ولاية تكساس الأمريكية تدرج الإخوان ومنظمة "كير" على قائمة الإرهاب    أكثر من 20 إصابة في هجوم روسي بطائرات مسيرة على مدينة خاركيف شرق أوكرانيا    أحدثهم بنما وهايتي وكوراساو، المنتخبات المتأهلة لبطولة كأس العالم 2026    طقس اليوم: مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 28    خيرية أحمد، فاكهة السينما التي دخلت الفن لظروف أسرية وهذه قصة الرجل الوحيد في حياتها    الرئيس السيسي: البلد لو اتهدت مش هتقوم... ومحتاجين 50 تريليون جنيه لحل أزماتها    أسعار طن الحديد في أسوان مستقرة نسبيًا اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025    ارتفاع أسعار الذهب في بداية تعاملات البورصة.. الأربعاء 19 نوفمبر    إسعاد يونس ومحمد إمام ومى عز الدين يوجهون رسائل دعم لتامر حسنى: الله يشفيك ويعافيك    بشري سارة للمعلمين والمديرين| 2000 جنيه حافز تدريس من أكتوبر 2026 وفق شروط    البيت الأبيض: اتفاقية المعادن مع السعودية مماثلة لما أبرمناه مع الشركاء التجاريين الآخرين    حقيقة ظهور فيروس ماربورج في مصر وهل الوضع أمن؟ متحدث الصحة يكشف    ترتيب الدوري الإيطالي قبل انطلاق الجولة القادمة    شبانة: الأهلي أغلق باب العودة أمام كهربا نهائيًا    أوكرانيا تطالب روسيا بتعويضات مناخية بقيمة 43 مليار دولار في كوب 30    نمو الطلب على السلع المصنعة في أمريكا خلال أغسطس    "الوطنية للانتخابات": إلغاء نتائج 19 دائرة سببه مخالفات جوهرية أثرت على إرادة الناخب    فرحات: رسائل السيسي ترسم ملامح برلمان مسؤول يدعم الدولة    شمال سيناء تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس النواب 2025    "النواب" و"الشيوخ" الأمريكي يصوتان لصالح الإفراج عن ملفات إبستين    النيابة العامة تُحوِّل المضبوطات الذهبية إلى احتياطي إستراتيجي للدولة    انقلاب جرار صيانة في محطة التوفيقية بالبحيرة.. وتوقف حركة القطارات    نشأت الديهي: لا تختاروا مرشحي الانتخابات على أساس المال    مصرع شاب وإصابة اثنين آخرين في انقلاب سيارتي تريلا بصحراوي الأقصر    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    مصرع شاب وإصابة اثنين في انقلاب سيارتي تريلا بالأقصر    إحالة مخالفات جمعية منتجي الأرز والقمح للنيابة العامة.. وزير الزراعة يكشف حجم التجاوزات وخطة الإصلاح    معرض «الأبد هو الآن» يضيء أهرامات الجيزة بليلة عالمية تجمع رموز الفن والثقافة    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    في ذكرى رحيله.. أبرز أعمال مارسيل بروست التي استكشفت الزمن والذاكرة والهوية وطبيعة الإنسان    عاجل مستشار التحول الرقمي: ليس كل التطبيقات آمنة وأحذر من استخدام تطبيقات الزواج الإلكترونية الأجنبية    سويسرا تلحق بركب المتأهلين لكأس العالم 2026    الأحزاب تتوحد خلف شعار النزاهة والشفافية.. بيان رئاسي يهز المشهد الانتخابي    جميع المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026    شجار جماعي.. حادثة عنف بين جنود الجيش الإسرائيلي ووقوع إصابات    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    أسامة كمال: الجلوس دون تطوير لم يعد مقبولًا في زمن التكنولوجيا المتسارعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    أحمد الشناوي: الفار أنقذ الحكام    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    تحريات لكشف ملابسات العثور على جثة شخص في الطالبية    أحمد فؤاد ل مصطفى محمد: عُد للدورى المصرى قبل أن يتجاوزك الزمن    جامعة طيبة التكنولوجية بالأقصر تطلق مؤتمرها الرابع لشباب التكنولوجيين منتصف ديسمبر    فضيحة الفساد في كييف تُسقط محادثات ويتكوف ويرماك في تركيا    زيورخ السويسري يرد على المفاوضات مع لاعب الزمالك    مشروبات طبيعية تساعد على النوم العميق للأطفال    طيران الإمارات يطلب 65 طائرة إضافية من بوينغ 777X بقيمة 38 مليار دولار خلال معرض دبي للطيران 2025    وزير المالية: مبادرة جديدة لدعم ريادة الأعمال وتوسيع نظام الضريبة المبسطة وحوافز لأول 100 ألف مسجل    فيلم وهم ل سميرة غزال وفرح طارق ضمن قائمة أفلام الطلبة فى مهرجان الفيوم    هيئة الدواء: نعتزم ضخ 150 ألف عبوة من عقار الديجوكسين لعلاج أمراض القلب خلال الفترة المقبلة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    الشيخ رمضان عبد المعز يبرز الجمال القرآني في سورة الأنبياء    التنسيقية تنظم رابع صالون سياسي للتعريف ببرامج المرشحين بالمرحلة الثانية لانتخابات النواب    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: مقارنة المهور هي الوقود الذي يشعل نيران التكلفة في الزواج    كيف يحدث هبوط سكر الدم دون الإصابة بمرض السكري؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذلك الصوت في البدء كان السكون‏..‏

وإذا بالصرخة المدوية تمزق نسيج الليل في اللحظة التي يستيقظ فيها دوما من كابوس‏,‏ وضجة الارتطام المفاجئ تطرق كيانه بكل قوة قد يكون كابوسا آخر قال لنفسه ذلك مرات لكنه
الآن وتلك اللحظة الخاطفة كالبرق يدرك بفطرة لا تخطئ ان شيئا ما يحدث‏,‏ وفوق إرادة الجميع‏.‏
في البداية جاءه الصوت كطرقة هائلة لحجر كبير قذفه مشاكس اعلي السطح‏,‏ وبطريقة عمودية هوي متدحرجا علي درجات السلم‏..‏ كان يتكرر في اللحظة ذاتها وعلي مدي شهرين فاتا‏..‏ بالتأكيد هي ساعة دقيقة لا يتسلل اليها التخريف‏,‏ تلك التي يضبطها المشاكس وهو يقطع المنعطفات والحواري‏,‏ بعدما خفت الرجل تماما‏,‏ وترامت ظلال الجدران فوق أسفلت الطريق باهتة بالضوء الليلي الخفيف‏,‏ ليفعل فعلته المقصودة ثم يمضي تاركا خيطا من التساؤل القلق‏..‏ كان الصوت يباغته كحلم‏..‏ منذ أسبوع تراءي له تصور مخيف ومدهش ثمة قبضة حديدية لمجهول تهوي علي جسد سمين مكتنز من الخلف فيترنح كالسكير بين الدرابزين الحديدي والحائط‏,‏ ثم يسقط مترجرجا امام الشقة كما الصوت يبين محدثا ذلك الارتطام المرعب‏..‏ يأتي المساعدان ولابد بأنهما يرتديان سترات سوداء لامعة‏,‏ واحذية خفيفة كالحة‏..‏ يجرانه من رجليه القصيرتين الداميتين علي الدرج الرخامي خوفه ان ذلك التصور بدأ ينسج خيوطه ليكتمل كالفرض الوحيد المؤكد‏,‏ فأهله في الريف يدركون شفافيته الدهشة حتي سرت بينهم مقولة ان فيه شيئا لله‏.‏
يندهش لمجرد تصور جريمة تحدث داخل تلك العمارة التي يسكنها ست أسر ولم ينوه بها أحد منهم امامه‏,‏ او يشاركه الرأي في حسمها‏,‏ هم يخرجون جميعا في أوقات متفاوتة‏,‏ بعد أن يلقوا علي بعضهم سلاما باردا‏,‏ واحيانا يشيرون فقط بأيديهم وعلي وجوههم ذلك التعبير المشوش بالراحة أو اللامبالاة‏.‏
قرر ان يجلس يوما خلف الباب مباشرة ليقطع الشكوك التي تهزم طمأنينته‏..‏ اعد عدته‏,‏ عصا خيرزانية تنتهي بقبضة مكورة وسكين‏..‏ كان ذلك حين رحلت زوجته لزيارة أقارب لها في الريف‏..‏ ارتمي علي كرسي الصالون مرتفقا بيديه علي حوافه‏..‏ اسلحته البدائية تشرع رءوسها القاتلة تجاه الباب‏..‏ كان يعد الدقائق بنفاد صبر‏..‏ يقوم بين حين وآخر ليعدل هندامه‏..‏ يزرع الصالة ذهابا وايابا‏..‏ يطل علي ولديه النائمين في الحجرة المطلة علي الشارع‏!‏ إذا ترامي له صوت البداية كطبل بدائي ينبعث من زمن موغل في القدم‏..‏ ها هو شيء ما يتحرك حثيثا ثمة مشاورات‏..‏ وحوار قصير يدور بين القاتل والضحية‏,‏ والقبضة الملعونة لا تخطئ اللحظة الموعودة فتهوي بكل قوة وحنق‏..‏ بكل ضراوة الوحش الرابض علي ذلك الرأس المسالم الذي هوبالضرورة كبير‏..‏ يترنح الجسد السمين الذي يحمل في شجاعة ذلك الرأس المسالم الكبير‏..‏ يقابل الدرابزين الحديدي فينزف دما‏,‏ ثم يهوي محدثا ذلك الصوت العميق الذي يشبه آهة مكتومة لا تخرج من الفم ولكن من الجسد الضخم الذي لا يجد من ينجده‏.‏
قرر ان يفتح الباب ليداهمهم في عنفوان الجريمة قبل أن يأتي المساعدان بستراتهما السوداء اللامعة كما شاهدهما في فيلم قديم‏..‏ قلبه يضج بقوة لم يعتدها‏,‏ واعضاؤه تنتفض كطائر كسيح‏,‏ وقوة مبهمة تشده إلي الخلف فيغوص في كرسيه مذهولا‏,‏ وعرق غزير يسري ساخنا علي جلده المشدود‏.‏
مرتاعا كان يحسب الدقائق التي تبقت علي عبور الشعاع الأول من نور الصباح من فتحات الشيش‏,‏ لم يراوده طائف النوم مرة واحدة‏,‏ عيناه الحادتان الواسعتان ترمقان الباب بتحد‏,‏ وتعيدان تصور المشهد الدامي بدهشة طفل‏..‏ الصوت كان أعلي من ذي قبل‏,‏ لانه كان قريبا من الجريمة بدرجة مذهلة‏..‏ لا حاجز سوي الباب الرابض في سكينة علي مدخل الشقة‏..‏ لو انه امتلك الشجاعة منذ ساعة لكانت أشياء كثيرة قد تغيرت‏,‏ كان سيقضي نهائيا علي مصدر ارقه كل ليلة‏..‏ ماذا لوقال لزوجته التي تبصر دوما نياشين النصر متوسدة رفوف المكتبة في الصالة‏,‏ لكنه في مأزق فوق احتماله وهي لم تسمع شيئا من قبل ولو أصر ستساعده حتما بطريقة ما لكنها بالتأكيد ستقول جبان لايستطيع حمايتها بدت المشكلة في حما انفعاله المختزلة دفاعا عن كرامته‏,‏ وحين اطل شعاع الصباح الدافئ من شيش البلكونة انفرج قلبه‏..‏ استيقظ ولداه الصغيران‏..‏ جهز فطورا‏..‏ فتح الباب بحذر‏..‏ ومرتابا اطلق نظرة فاحصة إلي المكان‏..‏ باغتته المفاجأة الحمراء التي تقبع في حجم ذبابة علي الرخام لصق الباب بالضبط‏..‏ انحني ثانيا جذعه النحيف لأسفل ومرعوبا مد اصبعه‏(‏ نقطة دم‏).‏
تملكته قشعريرة باردة‏..‏ شعر بآلالف الأضواء الباهرة تسلط علي ملامحه المرتبكة‏..‏ احس بالرطوبة العفنة تزحف في حواسه من قاع البئر السحيقة التي يغرق فيها‏..‏ حتما ستشير كل اصابع الاتهام اليه هو متستر علي جريمة تحدث امام شقته كل ليلة‏,‏ بالأمس وجدنا قطرة دم وبالتحليل في المعمل الجنائي ثبت انها دم انسان قتل بضربة قوية فوق رأسه‏,‏ فبقعة الدم ياسيدي تتناثر حولها أنسجة ميتة من قاع المخ‏,‏ كما أن السكان يختفون واحد وراء الآخر دون ان يتركوا لجيرانهم اي شيء عن اماكنهم‏,‏ أو سر غيابهم الطويل‏,‏ ونأمل في النهاية ان تنال عدالتكم حقها المشروع في حماية المواطنين‏.‏
يقف‏..‏ سيكون خلف قضبان الحديد المدبب بلحية مرسلة‏,‏ وشعر أشعث أغبر‏,‏ وملابس مميزة‏,‏ بالتأكيد هو يعطي المسألة اكبر من حجمها الضئيل كذبابة‏..‏ ها هي البقعة الارجوانية تتمدد حتي تصير بحيرة هلامية عميقة‏,‏ وموحشة‏.‏ جرب أن يلمسها لكن محارة لزجة طوته في غموضها القارس‏,‏ ولم يفق الا عندما اطلق عليه السلام جاره في الدور الثالث‏..‏ هل يوقف الرجل الذي لايكاد يعرف شيئا عنه سوي اسمه ليحادثه بشأن ما يحدث ليفكرا معا؟ لم ينتبه الا علي ضغط الاصابع الصغيرة وهي تشده للمضي‏..‏ عندما توقفت سيارته امام النادي الرياضي الذي يعمل نائبا لمديره قرر أن يعود ليرسم خطوطا واضحة للجريمة‏.‏
قطع الدرج بحذر المسافر‏..‏ تمهل امام باب شقته‏..‏ اقترب من الدرابزين الحديدي‏..‏ رنا ببصره لأعلي‏..‏ بونديرة السلم مقفلة كما هي‏,‏ والسلم الحديدي الصدئ معلق اسفلها كل الدلائل تشير لفاعل من داخل العمارة‏,‏ انه يتحدي الجميع‏,‏ بل يتحداني شخصيا ومضي يستحث ذاكرته العتيقة امام كل واحد‏..‏ يحلل مواقف قديمة فتتراءي له حقائق لم تكن لتخطر بباله لكن اسم واحد تستمر في رأسه المنهك عباس حسنين الجزار انه الرجل الذي يستطيع تحدي الجميع بلا خوف كما أنه يكرهه‏,‏ فحين يراه خارجا من البوابة يقف مواجها له‏..‏ العين في العين‏,‏ ويدا الرجل ملطختان بدماء الذبيحة وهو يقول‏:‏ اهلا ياكابتن وضحكة طويلة تطارده من الخلف
حتي يصل لباب السيارة‏,‏ وهو الوحيد الذي يطرق باب أي من السكان ليطلب شيئا ما‏,‏ ريفي النشأة مثله لكنه لا ينحني لأحدهم مثلما يفعل الجميع‏..‏ فكر أن كل ذلك ليس سببا كافيا لأن يتحكم الرجل بمصائر السكان هكذا‏.‏
خطا متئدا علي حواف السلم يقيس بالنظر المسافات‏..‏ يحاول إعادة مشهد يتصوره كل ليلة‏,‏ كأنه يهم بكتابة سيناريو لفيلم بوليسي‏..‏ باغت سمعه أزيز باب يفتح‏..‏ عاد بجوار الشقة‏,‏ وتحسس الحوائط‏,‏ وفحص المدخل حين مرت زوجة عباس بطرحتها القاتمة‏,‏ وجلبابها الضيق‏,‏ وفمها الصغير الذي لا يناسب جسدها السمين‏:‏
صباح الخير يا أستاذ محمود‏..‏ خير؟‏!‏
لا‏..‏ أطمئن فقط علي ورق نسيته‏.‏
تشاغل في فتح جواب كان بجيب بذلته المقلمة‏..‏ حاول أن يتحاشي نظراتها خصوصا بعدما رأي ظل ابتسامة بشعة فوق شفتيها‏,‏ ابتسامة تقول شيئا غامضا لا يستطيع تفسيره‏..‏ قرر أن يطوي الدرج نازلا إليها‏..‏ يقبض بلطف مرفقيها ويسألها ملحا‏:‏ هل تعرفين شيئا؟‏,‏ لكنها القوة الغامضة التي تشده دوما وتسمره حين يهم بخطوة إيجابية‏..‏ تذكر أنها سألته بالأمس عن زوجها فأكد أنه لم يره منذ أيام‏,‏ وأكدت مؤمنة علي كلامه أنه يغيب أياما طويلة‏,‏ ويعود في الليل نحو ساعة‏..‏ ربما تسأله لتدفع الحيرة لديه إلي أقصي حدودها‏..‏ دخل شقته الفسيحة فاستقبله الهواء المنعش‏..‏ جاب الحجرات‏.‏ كانت الأشياء علي حالها كما تركها‏..‏ ارتمي علي فراشه‏..‏ رنا إلي السقف الأبيض الناصع ك كوب من لبن أو براءة طفولية‏,‏ وضاجع حلما صباحيا فاترا‏.‏
عناكب الوحدة تسكنك رغم الأسرة الهادئة‏..‏ تنسج أول الليل خيوطها الواهية لتقتنص كل فرص الطمأنينة في الليلة التالية كان علي أتم استعداد‏..‏ انسحب من فراشه بهدوء محاذرا زوجته الغارقة في النوم‏..‏ فتح نافذة البلكونة‏,‏ وواربها وراءه‏..‏ كان البرد قارسا‏,‏ والظلام الدامس يستلقي علي القبة السماوية كجسد مسجي‏..‏ مسح بناظريه زبالات الضوء المرتعش علي أرض الشارع الخالي‏..‏ ولج إلي حجرته مرة أخري‏,‏ ثم وارب باب الشقة‏,‏ وأخرج عينيه من الشق‏,‏ ليتحسس بهما الجدران والسلالم والخطوات‏..‏ يود لو يطمئن علي سكان العمارة أين ذهبوا؟ ومن بقي مؤرقا مثله بالتفكير‏,‏ أو بألتقاط أي صوت غريب؟
فتح التليفزيون‏..‏ كان عبد الحليم يصدح بأغان شجية في ذكراه‏..‏ أقفله‏,‏ وأخرج كتابا قديما عن الأمراض النفسية والذهانية كان يهوي قراءته‏..‏ لاشك أنه ينطوي علي إعجاب خفي بذلك النوع المعقد الممتع من التخصص‏,‏ وما أن يندمج في سطوره حتي يخيل إليه أن أعراض المرض تنتابه‏..‏ هو خائف أن يكون مصابا بالهذيان الصوتي‏,‏ ويصيبه الذعر عندما يتصور نفسه يقطع الشوارع بسيارته لعيادة صديقه القديم‏..‏ يخاف أن يستلقي أمامه علي الشيزلونج الجلدي الأسود‏,‏ ويأخذ في قيء ذكرياته المحفورة في الداخل‏..‏ ستثب الابتسامة التي يدرك مغزاها الساخر في الوجه المستدير الأبيض‏,‏ ويحوز في النهاية علي روشتة بها أنواع المهدئات والمنومات‏.‏
كيف يقول أنه يستيقظ مفزوعا كطفل في نفس الموعد كل يوم إثر صوت يسمعه وحده؟ حين يمضي سيجلس الطبيب ليبني شخصا جديدا ومفزعا له لم يعرفه من قبل‏.‏
فكر أن يستبدل مسكنه ليعود إلي الريف حيث الطمأنينة التي تتراءي له الآن جنة مفقودة‏,‏ لكن كيف له أن يعود بعد أن قطع كل اتصال بأصدقائه القدامي؟ وهو في غمرة تفكيره أتاه نعاس خفيف‏..‏ استرخي فاردا قدميه‏,‏ وفي اللحظة نفسها وبمقياس كوني لا يتأخر طرقت أذنه صرخة مكتومة‏..‏ قام منتفضا‏..‏ أذناه ساخنتان ووجهه مورد‏,‏ حزين‏..‏ لو ظل علي خوفه لفقد عقله إلي الأبد‏..‏ هذه الجريمة إنما تتحداني قال لنفسه‏.‏
كان الضوء خفيفا‏..‏ فتش عن حديدة ثقيلة‏..‏ أطفأ نور الصالة وفتح الباب بحذر‏..‏ فغمت أنفه رائحة دم متخثر لحظة رآه ممنطقا باللاسة‏,‏ والجلباب المقلم المتسخ‏..‏ هاهو عباس حسنين يرمقه باستخفاف في منتصف الليل‏.‏
يمشي بطيئا علي الدرج بوزنه الذي يجاوز المائة والعشرين كيلو جراما وكرشه الذي يمتد أمامه كبالون مصمت‏.‏ يتبادلان نظرة طويلة وفي اللحظة المحسوبة حين يستدير عباس صاعدا‏,‏ تلك الاستدارة التي رسمت من قبل مائه مرة يهوي بكل غيظ علي رأسه الكبير الملفوف باللاسة‏,‏ باليد الحديدية‏,‏ فيتطوح الرجل بين الدرابزين والدرج‏.‏
تنبثق من منخريه المفلطحين‏,‏ وشدقيه الغليظين خيط متصل من الأحمر القاني‏,‏ ثم يستقر مترجرجا أمام الباب‏.‏
يكممه ويسحبه لأسفل‏..‏ يتلفت حوله‏..‏ يلفه في شنطة السيارة‏..‏ يطوي الطرق الطويلة إلي مكان مهجور تسجيه بالرهبة إشارات الضوء من بعيد‏..‏ يخرجه‏,‏ ويسحبه رابطا قدميه بحجر ثقيل‏..‏ يجره إلي منحدر الماء وبخبطة من بوز حذائه يركل الجثة‏,‏ لتستكمل رحلتها الغامضة وسط الأسماك والقواقع‏..‏
كانت نبضات الهواء تلسع وجهه‏,‏ ويؤلمه للمرة الثانية أن يتخيل نفسه في عيادة صديقه القديم يدلي باعترافات جديدة‏,‏ أو وراء القضبان الغليظة لحجرة معزولة‏..‏ ودلو يريح نفسه‏.‏ يرفع سماعة التليفون‏,‏ ويطلب الشرطة‏:‏ ألو‏..‏ أنا المواطن محمود سالم نائب مدير النادي الرياضي‏,‏ قمت الان بارتكاب جريمة كانت تحاصرني وبيدي سلاح الجريمة أحفظه‏,‏ أرجو لو ترسلوا فريقا للتحقيق أدلي ببقية اعترافي‏..‏
قرر أن يستبدل بتلك الطريقة العقيمة التي لن تتيح له الاستمتاع بليال ساكنة بلا صوت طريقة أخري‏..‏ سيقول واضعا منديلا علي سماعة الصوت‏:‏
ألو‏.‏ أنا فاعل خير يا أفندم‏..‏ هاكم جريمة بشعة ارتكبت‏,‏ وألقي القتيل في ترعة المياه المارة بجنوب المدينة‏,‏ مقبرة القتلي كما تعرفون‏,‏ والمجرم يجوب الشوارع‏..‏ سلاح الجريمة لا يزال في يده إلا انكم ستدورون وتدورون كلعبة مملة ارتكبت بعناية‏.‏
يقفل الخط قبل أن تسمح مدة المكالمة بتتبع مصدر الصوت‏..‏ سيوقظ زوجته وأولاده ليخبرهم بقضائه التام علي مصدر قلقه‏.‏
كانت الأصوات قد بدأت تهل علي رأسه ضعيفة‏,‏ وتوالت متداخلة وعنيفة في رأسه فيما اندفعت السيارة بأقصي سرعتها‏.‏
فكري عمر الدقهلية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.