي بذلك النوع المعقد الممتع من التخصص‏,‏ وما أن يندمج في سطوره حتي يخيل إليه أن أعراض المرض تنتابه‏..‏ هو خائف أن يكون مصابا بالهذيان الصوتي‏,‏ ويصيبه الذعر عندما يتصور نفسه يقطع الشوارع بسيارته لعيادة صديقه القديم‏..‏ يخاف أن يستلقي أمامه علي الشيزلونج الجلدي الأسود‏,‏ ويأخذ في قيء ذكرياته المحفورة في الداخل‏..‏ ستثب الابتسامة التي يدرك مغزاها الساخر في الوجه المستدير الأبيض‏,‏ ويحوز في النهاية علي روشتة بها أنواع المهدئات والمنومات‏.‏
كيف يقول أنه يستيقظ مفزوعا كطفل في نفس الموعد كل يوم إثر صوت يسمعه وحده؟ حين يمضي سيجلس الطبيب ليبني شخصا جديدا ومفزعا له لم يعرفه من قبل‏.‏
فكر أن يستبدل مسكنه ليعود إلي الريف حيث الطمأنينة التي تتراءي له الآن جنة مفقودة‏,‏ لكن كيف له أن يعود بعد أن قطع كل اتصال بأصدقائه القدامي؟ وهو في غمرة تفكيره أتاه نعاس خفيف‏..‏ استرخي فاردا قدميه‏,‏ وفي اللحظة نفسها وبمقياس كوني لا يتأخر طرقت أذنه صرخة مكتومة‏..‏ قام منتفضا‏..‏ أذناه ساخنتان ووجهه مورد‏,‏ حزين‏..‏ لو ظل علي خوفه لفقد عقله إلي الأبد‏..‏ هذه الجريمة إنما تتحداني قال لنفسه‏.‏
كان الضوء خفيفا‏..‏ فتش عن حديدة ثقيلة‏..‏ أطفأ نور الصالة وفتح الباب بحذر‏..‏ فغمت أنفه رائحة دم متخثر لحظة رآه ممنطقا باللاسة‏,‏ والجلباب المقلم المتسخ‏..‏ هاهو عباس حسنين يرمقه باستخفاف في منتصف الليل‏.‏
يمشي بطيئا علي الدرج بوزنه الذي يجاوز المائة والعشرين كيلو جراما وكرشه الذي يمتد أمامه كبالون مصمت‏.‏ يتبادلان نظرة طويلة وفي اللحظة المحسوبة حين يستدير عباس صاعدا‏,‏ تلك الاستدارة التي رسمت من قبل مائه مرة يهوي بكل غيظ علي رأسه الكبير الملفوف باللاسة‏,‏ باليد الحديدية‏,‏ فيتطوح الرجل بين الدرابزين والدرج‏.‏
تنبثق من منخريه المفلطحين‏,‏ وشدقيه الغليظين خيط متصل من الأحمر القاني‏,‏ ثم يستقر مترجرجا أمام الباب‏.‏
يكممه ويسحبه لأسفل‏..‏ يتلفت حوله‏..‏ يلفه في شنطة السيارة‏..‏ يطوي الطرق الطويلة إلي مكان مهجور تسجيه بالرهبة إشارات الضوء من بعيد‏..‏ يخرجه‏,‏ ويسحبه رابطا قدميه بحجر ثقيل‏..‏ يجره إلي منحدر الماء وبخبطة من بوز حذائه يركل الجثة‏,‏ لتستكمل رحلتها الغامضة وسط الأسماك والقواقع‏..‏
كانت نبضات الهواء تلسع وجهه‏,‏ ويؤلمه للمرة الثانية أن يتخيل نفسه في عيادة صديقه القديم يدلي باعترافات جديدة‏,‏ أو وراء القضبان الغليظة لحجرة معزولة‏..‏ ودلو يريح نفسه‏.‏ يرفع سماعة التليفون‏,‏ ويطلب الشرطة‏:‏ ألو‏..‏ أنا المواطن محمود سالم نائب مدير النادي الرياضي‏,‏ قمت الان بارتكاب جريمة كانت تحاصرني وبيدي سلاح الجريمة أحفظه‏,‏ أرجو لو ترسلوا فريقا للتحقيق أدلي ببقية اعترافي‏..‏
قرر أن يستبدل بتلك الطريقة العقيمة التي لن تتيح له الاستمتاع بليال ساكنة بلا صوت طريقة أخري‏..‏ سيقول واضعا منديلا علي سماعة الصوت‏:‏
ألو‏.‏ أنا فاعل خير يا أفندم‏..‏ هاكم جريمة بشعة ارتكبت‏,‏ وألقي القتيل في ترعة المياه المارة بجنوب المدينة‏,‏ مقبرة القتلي كما تعرفون‏,‏ والمجرم يجوب الشوارع‏..‏ سلاح الجريمة لا يزال في يده إلا انكم ستدورون وتدورون كلعبة مملة ارتكبت بعناية‏.‏
يقفل الخط قبل أن تسمح مدة المكالمة بتتبع مصدر الصوت‏..‏ سيوقظ زوجته وأولاده ليخبرهم بقضائه التام علي مصدر قلقه‏.‏
كانت الأصوات قد بدأت تهل علي رأسه ضعيفة‏,‏ وتوالت متداخلة وعنيفة في رأسه فيما اندفعت السيارة بأقصي سرعتها‏.‏
فكري عمر الدقهلية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.