إيران تطلب من الإسرائيليين مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة " لإنقاذ حياتهم "    وزير الشباب يقترح إضافة مادة جديدة على تعديلات قانون الرياضة    ليعود في أسرع وقت.. الخطيب يوجه بتوفير الرعاية الكاملة لإمام عاشور    السيطرة على حريق بمولد كهربائي داخل ثلاجة خضار بسوق العبور    وزير الثقافة يفتتح الدورة 45 للمعرض العام بمشاركة 326 فنانًا    عزاء نجل الموسيقار صلاح الشرنوبى فى مسجد الشرطة بالشيخ زايد.. الثلاثاء    قبل عرض 7Dogs.. كيف روج تركي آل الشيخ للفيلم؟    عضو بالبرلمان التونسي: «الإخوان» اخترقوا قافلة الصمود وحولوها لمنصة تهاجم مصر وليبيا    محافظ جنوب سيناء وسفير الهند يبحثان سبل تعزيز التعاون السياحي وإنشاء مدرسة دولية متخصصة في رياضة اليوجا بسانت كاترين    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    «الشروق» تكشف موقف بن شرقي بعد الغياب عن مباراة إنتر ميامي    رحلة إلى الحياة الأخرى.. متحف شرم الشيخ يطلق برنامجه الصيفي لتعريف الأطفال بالحضارة المصرية القديمة    لميس الحديدي: كرة اللهب تتناوب بين تل أبيب وطهران.. ولا نهاية قريبة للحرب    شباب القلب.. 4 أبراج تتمتع بروح الطفولة    بعد تصدره «التريند».. الحسن عادل: «أغنياتي نابعة من إحساسي وبتعبر عن مشاعري»    أمين الفتوى يوضح حكم الزيادة في البيع بالتقسيط.. ربا أم ربح مشروع؟    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    أوليس أفضل لاعب بمباراة بايرن ميونخ ضد أوكلاند سيتى فى كأس العالم للأندية    السعودية: وصول طلائع الحجاج الإيرانيين إلى مطار "عرعر" تمهيدًا لمغادرتهم    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوجيهات رئاسية جديدة تتصدر نشاط السيسي اليوم    رسمياً.. جينارو جاتوزو مديراً فنياً لمنتخب إيطاليا    عائلة تطرح جزيرة في اسكتلندا للبيع بسعر أقل من 8 مليون دولار    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    «جزار الوراق» ينكر التعدي على تلميذة: «ردت علىَّ بقلة ذوق فضربتها بس» (خاص)    صراع مع آلة لا تعرف الرحمة.. «نيويورك تايمز»: الذكاء الاصطناعي يدفع البشر للجنون    ضبط المتهمين بقتل سائق توك توك وإلقاء جثته بمقابر أسوان    رامي جمال يوجه رسالة لجمهور جدة بعد حفله الأخير    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    10 سلوكيات خاطئة ابتعدى عنهم مع أطفالك حفاظا على صحتهم    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    طريقة عمل فطيرة السكر باللبن في خطوات بسيطة    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    سعادة بين طلاب الثانوية العامة في أول أيام مارثون الامتحانات بالقليوبية    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    استمرار استقبال محصول القمح المحلي للمواقع التخزينية بالشرقية    "طوارئ" بشركات الكهرباء تزامنًا مع امتحانات الثانوية العامة    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    ترقب وقلق.. الأهالي ينتظرون أبناءهم في أول أيام امتحانات الثانوية العامة| شاهد    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    ماراثون الثانوية العامة بدأ.. طلاب الأقصر يتوافدون على اللجان لأداء أول يوم امتحانات    الأهلي أوقفه.. ميسي يتعطل لأول مرة في كأس العالم للأندية    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    تعليق ساخر من مجدي عبد الغني على مدرب الأهلي قبل مواجهة إنتر ميامي    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذلك الصوت في البدء كان السكون‏..‏

وإذا بالصرخة المدوية تمزق نسيج الليل في اللحظة التي يستيقظ فيها دوما من كابوس‏,‏ وضجة الارتطام المفاجئ تطرق كيانه بكل قوة قد يكون كابوسا آخر قال لنفسه ذلك مرات لكنه
الآن وتلك اللحظة الخاطفة كالبرق يدرك بفطرة لا تخطئ ان شيئا ما يحدث‏,‏ وفوق إرادة الجميع‏.‏
في البداية جاءه الصوت كطرقة هائلة لحجر كبير قذفه مشاكس اعلي السطح‏,‏ وبطريقة عمودية هوي متدحرجا علي درجات السلم‏..‏ كان يتكرر في اللحظة ذاتها وعلي مدي شهرين فاتا‏..‏ بالتأكيد هي ساعة دقيقة لا يتسلل اليها التخريف‏,‏ تلك التي يضبطها المشاكس وهو يقطع المنعطفات والحواري‏,‏ بعدما خفت الرجل تماما‏,‏ وترامت ظلال الجدران فوق أسفلت الطريق باهتة بالضوء الليلي الخفيف‏,‏ ليفعل فعلته المقصودة ثم يمضي تاركا خيطا من التساؤل القلق‏..‏ كان الصوت يباغته كحلم‏..‏ منذ أسبوع تراءي له تصور مخيف ومدهش ثمة قبضة حديدية لمجهول تهوي علي جسد سمين مكتنز من الخلف فيترنح كالسكير بين الدرابزين الحديدي والحائط‏,‏ ثم يسقط مترجرجا امام الشقة كما الصوت يبين محدثا ذلك الارتطام المرعب‏..‏ يأتي المساعدان ولابد بأنهما يرتديان سترات سوداء لامعة‏,‏ واحذية خفيفة كالحة‏..‏ يجرانه من رجليه القصيرتين الداميتين علي الدرج الرخامي خوفه ان ذلك التصور بدأ ينسج خيوطه ليكتمل كالفرض الوحيد المؤكد‏,‏ فأهله في الريف يدركون شفافيته الدهشة حتي سرت بينهم مقولة ان فيه شيئا لله‏.‏
يندهش لمجرد تصور جريمة تحدث داخل تلك العمارة التي يسكنها ست أسر ولم ينوه بها أحد منهم امامه‏,‏ او يشاركه الرأي في حسمها‏,‏ هم يخرجون جميعا في أوقات متفاوتة‏,‏ بعد أن يلقوا علي بعضهم سلاما باردا‏,‏ واحيانا يشيرون فقط بأيديهم وعلي وجوههم ذلك التعبير المشوش بالراحة أو اللامبالاة‏.‏
قرر ان يجلس يوما خلف الباب مباشرة ليقطع الشكوك التي تهزم طمأنينته‏..‏ اعد عدته‏,‏ عصا خيرزانية تنتهي بقبضة مكورة وسكين‏..‏ كان ذلك حين رحلت زوجته لزيارة أقارب لها في الريف‏..‏ ارتمي علي كرسي الصالون مرتفقا بيديه علي حوافه‏..‏ اسلحته البدائية تشرع رءوسها القاتلة تجاه الباب‏..‏ كان يعد الدقائق بنفاد صبر‏..‏ يقوم بين حين وآخر ليعدل هندامه‏..‏ يزرع الصالة ذهابا وايابا‏..‏ يطل علي ولديه النائمين في الحجرة المطلة علي الشارع‏!‏ إذا ترامي له صوت البداية كطبل بدائي ينبعث من زمن موغل في القدم‏..‏ ها هو شيء ما يتحرك حثيثا ثمة مشاورات‏..‏ وحوار قصير يدور بين القاتل والضحية‏,‏ والقبضة الملعونة لا تخطئ اللحظة الموعودة فتهوي بكل قوة وحنق‏..‏ بكل ضراوة الوحش الرابض علي ذلك الرأس المسالم الذي هوبالضرورة كبير‏..‏ يترنح الجسد السمين الذي يحمل في شجاعة ذلك الرأس المسالم الكبير‏..‏ يقابل الدرابزين الحديدي فينزف دما‏,‏ ثم يهوي محدثا ذلك الصوت العميق الذي يشبه آهة مكتومة لا تخرج من الفم ولكن من الجسد الضخم الذي لا يجد من ينجده‏.‏
قرر ان يفتح الباب ليداهمهم في عنفوان الجريمة قبل أن يأتي المساعدان بستراتهما السوداء اللامعة كما شاهدهما في فيلم قديم‏..‏ قلبه يضج بقوة لم يعتدها‏,‏ واعضاؤه تنتفض كطائر كسيح‏,‏ وقوة مبهمة تشده إلي الخلف فيغوص في كرسيه مذهولا‏,‏ وعرق غزير يسري ساخنا علي جلده المشدود‏.‏
مرتاعا كان يحسب الدقائق التي تبقت علي عبور الشعاع الأول من نور الصباح من فتحات الشيش‏,‏ لم يراوده طائف النوم مرة واحدة‏,‏ عيناه الحادتان الواسعتان ترمقان الباب بتحد‏,‏ وتعيدان تصور المشهد الدامي بدهشة طفل‏..‏ الصوت كان أعلي من ذي قبل‏,‏ لانه كان قريبا من الجريمة بدرجة مذهلة‏..‏ لا حاجز سوي الباب الرابض في سكينة علي مدخل الشقة‏..‏ لو انه امتلك الشجاعة منذ ساعة لكانت أشياء كثيرة قد تغيرت‏,‏ كان سيقضي نهائيا علي مصدر ارقه كل ليلة‏..‏ ماذا لوقال لزوجته التي تبصر دوما نياشين النصر متوسدة رفوف المكتبة في الصالة‏,‏ لكنه في مأزق فوق احتماله وهي لم تسمع شيئا من قبل ولو أصر ستساعده حتما بطريقة ما لكنها بالتأكيد ستقول جبان لايستطيع حمايتها بدت المشكلة في حما انفعاله المختزلة دفاعا عن كرامته‏,‏ وحين اطل شعاع الصباح الدافئ من شيش البلكونة انفرج قلبه‏..‏ استيقظ ولداه الصغيران‏..‏ جهز فطورا‏..‏ فتح الباب بحذر‏..‏ ومرتابا اطلق نظرة فاحصة إلي المكان‏..‏ باغتته المفاجأة الحمراء التي تقبع في حجم ذبابة علي الرخام لصق الباب بالضبط‏..‏ انحني ثانيا جذعه النحيف لأسفل ومرعوبا مد اصبعه‏(‏ نقطة دم‏).‏
تملكته قشعريرة باردة‏..‏ شعر بآلالف الأضواء الباهرة تسلط علي ملامحه المرتبكة‏..‏ احس بالرطوبة العفنة تزحف في حواسه من قاع البئر السحيقة التي يغرق فيها‏..‏ حتما ستشير كل اصابع الاتهام اليه هو متستر علي جريمة تحدث امام شقته كل ليلة‏,‏ بالأمس وجدنا قطرة دم وبالتحليل في المعمل الجنائي ثبت انها دم انسان قتل بضربة قوية فوق رأسه‏,‏ فبقعة الدم ياسيدي تتناثر حولها أنسجة ميتة من قاع المخ‏,‏ كما أن السكان يختفون واحد وراء الآخر دون ان يتركوا لجيرانهم اي شيء عن اماكنهم‏,‏ أو سر غيابهم الطويل‏,‏ ونأمل في النهاية ان تنال عدالتكم حقها المشروع في حماية المواطنين‏.‏
يقف‏..‏ سيكون خلف قضبان الحديد المدبب بلحية مرسلة‏,‏ وشعر أشعث أغبر‏,‏ وملابس مميزة‏,‏ بالتأكيد هو يعطي المسألة اكبر من حجمها الضئيل كذبابة‏..‏ ها هي البقعة الارجوانية تتمدد حتي تصير بحيرة هلامية عميقة‏,‏ وموحشة‏.‏ جرب أن يلمسها لكن محارة لزجة طوته في غموضها القارس‏,‏ ولم يفق الا عندما اطلق عليه السلام جاره في الدور الثالث‏..‏ هل يوقف الرجل الذي لايكاد يعرف شيئا عنه سوي اسمه ليحادثه بشأن ما يحدث ليفكرا معا؟ لم ينتبه الا علي ضغط الاصابع الصغيرة وهي تشده للمضي‏..‏ عندما توقفت سيارته امام النادي الرياضي الذي يعمل نائبا لمديره قرر أن يعود ليرسم خطوطا واضحة للجريمة‏.‏
قطع الدرج بحذر المسافر‏..‏ تمهل امام باب شقته‏..‏ اقترب من الدرابزين الحديدي‏..‏ رنا ببصره لأعلي‏..‏ بونديرة السلم مقفلة كما هي‏,‏ والسلم الحديدي الصدئ معلق اسفلها كل الدلائل تشير لفاعل من داخل العمارة‏,‏ انه يتحدي الجميع‏,‏ بل يتحداني شخصيا ومضي يستحث ذاكرته العتيقة امام كل واحد‏..‏ يحلل مواقف قديمة فتتراءي له حقائق لم تكن لتخطر بباله لكن اسم واحد تستمر في رأسه المنهك عباس حسنين الجزار انه الرجل الذي يستطيع تحدي الجميع بلا خوف كما أنه يكرهه‏,‏ فحين يراه خارجا من البوابة يقف مواجها له‏..‏ العين في العين‏,‏ ويدا الرجل ملطختان بدماء الذبيحة وهو يقول‏:‏ اهلا ياكابتن وضحكة طويلة تطارده من الخلف
حتي يصل لباب السيارة‏,‏ وهو الوحيد الذي يطرق باب أي من السكان ليطلب شيئا ما‏,‏ ريفي النشأة مثله لكنه لا ينحني لأحدهم مثلما يفعل الجميع‏..‏ فكر أن كل ذلك ليس سببا كافيا لأن يتحكم الرجل بمصائر السكان هكذا‏.‏
خطا متئدا علي حواف السلم يقيس بالنظر المسافات‏..‏ يحاول إعادة مشهد يتصوره كل ليلة‏,‏ كأنه يهم بكتابة سيناريو لفيلم بوليسي‏..‏ باغت سمعه أزيز باب يفتح‏..‏ عاد بجوار الشقة‏,‏ وتحسس الحوائط‏,‏ وفحص المدخل حين مرت زوجة عباس بطرحتها القاتمة‏,‏ وجلبابها الضيق‏,‏ وفمها الصغير الذي لا يناسب جسدها السمين‏:‏
صباح الخير يا أستاذ محمود‏..‏ خير؟‏!‏
لا‏..‏ أطمئن فقط علي ورق نسيته‏.‏
تشاغل في فتح جواب كان بجيب بذلته المقلمة‏..‏ حاول أن يتحاشي نظراتها خصوصا بعدما رأي ظل ابتسامة بشعة فوق شفتيها‏,‏ ابتسامة تقول شيئا غامضا لا يستطيع تفسيره‏..‏ قرر أن يطوي الدرج نازلا إليها‏..‏ يقبض بلطف مرفقيها ويسألها ملحا‏:‏ هل تعرفين شيئا؟‏,‏ لكنها القوة الغامضة التي تشده دوما وتسمره حين يهم بخطوة إيجابية‏..‏ تذكر أنها سألته بالأمس عن زوجها فأكد أنه لم يره منذ أيام‏,‏ وأكدت مؤمنة علي كلامه أنه يغيب أياما طويلة‏,‏ ويعود في الليل نحو ساعة‏..‏ ربما تسأله لتدفع الحيرة لديه إلي أقصي حدودها‏..‏ دخل شقته الفسيحة فاستقبله الهواء المنعش‏..‏ جاب الحجرات‏.‏ كانت الأشياء علي حالها كما تركها‏..‏ ارتمي علي فراشه‏..‏ رنا إلي السقف الأبيض الناصع ك كوب من لبن أو براءة طفولية‏,‏ وضاجع حلما صباحيا فاترا‏.‏
عناكب الوحدة تسكنك رغم الأسرة الهادئة‏..‏ تنسج أول الليل خيوطها الواهية لتقتنص كل فرص الطمأنينة في الليلة التالية كان علي أتم استعداد‏..‏ انسحب من فراشه بهدوء محاذرا زوجته الغارقة في النوم‏..‏ فتح نافذة البلكونة‏,‏ وواربها وراءه‏..‏ كان البرد قارسا‏,‏ والظلام الدامس يستلقي علي القبة السماوية كجسد مسجي‏..‏ مسح بناظريه زبالات الضوء المرتعش علي أرض الشارع الخالي‏..‏ ولج إلي حجرته مرة أخري‏,‏ ثم وارب باب الشقة‏,‏ وأخرج عينيه من الشق‏,‏ ليتحسس بهما الجدران والسلالم والخطوات‏..‏ يود لو يطمئن علي سكان العمارة أين ذهبوا؟ ومن بقي مؤرقا مثله بالتفكير‏,‏ أو بألتقاط أي صوت غريب؟
فتح التليفزيون‏..‏ كان عبد الحليم يصدح بأغان شجية في ذكراه‏..‏ أقفله‏,‏ وأخرج كتابا قديما عن الأمراض النفسية والذهانية كان يهوي قراءته‏..‏ لاشك أنه ينطوي علي إعجاب خفي بذلك النوع المعقد الممتع من التخصص‏,‏ وما أن يندمج في سطوره حتي يخيل إليه أن أعراض المرض تنتابه‏..‏ هو خائف أن يكون مصابا بالهذيان الصوتي‏,‏ ويصيبه الذعر عندما يتصور نفسه يقطع الشوارع بسيارته لعيادة صديقه القديم‏..‏ يخاف أن يستلقي أمامه علي الشيزلونج الجلدي الأسود‏,‏ ويأخذ في قيء ذكرياته المحفورة في الداخل‏..‏ ستثب الابتسامة التي يدرك مغزاها الساخر في الوجه المستدير الأبيض‏,‏ ويحوز في النهاية علي روشتة بها أنواع المهدئات والمنومات‏.‏
كيف يقول أنه يستيقظ مفزوعا كطفل في نفس الموعد كل يوم إثر صوت يسمعه وحده؟ حين يمضي سيجلس الطبيب ليبني شخصا جديدا ومفزعا له لم يعرفه من قبل‏.‏
فكر أن يستبدل مسكنه ليعود إلي الريف حيث الطمأنينة التي تتراءي له الآن جنة مفقودة‏,‏ لكن كيف له أن يعود بعد أن قطع كل اتصال بأصدقائه القدامي؟ وهو في غمرة تفكيره أتاه نعاس خفيف‏..‏ استرخي فاردا قدميه‏,‏ وفي اللحظة نفسها وبمقياس كوني لا يتأخر طرقت أذنه صرخة مكتومة‏..‏ قام منتفضا‏..‏ أذناه ساخنتان ووجهه مورد‏,‏ حزين‏..‏ لو ظل علي خوفه لفقد عقله إلي الأبد‏..‏ هذه الجريمة إنما تتحداني قال لنفسه‏.‏
كان الضوء خفيفا‏..‏ فتش عن حديدة ثقيلة‏..‏ أطفأ نور الصالة وفتح الباب بحذر‏..‏ فغمت أنفه رائحة دم متخثر لحظة رآه ممنطقا باللاسة‏,‏ والجلباب المقلم المتسخ‏..‏ هاهو عباس حسنين يرمقه باستخفاف في منتصف الليل‏.‏
يمشي بطيئا علي الدرج بوزنه الذي يجاوز المائة والعشرين كيلو جراما وكرشه الذي يمتد أمامه كبالون مصمت‏.‏ يتبادلان نظرة طويلة وفي اللحظة المحسوبة حين يستدير عباس صاعدا‏,‏ تلك الاستدارة التي رسمت من قبل مائه مرة يهوي بكل غيظ علي رأسه الكبير الملفوف باللاسة‏,‏ باليد الحديدية‏,‏ فيتطوح الرجل بين الدرابزين والدرج‏.‏
تنبثق من منخريه المفلطحين‏,‏ وشدقيه الغليظين خيط متصل من الأحمر القاني‏,‏ ثم يستقر مترجرجا أمام الباب‏.‏
يكممه ويسحبه لأسفل‏..‏ يتلفت حوله‏..‏ يلفه في شنطة السيارة‏..‏ يطوي الطرق الطويلة إلي مكان مهجور تسجيه بالرهبة إشارات الضوء من بعيد‏..‏ يخرجه‏,‏ ويسحبه رابطا قدميه بحجر ثقيل‏..‏ يجره إلي منحدر الماء وبخبطة من بوز حذائه يركل الجثة‏,‏ لتستكمل رحلتها الغامضة وسط الأسماك والقواقع‏..‏
كانت نبضات الهواء تلسع وجهه‏,‏ ويؤلمه للمرة الثانية أن يتخيل نفسه في عيادة صديقه القديم يدلي باعترافات جديدة‏,‏ أو وراء القضبان الغليظة لحجرة معزولة‏..‏ ودلو يريح نفسه‏.‏ يرفع سماعة التليفون‏,‏ ويطلب الشرطة‏:‏ ألو‏..‏ أنا المواطن محمود سالم نائب مدير النادي الرياضي‏,‏ قمت الان بارتكاب جريمة كانت تحاصرني وبيدي سلاح الجريمة أحفظه‏,‏ أرجو لو ترسلوا فريقا للتحقيق أدلي ببقية اعترافي‏..‏
قرر أن يستبدل بتلك الطريقة العقيمة التي لن تتيح له الاستمتاع بليال ساكنة بلا صوت طريقة أخري‏..‏ سيقول واضعا منديلا علي سماعة الصوت‏:‏
ألو‏.‏ أنا فاعل خير يا أفندم‏..‏ هاكم جريمة بشعة ارتكبت‏,‏ وألقي القتيل في ترعة المياه المارة بجنوب المدينة‏,‏ مقبرة القتلي كما تعرفون‏,‏ والمجرم يجوب الشوارع‏..‏ سلاح الجريمة لا يزال في يده إلا انكم ستدورون وتدورون كلعبة مملة ارتكبت بعناية‏.‏
يقفل الخط قبل أن تسمح مدة المكالمة بتتبع مصدر الصوت‏..‏ سيوقظ زوجته وأولاده ليخبرهم بقضائه التام علي مصدر قلقه‏.‏
كانت الأصوات قد بدأت تهل علي رأسه ضعيفة‏,‏ وتوالت متداخلة وعنيفة في رأسه فيما اندفعت السيارة بأقصي سرعتها‏.‏
فكري عمر الدقهلية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.