بيننا وبين بداية الدعوة الإسلامية أربعة عشر قرنا مضت وأربعة عقود, وخلال هذه القرون تبدلت بالبشرية أحوال وأحوال, وقامت دول وزالت أخري, وعرفت الإنسانية أنظمة جديدة لحياتها السياسية والاجتماعية, وكشفت حقائق علمية هائلة غيرت من أساليب المعاش وتواصل الأفراد والأمم تغييرا جذريا, وترقي الإنسان أطوارا بعد أطوار. وقد بقي الإسلام وواصل طريقه في الدعوة والانتشار والتمكن مواكبا هذه التغيرات مستوعبا تلك الأطوار, محافظا علي ثوابته وأصوله, وملائما بين أحكامه وبين ما يجد علي الحياة من أساليب, وثقافات, وطرق معاش, فهو يحمل في أصل تكوينه عوامل خلوده, ومن أهمها أنه يجمع بين الثابت والمتغير, وبين الأصولية والتجديد. لكن الذي يلفت النظر أنه لم يعتمد في دعوته وانتشاره وتمكنه علي أحزاب سياسية أو جماعات تتكون هنا وهناك. ربما تبادر إلي ذهنك ما تعترض به فتقول: إن التاريخ العقلي للحياة الإسلامية يحدثنا عن مذاهب فقهية كالحنفية والمالكية والشافعية, وعن أحزاب متنازعة كالشيعة والخوارج. فأقول لك: أما المذاهب فهي مدارس علمية في البحث التشريعي والفتوي وليست تجمعات منظمة لمواجهة المعارضين للإسلام, وأما الأحزاب فهي أحزاب سياسية كانت تطلب السلطة لا نشر الدين, ولا التمكين له. وربما أمعنت في الاعتراض فقلت: إنه كانت هناك فرق معروفة كالمعتزلة, والمرجئة والجبرية فأقول لك: إنها كانت فرقا تتنازع في التفسير العقلي لبعض النصوص المتعلقة بصفات الله, وبالثواب والعقاب, وبالقدر وحرية الاختيار, فأصحابها أصحاب مذاهب في فلسفة الدين وليسوا أصحاب تجمع سياسي لنصرة الإسلام, وإنما كان شغلها الشاغل نشر أفكارها وآرائها بين المسلمين, وربما لجأ بعضها إلي استعداء السلطة علي الأئمة والعلماء لإكراههم علي القول بما تذهب إليه. وربما زدت إمعانا في الاعتراض فقلت: إنه نشأت في مراحل من تاريخ الإسلام جماعات ظاهرة, وجماعات سرية كالقرامطة والباطنية, والحشاشين, وإخوان الصفا, فأقول لك أما الجماعات الثلاث الأولي فقد كانت جماعات سياسية تتذرع بمعتقدات دينية تتأولها تأولا من أجل الوثوب إلي السلطة, وقد ابتلي الإسلام والمسلمون بها شر ابتلاء, وتصدي لها الأئمة الكبار كأبي حامد الغزالي وابن تيمية, وحاربتها الدولة وعانت في حربها أمدا طويلا, وأما الجماعة الرابعة فهي جماعة فلسفية, أرادت أن تخلو إلي نفسها في البحث مدعية الأرستقراطية الفكرية لتري ما تشاء برؤية عقلية صرفة بعيدا عن مجادلة الجماهير, ولم تضم إليها غير أعضائها الذين ظلوا مستترين ومجهولين عصورا عديدة, ولا يزال النقاش يدور حول أسمائهم بين الباحثين, فهي إذن ليست جماعة سياسية وليست جماعة دعوية, وخلاصة القول أن كل هذه الجماعات والأحزاب لم يعتمد عليها الإسلام لا دعوة ولا انتشارا ولا تمكينا. وقد ظهرت الأحزاب السياسية في مصر خلال الحقبة الاستعمارية لمقاومة الاحتلال, أي تحت تأثير دوافع وطنية خالصة, وقد ساعد عليها بزوغ فكرة الدولة الوطنية في العالم الإسلامي, ولكن ظهرت بجوار هذه الأحزاب جماعات دينية متعددة, وامتزج المؤثر الوطني بالمؤثر الديني في البطانة الوجدانية عند من أنشأوا هذه الجماعات الدينية, وعند من انضموا إليهم خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية, وشعور المصريين بالحاجة إلي استرداد الذات الوطنية والقومية, والعودة إلي جوهر الثقافة المتمثل في العقيدة الدينية, والتراث التاريخي لمقاومة تأثير الثقافة الغربية التي تنهمر كالسيل الجارف, فكانت هذه الجماعات تدعو إلي العودة للأصول, وإقامة الشريعة, والاقتداء بالسلف الصالح, علي الرغم من اختلاف نزعاتها فيما تتصوره عن مفهوم: السلف الصالح وما كان عليه هذا السلف. ولظروف سياسية لا يتسع المجال لتحليلها تطور نشاط بعض هذه الجماعات, فاختلط عندها العمل الدعوي بالعمل السياسي, ووقر في أذهان أتباعها أنها لن تحقق أهدافها الدينية إلا بالوصول إلي السلطة, وهنا مكمن الخطر, وأصل البلاء, بل هنا الخديعة لأنفسهم ولعامة الشعب, فلم يكن التمكين للإسلام مرهونا بوصول دعاته إلي السلطة في أي عصر من العصور, بل إنه قد يكون مدعاة للانزلاق إلي دولة استبدادية دينية بشكل ما. وأصبح الأمر ملتبسا علي من يشاهد الأحداث: أهم يريدون التمكين للإسلام أم يريدون التمكين لأنفسهم ولجماعاتهم؟! فقد قويت نزعة العمل من أجل الوصول إلي السلطة علي نزعة العمل الدعوي الديني. بل أصبحت الدعوة الدينية تسخر من أجل بلوغ السلطة تحت شعارات تنادي بأن تكون للإسلام السيطرة وأحقية قيادة العالم قيادة حكم وسياسة خاصة بعد انتشار ترجمة مؤلفات أبي الأعلي المودودي إمام الجماعة الإسلامية الباكستانية, ولم يدرك الكتاب المصريون الذين كانوا يدعون إلي هذا النوع من الفكر الديني ما حدث من تطور في حياة المجتمع الثقافية, أو ربما أدركوه وتجاهلوه, ومما يدعو إلي العجب أن بعضهم كان مشاركا في صنع هذا التطور الثقافي في بدء حياته الأدبية وردح طويل منها, وقد وصف العقاد هذا التحول المتناقض بإرادة الغفلة. أما التطور الجديد الذي أعنيه فهو أن الصراع بين الثقافتين: الغربية الوافدة, والعربية الإسلامية الأصيلة قد انتهي إلي ابتكار ثقافة مصرية جديدة تمتزج فيها الثقافتان في تناغم وانسجام. وهذه هي العبقرية المصرية التي تجلت في جهود الرواد. وخرجت مصر من هذه الحقبة, وهي تامة الشعور بشخصيتها الوطنية واستقلالها الروحي والسياسي, وأري أنه إذا كان لنشاط هذه الجماعات السياسي مسوغ فيما مضي, فلم يعد له مسوغ اليوم, وإن عملها الواجب عليها الآن هو أن تعود إلي النشاط الدعوي التثقيفي غير مستعينة بأذرع سياسية حزبية, علي شرط أن تدرك طبيعة المرحلة الجديدة, فالمجتمع المصري بحاجة إلي مزيد من التعلم والتعليم, وإلي إنضاج الرؤية الثقافية التي تجمع بين الاستنارة والتدين في وقت واحد, نحن بحاجة إلي رواد جدد في العلم والفكر أكثر من حاجتنا إلي طلاب سلطة متنازعين, نحن بحاجة إلي أن تفرز مصر من بين أبنائها معلمين وهداة فكر لا إلي زعماء سياسيين ربما قالوا فلم يفعلوا, ووعدوا فلم يوفوا.