عاصم الجزار: "الجبهة الوطنية" يعكس الهوية المصرية ويدعو لتفعيل المشاركة السياسية الواعية    متحدث "مياه الجيزة": عودة المياه تدريجيًا.. وحل الأزمة خلال ساعات    رئيس حزب الجبهة: الدول التي تسقط لا تنهض مجددًا وتجربة مصر العمرانية الأنجح    ترامب : نرفض اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين    برلماني: كان الأولى إغلاق السفارات الإسرائيلية ولكنهم ينفذون أجندة صهيونية    الأهلي يهزم إنبي 2-0 استعدادا لانطلاق مباريات الدوري    أمن أسوان يبحث لغز العثور على جثة شاب بين العمارات بمنطقة الصداقة    مدير "بروكسل للبحوث": فرنسا فقدت ثقتها في حكومة نتنياهو    خبراء ودبلوماسيون: أمريكا تعترف بالمجاعة فى القطاع بعد كلمة الرئيس بشأن فلسطين    يبدأ العمل بها 1 أكتوبر .. تعرف علي أسباب إنشاء المحاكم العمالية بالمحافظات واختصاصاتها    «شيكودى» يغيب عن بتروجت 3 أشهر للإصابة    ترامب: عقوبات جديدة على روسيا ما لم تنه الحرب في 10 أيام    المؤبد لتاجر وتغريمه مبلغ 200 ألف جنيه للاتجار في الهيروين بالقليوبية    «التعليم» تحدد موعد بداية العام الدراسي الجديد 2025-2026.. (الخريطة الزمنية)    إصابة 3 أشخاص بطلقات نارية فى مشاجرة بمدينة إدفو بأسوان    السفير المصرى لدى لبنان يعزي النجمة فيروز في وفاة نجلها زياد الرحباني    "جالي فيروس".. صبري عبد المنعم يكشف تطورات حالته الصحية    عمرو دياب vs تامر حسني.. من يفوز في سباق «التريند»؟    السياحة: وضع خطة تسويقية متكاملة لمتحف الحضارة    خالد الجندي : الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    أمين الفتوى : الشبكة ليست هدية بل جزء من المهر يرد فى هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟    تحذير عالمي| سرطان الكبد يهدد جيل الشباب    لمرضى التهاب المفاصل.. 4 أطعمة يجب الابتعاد عنها    سعر ومواصفات 5 طرازات من شيرى منهم طراز كهرباء يطرح لأول مرة فى مصر    الغندور: صفقة تاريخية على وشك الانضمام للزمالك في انتقال حر    نقابة المهن التمثيلية تهنئ الفائزين بجوائز الدولة التقديرية فى الفنون والآداب    رئيس جامعة برج العرب في زيارة رسمية لوكالة الفضاء المصرية    نصائح للاستفادة من عطلات نهاية الأسبوع في أغسطس    مبابي ينتقل لرقم الأساطير في ريال مدريد    حكم الرضاعة من الخالة وما يترتب عليه من أحكام؟.. محمد علي يوضح    محافظ الدقهلية يهنئ مدير الأمن الجديد عقب توليه منصبه    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    تأجيل محاكمة المتهم بإنهاء حياة شاب بمقابر الزرزمون بالشرقية    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    برلمانية تطالب بإصدار قرار وزاري يُلزم بلم شمل الأشقاء في مدرسة واحدة    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    20% من صادرات العالم.. مصر تتصدر المركز الأول عالميًا في تصدير بودرة الخبز المُحضَّرة في 2024    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    مجمع إعلام القليوبية يطلق أولى فعاليات الحملة الإعلامية «صوتك فارق»    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي درب البلاد البعيدة

كائن أعرفه كما أعرف تماما صوت بطني لحظة جوع ممض‏.‏لا أدري متي وأين وكيف بدأت علاقتي به‏.‏ لكن المؤكد أنه ظل يلازمني عبر أغلب مراحل حياتي المختلفة‏.‏ مرة أقول من باب العزاء لنفسي انه‏(‏ يا صابر‏)‏ ليس سوي وهم‏.‏ مرة أخري يخال لي لسبب أو لآخر أنه عصي علي رؤية كل الناس
ومع ذلك‏,‏ كنت ولا أزال أراه دائما هنا أو هناك‏.‏ يجلس قبالتي داخل مركبة عامة‏.‏ يمشي الي جواري بخطي أثيرية منصتا لوقع قدمي علي جانب شارع مقفر آخر الليل‏.‏ أو ينطوي علي نفسه بمعدة خاوية عند ركن معتم من احدي الغرف الكثيرة التي أنفقت فيها سنواتي المقتربة من الستين حثيثا‏.‏
زوجتي ماريا التي تصغرني بنحو عشرين عاما تقول انها لا تراه‏.‏ ولكن تتفهم من واقع خبرتها الخاصة ما يحدث لي‏.‏ قالت ذات مساء بعيد كمن يحاول جاهدا أن يمحو أسي بأسي ان والدها الذي جاء الي كندا لاجئا من ضواحي احدي مدن بوليفيا المجهولة قبل أربعين عاما يراه بدوره بالملامح الحزينة نفسها لكلب جائع حتي الممات‏.‏
وقتها سأل الممرضة المتابعة أن تتركه وحيدا في غرفته الكائنة داخل أحد المباني السكنية المخصصة لكبار السن في المدينة‏.‏ قال لها فيما يشبه اللغز وهو يغمز بعينه اليسري كعاشق عريق انه يتوقع زيارة خاصة لن تأخذ من وقته الكثير‏.‏
بعد نحو الساعة تقريبا عادت تطرق الباب قبل أن تدفعه الي الداخل برفق‏.‏
كان هناك‏,‏ يتمدد علي سريره الصغير بلا حراك‏,‏ وعلي فمه شبح ابتسامة‏.‏ ماريا قالت ما لايزال يثير حيرة الممرضة لحظة أن أخبرتها برحيل والدها أنها لم تكن تتوقع أن الموت يمكن أن يكون قريبا الي هذه الدرجة من رجل ظل يأكل علي ذلك النحو حتي وهو علي أعتاب الثمانين‏.‏
أذكر في أحد أيام هذا الشتاء أننا دعونا زوجين شابين من جماعة مسيحية تنتمي اليها زوجتي تدعي شهود يهوا لتناول وجبة الغداء في مطعم صيني قريب‏.‏ كانا قد حضرا من السلفادور قبل نحو عام كمهاجرين جديدين‏.‏ فجأة أخذ الزوج يتحدث عنه‏.‏ بينما أخذت زوجته توافقه بايماءه حزينة برأسها من حين الي حين‏.‏
قال‏:‏ كانت أمي تشعر بفم صغير يمتص من ثديها الآخر كلما شرعت في رضاعتي‏.‏ فم أشبه بالظل في ليالي الريف الداجية‏.‏ لاتراه‏.‏ لكنه موجود دائما هناك‏.‏ ما ان تغمره بقعة من الضوء حتي يطل بعينين جاحظتين وجسد منهك هزيل كما لو أن الطعام لاوجود له في هذا العالم‏.‏
كنت أصغي اليه بحواسي كلها قبل أن أنتبه علي حين غرة الي تلك الغلالة الرقيقة وهي تظلل عيني ماريا كغيمة علي وشك الهطول‏.‏
بعدها مضت الدقائق ثقيلة متباطئة‏.‏ وبدا أن لا شيء آخر يمكن أن يقال‏.‏ فقط كانت تسمع الضجة الأليفة لآنية الطعام‏.‏ وذلك اللغط الحميم المتناهي من الموائد المجاورة من آن لآن‏.‏
حين بدأت أتطلع الي ندف الجليد المتساقطة في الخارج كعادة قديمة‏,‏ رأيته وهويلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الاضاءة الخافتة‏.‏ لعلك تراه في هذه اللحظة‏,‏
سألني الزوج بشيء من الحزن‏,‏ وقال‏:‏ يا الهي‏,‏ خلت أنني تركته ورائي هناك‏!.‏
في ذلك المساء‏,‏ قالت ماريا ان والدها في أيامه الأخيرة كان يراه مثل رجل نحيل يشبه حطام ذكريات بعيدة مات معظم أطرافها‏.‏ وما ان يراه حتي يضرب بنصائح الأطباء عرض الحائط‏.‏ ويشرع لسبب ما في تناول كميات كبيرة من الطعام تكفي في كل مرة لاشباع كتيبة منهكة من جيش الكولونيل جرمان بوش أيام حربه الضروس التي أوصلت جوالبرتو فيلارول الي سدة الحكم قبل أن يتحول الأمر برمته في ظرف أقل من ثلاث سنوات الي كارثة ألقت بوالدها في أحد المطاعم الكندية غاسلا للأطباق وسط الكثير من الآمال الثورية الغابرة‏.‏
لا أذكر قط أنني سمعته وهو يتكلم طوال علاقتي الممتدة معه‏.‏
كان عادة ما يجلس حزينا يتأملني وأتأمله في صمت‏.‏
ذات مرة رأيته في القاهرة وهو يطل من عيون أطفال في أسمال بالية كانوا يحدقون من بعد في فترينة لعرض الحلويات في شارع مزدحم‏.‏ أو هكذا خيل الي‏.‏ المشاعر وحدها تطل من العيون‏.‏ وهو شيء كائن‏.‏ له ملامح ووجود يحجبه القرب الشديد غالبا‏.‏ قيل انه لا يظهر سوي لأناس يعايشون ظرفا كالذي عايشته معظم أيام عمري‏.‏ الآن‏,‏ ما الذي يجعله يلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الاضاءة الخافته؟‏.‏
انه يظهر لك في هذه اللحظة‏(‏ ياسابر‏),‏ تقول ماريا بأسي‏,‏ وتضمني اليها طويلا‏,‏ يحدث ذلك علي الأرجح حوالي الثالثة بعد منتصف كل ليلة تقريبا حين تفتقد وجودي الي جوارها داخل غرفة النوم بعد فترة قد تطول أو تقصر‏.‏
آنداك‏,‏ كان أول ما أحس رائحة جسدها الدافئة وهي تتسلل الي أنفي من وقفتها حافية القدمين داخل أحد قمصان نومها بينما تميل مستندة بكتفها اليسري الي باب المطبخ المشرع تراقب بحنان غامر محاولة تجاهلي له ببحث مضن عن شيء آخر لا وجود له أتصور وقتها أنني سأعثر عليه مختبئا داخل درج ما‏.‏
خفاء
أشعر كما لو أنها تريد أن تقول لي شيئا‏.‏
قبلها‏,‏ قمت بمراجعة مكتب الأمن في المستشفي‏.‏ سألتهم عما إذا كنت سأعمل الليلة كحارس موفد من الخارج في عنبر المرضي النفسانيين‏,‏ أم سأذهب لمراقبة أولئك المصابين بداء الصدر؟‏.‏
كان وجودي‏,‏ الي جانب أولئك المصابين بخلل في عقولهم‏,‏ يجعلني أشعر‏,‏ في كل مرة‏,‏ كما لو أنني أجلس الي شيء قابل للانفجار في أي لحظة‏.‏
كالعادة‏,‏ اذا لم تكن هذه هي المرة الأولي لك هنا‏,‏ فكل ما عليك القيام به هو أن تجلس وتراقب حركة المصابين بمرض‏(‏ ام‏.‏ آر‏.‏ آي‏.‏أس‏)‏ المعدي‏.‏ تأكد فقط من أن أولئك المرضي يضعون قناعا طبيا واقيا في حال مغادرتهم لغرفهم للتمشية أو التدخين أو لأمر آخر‏.‏ لايهم‏.‏
ذلك ما ظلوا يخبرونني به عادة داخل المكتب حين أوفد الي قسم الأمراض الصدرية‏.‏ ما يثير حيرتي أن رئيس وردية الليل المداوم في الموقع ظل في كل مرة يعطيني الانطباع نفسه كما لو أنه يراني كحارس زائر للمرة الأولي في حياته‏.‏
لم يعد ذلك يحزنني كثيرا‏.‏
لقد عن لي أحيانا أن أسألهم في المكتب الرئيسي القيام بتثبيتي في موقع واحد عوضا عن التنقل المنهك بين الورديات ومواقع الشركة المنتشرة بطول المدينة وعرضها‏.‏ لكنني لم أفعل ذلك حتي الآن خشية أن أواجه بعبارة عسكرية صارمة‏:‏ الامر برمته يعتمد هنا علي‏(‏ الأقدمية‏).‏
الثانية بعد منتصف الليل‏.‏ لم يحدث أمر ذو بال بعد‏.‏ منذ قليل‏,‏ تناولت وجبة خفيفة‏.‏ بعدها‏,‏ أخذت أمشي جيئة وذهابا داخل العنبر‏,‏ من غير هدف معين‏,‏ قبل أن أعود الي مكاني في انتظار أن يحدث شيء ما‏,‏ أعلم من واقع خبرتي المحدودة أنه قلما يحدث‏.‏
هناك‏,‏ في ذاكرتي‏,‏ لاتزال تومض ملامح باهتة من معالم الوطن البعيد‏,‏ مثل وجه مراهقة منحتني ذات مساء فمها عبر حبل الغسيل خلسة‏.‏ لقد بدا الأمر لي في الآونة الأخيرة كما لو أنني أسير داخل حلم لا نهاية له‏.‏ انه تعب المنفي‏.‏
كنت أجلس اذن عند نهاية الطرقة الطويلة المضاءة‏,‏ التي تطل عليها من الجانبين غرف المرضي الموصدة‏,‏ التي أخذ يتناهي من داخلها بين فترة وأخري سعال جاف مكتوم‏,‏ عندما رأيتها لأول مرة وهي قادمة من ناحية مدخل العنبر المواجه لجلستي تلك‏.‏
لسبب ما‏,‏ وهي تقترب مني أكثر فأكثر‏,‏ وجدتني أفكر فيها كوجبة شهية علي مائدة الغد‏.‏ شفتان شهوانيتان‏.‏ ربعة‏.‏
ممتلئة العود قليلا‏.‏ متوردة الخدين‏.‏ لها نظرة الغرباء الحزينة الساهمة حتي وهي تنظر ضاحكة الي محدثها‏.‏ بدا من ملامحها وهيئتها العامة أنها ممرضة فلبينية علي أبواب الثلاثين‏.‏
حتي اللحظة الأخيرة‏,‏ لم أكن واثقا أنها تقصدني في جلستي تلك‏.‏ لقد تعودت لفترة طويلة علي أن لايراني الناس‏.‏
لكنها لدهشتي الشديدة حيتني بتردد‏.‏ وبدت مترددة أكثر في الجلوس قبل أن تلقي بثقلها كله علي مقعد جلدي الي جواري‏.‏
لا أذكر آخر مرة وجدتني أنعم فيها بكل ذلك القرب الحميم من أنثي‏.‏
مضت دقائق من صمت‏.‏ غالبت خلاله أريج عطرها الخفيف الآسر‏.‏ لم أعثر للأسف علي أدني قدر من تلك القوة اللازمة لبدء حوار من أي نوع‏.‏ ظننت قبلها أن الليلة كلها لن تسع حجم الكلمات المختزنة في داخلي‏.‏ ومع ذلك‏,‏ وددت فقط لو أنني أضع يدي علي يدها‏,‏ ثم أخبرها بصوت خافت أنه بعد انتهاء هذه الوردية لن أجد أبدا من تنتظر قدومي في البيت‏,‏ هناك‏.‏
كانت قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل بقليل‏.‏
الحركة داخل العنبر لاتزال خافته متباعدة‏.‏ كنت لا أزال أنظر اليها من طرف خفي والتفكير فيها كوجبة شهية علي مائدة الغد يعاودني‏.‏ وقد زاد من أواره كل ذلك السكون المحيط‏.‏ فجأة‏,‏ سألتني ان كنت أعرف شخصا من‏(‏ آفركا‏)‏ يدعي‏(‏ باتريك‏)‏ ظل يعمل لنفس شركة أمن الحراسات الخاصة التي أعمل لحسابها‏.‏
لم تكن نظرتها ساهمة حزينة هذه المرة‏.‏ كانت نظرة تجمع‏,‏ في آن‏,‏ وهي تنفذ بتوسل الي أعماقي السحيقة النائية‏,‏ ما بين اليأس والرجاء‏.‏ كانت نظرة سيدة متعبة تنتظر اجابة قدرية‏.‏
لا‏,‏ ياسيدتي‏,‏ للأسف‏,‏ لا أعرف شخصا بهذا الاسم‏.‏
مضت دقائق أخري من الصمت‏.‏ كنت أستدير نحوها هذه المرة بنصفي الأعلي كله‏.‏ كانت تبتسم وهي تشيح بوجهها نحو احدي الغرف محاولة اخفاء ستارة الدموع الخفيفة التي أخذت تظلل عينيها السوداوين علي حين غرة‏.‏ قلت‏,‏ في نفسي‏,‏ وأنا أتتبعها بناظري الي نهاية الوردية‏,‏ وهي تدلف من غرفة لغرفة‏,‏ أنا أيضا‏(‏ يا سيدتي‏),‏ أضعت فيما مضي حبا عظيما هنا وهناك‏.‏
لغة
حدث في الماضي القريب وأن قامت شركة أمن الحراسات الخاصة التي أعمل لحسابها منذ سنوات عديدة بتدريب حارس نحيف كعصا الراعي يدعي‏(‏ نورمين‏)‏ علي العمل كبديل في حال أن مرض أحدنا أو تغيب عن الموقع لسبب أو آخر‏.‏
بدأ ذلك للوهلة الأولي خطوة روتينية عادية‏.‏ لم تلفت الانتباه في كثير‏,‏ أو قليل‏.‏ وما جري بعد ذلك دفعني‏,‏ كمثقف متقاعد‏,‏ الي التفكير طويلا في طبيعة النفس البشرية‏,‏ بلا طائل‏.‏
جيف‏,‏ الأمريكي الأصل‏,‏ بعد أن رأي نورمين أمامه لأول مرة‏,‏ قال لي بصوته الجهم الغليظ‏:‏لوجه كل انسان في هذه الحياة كلمة تماثله‏,‏ كما لو أنها تنتظر ميلاده منذ بدء الخليقة‏,‏ وكلما رأيت هذا الحارس الجديد‏,‏ تقفز الي ذهني عبارة‏(‏ قابل للصفع‏).‏ لقد عبر جيف وقتها بدقة متناهية عن طبيعة العلاقة المستقبلية المحتملة بينهما‏.‏ وهو في هذا ليس نسيجا وحده‏.‏ أجل‏,‏ نورمين هذا يا أخي عبارة عن غباء مطلق يسعي علي قدمين اثنتين‏,‏ تصور؟‏.‏
هكذا‏,‏ أخبرني بدوره زميلي توماس من غانا بعد ساعتين فقط من قيامه بتدريب الحارس البديل علي كيفية التحكم في مداخل ومخارج المبني آليا‏.‏
ما أسر لي به وقتها أنه غدا من دواعي دهشته الحقيقية في هذا العالم أن يري رجلا أبيض بمثل كل هذا الغباء‏.‏ لكن الأكثر اثارة للدهشة بالنسبة لتوماس كان يتمثل في أنه بدأ يتخيل منذ الآن تعابير الارتياب التي يمكن أن تظهر علي ملامح ذويه من ضواحي العاصمة أكرا بمجرد أن يحكي لهم أثناء اجازته المرتقبة عن غباء رجل أبيض يدعي نورمين‏.‏
حكا لي ساعتها أن أجداده‏,‏ في سالف الزمان‏,‏ قد قاموا من قريتهم برحلة بالدواب استغرقت أكثر من يوم وليلة‏,‏ للتأكد فقط من صحة شائعة مفادها أن أحدهم شاهد رجلا أبيض يتغوط في العراء غير بعيد من شجرة الأرملة‏(‏ الضاحكة‏).‏
لقد تيقن القوم وقتها من وجود حقيقة مهمة في هذا العالم مفادها أن الخراء بعد هذه اللحظة التاريخية الحاسمة ليس خاصية يمكن أن تلحق بالانسان الأسود وحده‏.‏ بيد أن بعض عقلائهم قد حذر من امكانية أن ينطوي الأمر برمته علي خدعة‏.‏ لا سيما وأن عددا من السحرة المحليين من أمثال يبواه لهم في الواقع خاصية التلون بجلود مختلفة‏.‏
الحق‏,‏ أحدث نورمين خلال الأيام التي تغيبت خلالها بروكلين التي أصيبت بنزلة برد حادة فوضي عمت المجمع البنكي بسوقه التجارية الضخمة بأسره‏.‏ كانت التقارير تتري من كل حدب وصوب علي المكتب الرئيسي في شارع برودواي‏.‏ ومع ذلك‏,‏ بدا لأمر أو لآخر أن لا غني عن هذا النورمين‏.‏ حتي أنني بدأت أصدق تلك الشائعات التي ظلت تحيكها بروكلين ببراعة شديدة عن عناد ذلك المكتب وعنجهيته كلما سنحت الفرصة‏.‏
كانت تتحدث عادة علي نحو فلسفي بدا لي وقتها لسبب ما كأمر لا يتناسب وتكوين صدرها الكبير الضخم المكتنز‏,‏ قائلة بتذمر أخذ يخمد بمرور الوقت شيئا فشيئا‏:‏ انهم هناك في المكتب الرئيسي هكذا‏!,‏ اذا قلت لهم أريد هذا الشيء‏,‏ يقولون لك بكل برود ممكن‏:‏ لا‏.‏ واذا قلت لهم لا أريده‏,‏ يقولون لك هذه المرة بوقاحة تامة‏:‏ لا‏,‏ يجب عليك أن تأخذه‏,‏ انها ارادة القوة‏0(‏ يا صاح‏).‏
لقد كادت أفعال نورمين الخرقاء تلك تدفع بجيف الي الجنون في أوقات كثيرة‏.‏ كيف لا؟ وجيف بطبعة حاد المزاج‏,‏ قابل للاشتعال في أيه لحظة‏,‏ وبالكاد يسيطر علي ما تبقي له من أعصاب‏,‏ ولولا صرامة القوانين الكندية لتصرف في كثير من الأحيان كما لو أنه يسلك في أحد الشوارع الخلفية لمدينة نيوريورك التي ولد ونشأ فيها لأبوين من أصل ايطالي نسيا علي ما يبدو في زحمة أيامها أن ينقلا اليه شيئا من لغتهما الأم‏.‏
ويبدو أنه‏,‏ مع مرور الوقت‏,‏ وتراكم أخطاء الحارس البديل القاتلة‏,‏ حسبما ورد في سياق أحد التقارير الأكثر تشاؤما‏,‏ قد وجد متنفسا لا يخلو من طرافة لكم المشاعر السلبية التي ظل يحدثها نورمين في داخله من حين لحين‏.‏ كان يسألني في أوقات الراحة علي وجه الخصوص بنوع من الغبطة الطفولية عن معني مقابل لبعض المفردات والعبارات في العربية‏.‏
هكذا‏,‏ ما ان يقع بصره علي نورمين حتي يرميه بما تعلم للتو من لغة الضاد بلهجة لا يعلمها سوي الله‏.‏ كان يشير اليه عادة بسبابة مستقيمة تكاد تلامس أرنبة أنفه‏,‏ قائلا‏:‏
غبي غبي‏.‏
نورمين المسكين‏,‏ ظل يفتح في العادة فمه علي اتساعه‏,‏ قبل أن يرد عليه‏,‏ قائلا بطيبة وحيرة لا متناهية‏:‏
المعذرة‏,‏ يا جيف‏,‏ أنا لا أفهمك‏.‏ بيد أن جيف كان يري في رده في كل مرة مبررا آخر لمواصلة السباب بالعربية‏:‏
قذر قذر‏.‏
حين يعجز نورمين عن الفهم هذه المرة أيضا لايجد جيف أمامه من حيل أخري سوي أن يتحول الي لغته الانجليزية الأم شاتما‏:‏ صن أوف ذا بيتش‏.‏
لكن الأمر قد بدا بالفعل في سبيله الي أن يتحول بعيد سفر توماس الي غانا الي ما قد لاتحمد عقباه‏.‏ آنذاك‏,‏ جاءني جيف‏,‏ في المكتب الصغير المكتظ بشاشات المراقبة وأزرار التحكم من بعد‏,‏ وهو يكاد يتميز من الغيظ مقسما أنه لابد وأن يضرب نورمين الغبي مهما كلفه الأمر‏.‏
لماذا‏,‏ سألته بشيء من حيلة الغرباء ومكرهم‏.‏ جيف صمت لحظتها مسافة قبل أن يسألني عن معني عبارة أخري في العربية‏.‏ قال بعدها بخليط من اللغتين الانجليزية والعربية‏:‏ اذن هي‏(‏ ارادة الله‏)‏ أن أضرب نورمين الغبي‏.‏
ملف داخل كومبيوتر محمول
مضي الآن أكثر من ساعة علي بداية الوردية‏.‏
زميلي‏,‏ مايكل‏,‏ لا يزال هناك‏,‏ يتفقد الأوضاع عبر طوابق المبني‏.‏ يحمل في يده جهازا صغيرا يدعي البايب‏.‏
يضغط به علي دوائر معدنية صغيرة تتوزع علي أرجاء الطوابق الأحد عشر العريضة الممتدة كخواطر سجين‏.‏
في الصباح‏,‏ يأتي تيري‏,‏ الرئيس‏,‏ بقامته القصيرة‏,‏ يفرغ محمولات الجهاز علي الكمبيوتر بعناية ودربة‏,‏ ليعلم علي وجه الدقة في أيه ثانية كنا بين دائرة معدنية وأخري‏.‏
بعد نحو الساعتين تقريبا‏,‏ حين يعود مايكل من جولته التفقدية ليتبادل معي المواقع بوجه مرهق بائس حزين‏,‏ سيشرع كعادته وهويدفع نحوي حزمه المفاتيح والبايب دفعة واحدة في شتم مايكروسوفت‏,‏ قائلا‏:‏
شكرا بيل جيتس أبانا الحديث‏.‏
لاأزال‏,‏ أدخن أمام الواجهة الزجاجية المصقولة للمبني الحكومي الضخم كحارس ليلي أتعبه الغناء‏.‏ لاشيء يتحرك قبالتي علي مدي كتل الجليد المترامية هنا وهناك‏.‏ لاشيء يطرق أذني سوي أزيز المراوح الهوائية المتناهي من الطبقة تحت الأرضية في صوت مكتوم ورتابة‏.‏ شجية هي يا أماندا أغاني الهنود الحمر‏:‏
من كان يغني هناك؟
بدأت أنصت لحظة أن غادرني مايكل مباشرة الي احدي مقطوعات تايتنك‏.‏ مأساة أولئك الذين ذهبوا في ذروة تشبثهم بالأمل الي قاع المحيط قبل نحو قرن ولم يعودوا‏.‏ أيه لوعة‏,‏ بل أيه وحشة‏,‏ لعين في برودة الماء وحلكتها تشد اليها طوق نجم بعيد؟‏.‏
الموت وحده لايخيفني‏.‏ يخيفني ياأماندا الموت وحيدا‏.‏
اتذكر علي نحو غامض وجه شاعر طيب من مصر يدعي صلاح عبد العزيز‏.‏ ولا افطن الي أنني منذ لحظات قليلة أدلف عبر موسيقي البلوز الي حزن من نوع آخر‏.‏ هكذا‏,‏ أرهف أذني لانات أولئك العبيد العائدين من حقول القطن في جورجيا أو مسيسبي‏.‏ وقد خالجهم شعور ممض أن لا شيء سينتظرهم عند مراقدهم الفقيرة المعدمة بعد نحو خطوتين أو ثلاث‏,‏ سوي الرهق‏,‏ أو الحنين‏.‏
فجأة‏,‏ يعم صخب احدي أغنيات الهيب هوب‏.‏
كانت قد تركتها لي علي الجهاز ومضت‏.‏ مؤسف أن أغادر العالم يا أماندا بلا قدرة حقيقية علي الرقص‏.‏ أحيل بصري ما بين أجهزة الكمبيوتر والمراقبة‏.‏ تغشي عيني غلالة من نعاس‏.‏ وهناك في قلبي المتخم ببقايا اللحظات الأخيرة‏,‏ أخذ يتمدد ظل لغناء قديم‏:‏
يا أنيس الحسن‏..‏ يا عالي المكانة
أهدي لي من فضلك نظرة أو برتكانة
ثمة حاجة ماسة الي غناء من نوع آخر‏.‏ أواصل الضغط عليالماوس‏.‏ يتراءي لي وجهها في هذه اللحظة مثل حلم بعيد المنال وغائم‏.‏ أخيرا أعثر علي أغنية قديمة للكندية سيلين ديون‏.‏ أيه رغبة غريبة في الفرح والحياة تتخلل كياني الآن‏,‏ أيه مشاعر ظلت مختزنة نحوها لاتزال تنمو علي مر السنوات والأيام‏.‏ لكن وجه أماندا أبدا لايغادرني‏.‏
و‏...‏ وجهها‏,‏ يا لغبار النسيان‏!..‏
أفكر ربما يوجد في موسيقي الريجي بعض العزاء‏.‏
أغمض عيني مسافة‏.‏ وجه قريب‏.‏ آخر بعيد‏.‏ وثالث لشاعر‏.‏ أوقف هذا القطار‏.‏ ذلك صوت بوب مارلي وهو يعلن بذات النغم والصوت الآسر الحزين عزمه علي المغادرة‏.‏ أتساءل في سهوم‏:‏
الي أين؟‏.‏
ثمة ندف من جليد خفيف في الخارج تنصب خيمتها فوق المصابيح المضيئة منذ فترة‏.‏ الريح لاتزال ساكنة‏.‏ أبصق في أعقاب آخر الانفاس‏.‏ شأن جدي في زمان بعيد‏.‏ الوجوه التي أوغلت في الغياب شيئا بعد شيء‏,‏ لا تنفك تحضر الي عزلتي كثيرا هذه الأيام‏.‏
أقذف بعقب السيجارة المشتعل بعيدا‏.‏ أراه وهو ينفصل من بين أصابعي مثل علاقة أنهت أواصرها خيانة‏.‏ يتوقد هناك أسفل الجليد الطازج المتساقط خفيفا للحظة وينطفئ‏.‏ أتجه الي الداخل بخطي بطيئة مثقلة‏.‏ أجلس في مكاني المعتاد مواجها المدخل الزجاجي الفارغ‏.‏
مايكل لم يعد بعد‏.‏
عبثا‏,‏ أحاول تذكر ملامح وجهها‏.‏ أضغط علي الماوس في شرود‏.‏ ستكتب عن علاقتنا معا‏,‏ قالت نظرة أماندا ساعة أن غادرتني مرة واحدة والي الأبد‏.‏ وهي تنتحب ما حدث حدث ولا سبيل الآن الي محوه أبتسم بمرارة‏.‏ لكننا آخر الليل نمضي وجوها تنفسها الهواء‏,‏ وقال راثيا الأصدقاء القدامي‏.‏ وهي في كل مرة تضحك‏,‏ وتقول محتجة‏:‏ لا‏,‏ أنا بأهديك نظرة‏.‏ وقتها‏,‏ ألح معاندا مثل طفل كبير‏:‏ لا‏,‏ أنا عايز برتكانة‏.‏ لايزال بريق ضحكتها‏,‏ عبر ركام السنوات‏,‏ يومض في ليل الذاكرة المدلهم‏,‏ كلما أشجتني‏,‏ أو تناهت الي مسامعي‏:‏ تلك الأغنية‏.‏
‏*‏ كاتب سوداني تخرج في جامعة الزقازيق‏,‏ ويعيش بين مصر وكندا واستراليا‏,‏ وصدرت له في القاهرة مجموعة قصصية عنوانها تداعيات في بلاد بعيدة عام‏2002..‏ وهذه القصص من مجموعة جديدة عنوانها ملف داخل كومبيوتر محمول تصدرخلال أياعن دار شرقيات‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.