يبدو الظهور اللافت للتيار السلفي في الآونة الأخيرة، وإعلانه التخلي عن واحدة من قناعاته الفكرية، التي تعتبر العمل السياسي من «المفاسد»، كمناسبة للتعرف علي توجهات خطابه حول التراث والآخر والواقع، ومدي إسهامه في صوغ حركته، بما قد يفتح علي إمكانية معرفة علمية لهذا التيار، الذي لم توفر الكتابة عنه، قياسا بتيارات إسلامية أخري، جهدا موازيا، وهو ما يدعو إلي إثارة أسئلة من قبيل: ما الذي يعنيه مصطلح السلفية؟ كيف عن نشوئه وتطوره؟ ما هي الخيارات التي يتكئ عليها؟ ماذا عن جماعاته وتنظيماته؟ وأخيرا، ما هي ملابسات موقفه من ثورة يناير؟ يستخدم مصطلح «السلفية» كوصف لتيار إسلامي، يصدر عن تصور للعالم، تنحصر فيه المرجعيات في إطار فهم السلف للقرآن والسنة، سواء كان هذا السلف ما خلفه الصحابة والتابعون، أم الأئمة وعلي رأسهم ابن تيمية وابن حنبل وابن القيم وابن حزم، اعتبارا من أنه «لا تصلح هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها»، وكرد علي تقلص سلطان الإسلام وتراجع فاعليته. وينوّه هنا بأن أثر هذه النزعة السلفية قد امتد كأصل يمارس سلطته حتي الوقت الحاضر، حيث الحكم المبني علي إجماع الصحابة يلزم التابعين ومن بعدهم من المسلمين، جيلا بعد آخر إلي نهاية الزمان، وكذلك إجماع التابعين الملزم للأمة إلي الأبد، ثم إجماع من بعدهم. وهي بهذا الفحوي، ترفض أي بديل إسلامي آخر، يتخذ مسميات التجديد أو الإصلاح أو التحديث، وقد تتهمه بالخيانة، وإن وجدت فئات من التيار السلفي قريبة من هذا البديل، لم تدم طويلا. خلط التراث بالدين وقد ساهم في تغذية هذا التفاصل، عدم وجود خط واضح بين التراث والدين عند السلفية، فيما يتم تعاملها مع التراث وكأنه مفهوم مطابق للدين، وأفضي إيمانها بكفاءة مرجعيتها التراثية، إلي قطيعة مع الغرب، تحولت إلي «عداوة»، مع تشبع الذهن السلفي بنظرية المؤامرة، ومعاينة خصومه داخل المجتمعات الإسلامية علي أنهم متآمرون وعملاء للغرب «الكافر». إذ لديهم، تكرس رؤيتهم السلفية نظرة «الإسلام الصحيح الوحيد»، وتأكيدها كظاهرة مهيمنة، اتصف بها الفكر الإسلامي في معظم مراحله، بل وحالت دون وعي التمدي بغير صورة الصراع الوجودي بين الإسلام والغرب، مما عكس انكماشا علي ذاتها، وتأزما في الثقة بالنفس أمام تيار العصر. وعلي المدي، تبلورت الرؤية السلفية في منظومة فكرية، تحوي مفرداتها الالتزام بحرفية القرآن وفق التقليد الحنبلي، وإحياء الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية وأحكامها في جميع أمور الدولة، وفرض الجزية علي غير المسلم، والاكتفاء بأن يعيش في «كنف» الحكم الإسلامي، ونقاب المرأة، ورفض ولايتها أو ولاية القبطي، وتغيير المنكر باليد، وغياب المسألة الاجتماعية من مدونتها ويشار كذلك إلي غياب مسألة الحرية، كمقابل ضروري لفكرة النظام في تصور هذه الرؤية للسلطة، وهو ما يمكن إرجاعه إلي أن منظومتها الفقهية في مجملها تمحورت حول النظام، بل بالغت في الحديث عن الفتنة ووجوب طاعة ولي الأمر، بقدر ما أغفلت وتغافلت عن تقنين شرط الحرية في مواجهة السلطة. ولقد يكفي للدلالة علي ذلك، إيراد نص فاقع الدلالة لأحمد بن حنبل في وجوب طاعة ولي الأمر، حين ذكر أنه: «من غلبهم بالسيف حتي صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين»، مما يؤكد الدور التشكيلي الطاغي لتاريخ السلطة السياسية في تكريس هذه الطاعة، وأنها من صناعة التاريخ، أو بالحري من بضاعة السلطة. اتساع التحريم وطبيعي أن تقود هذه المفردات إلي اتساع دائرة التحريم، لتشمل رفض التصوف، وبناء الأضرحة، وفوائد البنوك، والاحتفال بالأعياد الدينية، بل تبالغ لتحوي النوم علي البطن، وترقيق المرأة لحاجبيها، وحلاقة الذقن، والألعاب، والموسيقي، والأفلام، ومصافحة النساء، واستخدام الصابون ذي الرائحة، وارتداء الرجال للبنطلونات، والسلام علي الذمي. علي أن المتأمل في هذه النزعة، سوف يلحظ أنها ليست قرون الهجرة الثلاثة الأولي التي يتم السعي إلي استعادتها، واعتبارها الحاضر المرغوب، وإنما هي الحاضر مسحوبا إلي الماضي، وهو ما يقترب من «تمضين الحاضر» إن جاز التعبير. والأمر هنا يتعلق بتنحية الحاضر، حتي إذا ما أصبح هذا الحاضر ماضيا، كان له أن يحكم العصر اللاحق عليه، ما يجعلنا بإزاء معيار زماني محض، يلخص جوهر السلفية كطريقة في التفكير وتيار في الفقه، فيما الماضي لا يقصد به محض النص ولا حتي إجماع الصحابة فحسب، بل وكذلك «الأثر»، أي أقاويل الصحابة ثم التابعين. وبهذا التوجه، يتم تسييد مقولة الاستمرارية التاريخية، وانغلاق التاريخ علي الأمة، بما يحيل السلفية إلي مفهوم ملتبس، في نزوعه بين ماضي يسعي إلي نمذجته وتمثله في الحاضر، وبين حاضر يقع استغلاله باسم هذا الماضي. إضاءة: وإذا كنا لسنا في وارد التقصي التفصيلي الشامل لمسيرة السلفية، فقد يتحدد المسعي في مقاربة هذه المسيرة، بواسطة التعرف علي أهم محطاتها: ولقد كان لظروف النشأة التاريخية التي تبلورت فيها حيثيات سلفية «مدرسة الحديث»، دور في أن تظل هي المدرسة التي عقدت لها السيادة علي العقل المسلم، وهي التي خطت بيدها منظومة الفقه الإسلامي المعتمدة حتي اليوم علي أنها الإسلام، ولقد لعبت هذه الظروف أيضا في لجم الخصومة مع أهل الرأي والاجتهاد، مما كرس النفور من الرأي كمسلك عقلي، ومن التفكير كفريضة إسلامية. ومع تواتر حركات التوالد والانشطار، وظهور الفرق المختلفة في التاريخ الإسلامي، تبلور مفهوم السلفية كتيار يحافظ علي العقيدة والمنهج الإسلامي، طبقا لفهم الأوائل من الصحابة والتابعين والأئمة، ممن عرفوا بأهل الحديث للتمييز بينهم وبين أهل البدع، وأحيانا أخري أهل السنة والجماعة دحضا للاختلاف والفرقة، وتأكيدا للائتلاف والانقياد لأمر واحد، وبرز منهم أحمد بن حنبل الذي رفض دعوات المعتزلة إعمال العقل في الشرع، وأصحاب المذهب الظاهري المعتمد في رؤيته علي الأخذ بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة فحسب، وطرح جميع الأمور «الظنية» الأخري، كالرأي والقياس والاستحسان وسد الذرائع. ومع نهاية القرن الثامن عشر، برزت في نجد بالجزيرة العربية دعوة تسعي إلي استعادة نموذج الدولة الإسلامية الأولي، بواسطة التمسك بظاهر الكتاب والسنة، والابتعاد عن التأويل والاجتهاد، ووجوب إفراد الله بالحكم والتشريع، ورفض أي صور للدولة المدنية القائمة علي القوانين الوضعية، والعودة إلي نهج السلف الصالح، باعتباره نهج الإسلام الأصيل، مع التمسك بأخذ الأحكام من القرآن والسنة الصحيحة، وما نقل عن السلف. ومن هنا جاء مصطلح «السلفية»، وهو المصطلح الذي ينطبق، حتي اليوم، علي كل الجماعات الأصولية التي تستوحي مشروعيتها من خلال الاستناد إلي مقولة «العودة إلي الأصول»، وإن تضمنت في حركتها مجموعة منوعة من المواقف السياسية، تتوزع ما بين محافظين يصرون فحسب علي تنقية الممارسات الدينية، وجهاديين يطالبون بالحرب ضد العالم الغربي كتنظيم القاعدة، ووطنيين وظفوها في النضال ضد الاستعمار، مثلما حدث في المغرب. علي أن حلم استعادة نموذج الدولة الإسلامية الأولي لدي الحركة الوهابية، ما لبث أن تحول إلي دولة سعودية، يرسم معالمها، وبفضل الوفرة النفطية، تنمية ريعية، اتخذت طابع الانتقال «من خشونة البداوة إلي رقة الحضارة» بتعبير ابن خلدون، وتحديث متأخر بوتيرة متسارعة تحت وطأة النموذج الغربي، مع تركيبة قبلية مدعمة بالعقيدة الدينية، وضيق في مساحة الوعي السياسي، وسيادة نمط نفعي ربحي من القيم، منوط بتوجه استهلاكي ترفي وازدواجية أخلاقية. وقد قامت الدولة السعودية بتوسيع رقعة السلفية، بغية قطع الطريق علي التوجهات القومية أو الشيعية أو اليسارية، ونشرت جمعيات لها في العديد من البلدان الإسلامية والغربية. وعقب سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، تمت في مصر إزاحة خطاب الإصلاح الذي أراده الأفغاني وعبده والكواكبي، بما تميز به من وسطية واعتدال، ومصالحة مع العلم والنظام السياسي الحديث، والاعتراف بشرعية المصادر المدنية، وتحرير الوعي من الخرافة، ليحل محله خطاب سلفي صاغه كل من رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، باعتبارهما «آباء» السلفية المصرية المعاصرة. ويشار، في هذا الصدد، إلي حادثة بطلها كاتب أزهري اسمه محمود أبوزيد، قدم كتابا في التفسير بعنوان «الهداية والعرفان»، صودر وقت صدوره، وقدم صاحبه إلي المحاكمة سنة 1917، لأنه ذكر فيه أن آدم ليس نبيا ولا رسولا بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيان، فكان هذا مبررا لكي يوحي رشيد رضا للبعض من أصدقائه برفع شأن هذا الكاتب للقضاء، طالبين التفريق بينه وبين زوجته بتهمة «الردة» واستجابت المحكمة الابتدائية للأحوال الشخصية بمدينة دمنهور، وحكمت بالتفريق بين المدعي عليه وزوجته، ولكن محكمة الاستئناف بالإسكندرية قضت برفض الدعوي ونقض الحكم أول ديسمبر 1918، بعدها، واصل محمد أبوزيد عمله، وأصدر طبعة ثانية لكتابه بعنوان «الهداية والعرفان في تفسير القرآن» سنة 1930، مما أثار مرة أخري حفيظة رشيد رضا، فاتهمه بالكفر والمروق عن الدين، وتشكلت لجنة من الأزهر قررت مصادرة الكتاب، ويلفت الانتباه، أن رشيد رضا في اتهامه للكاتب بالكفر، زعم أنه سرق أفكاره المتضمنة في الكتاب من الشيخ محمد عبده، وهكذا، بين محمد أبوزيد مطلع القرن الماضي، ونصر أبوزيد في نهايته، ظلت خارطة المشهد الثقافي في مصر، ممهورة بدعاوي السلفية الإطلاقية. وعلي أية حال، فمن خلال الشيخين رضا والخطيب، تنامي خطاب سلفي، هدف إلي استعادة الخلافة الإسلامية، وراوح بين صيغة محافظة وأخري راديكالية، تولدت عنهما جماعة أنصار السنة المحمدية المحافظة سنة 1926، وجماعة الإخوان المسلمين الراديكالية سنة 1929، لتتلوهما كيانات أخري. وقد شهدت هذه الكيانات فترات من المد والجزر والحوافز المتاحة لها، وساعد علي انتشارها سيادة الثقافة التقليدية، وتعثر مشروعات التنمية «وظلت في أغلبها، ومنذ نشوئها، تبتعد عن السياسة، وتقصر نشاطها علي الدعوة، واستخدمت دوما لمواجهة خصوم السلطة، وعرفت تنظيماتها اختراق الأمن لها، ولم تتخذ يوما موقفا ضد حاكم جائر، ولا مقاومة للفساد، ولا مشاركة في أي من فعاليات الحركة الوطنية، فيما تنادت بضرورة موالاة الحاكم، وتحريم الخروج عن ولي الأمر». الموقف الراهن ويقدر عدد السلفيين في مصر الآن ما بين مليون ومليون ونصف المليون، ينتمون إلي شرائح طبقية ومهنية ومستويات تعليمية مختلفة، وينتشرون علي رقعة جغرافية واسعة، لا تقتصر علي المدن، بل تمتد إلي القري. ويتزامن تنامي نزعتهم السلفية، مع تصاعد مد ثقافة الظل، بما تحويه من مظاهر وأنماط سلوك وطرق تفكير، تعكس صورا بدائية، يرسم معالمها رواج أشرطة الميكروباص، وكتب الأرصفة، ودعاة الفنادق والقنوات الفضائية. ويلاحظ أن معظم رموزهم لم تتلق تكوينا دينيا منتظما، وأنهم اعتمدوا في تلقيهم علي إصدارات تتسم بفكر ديني مدرس ناجز، كما ورد بالأساس في محاضرات منظرهم أبوعبيدة السلفي، وكتاب «شرح العقيدة الطحاوية» بجانب الإقامة لفترة في مساجد السعودية. وقد مكنتهم علاقتهم بالسعودية، ومؤازرتها لهم، من تكوين «بيزنس» ديني «مطابع إسلامية، شركات كاسيت، محلات لبيع لوزم المنقبات، رحلات عمرة، قنوات فضائية، فتاوي تليفزيونية، مواقع علي شبكة الإنترنت..». يضاف إلي ذلك، تهافت الحيثية المرجعية التي تتكئ عليها، والقائمة علي مسلمة أن اللغة مطابقة للنص، وأنها مجموعة ألفاظ، وأساليب تعبير ثابتة تتوسل بها، والنص بما أنه لغة، فهو كذلك مجموعة ألفاظ، وتلك رؤية ساذجة للنص، تفتقد تصوره كجهاز دلالي، بما يوقفه عن إنتاج دلالته في كل عصر، ويقطع امتداده في الزمن لصالح ثقافة تاريخية راحلة. وتتميز الكتب التثقيفية التي يصدرها رموزهم بالطباعة الفاخرة والأسعار الزهيدة، وإن تباينت توجهاتها ما بين الحث علي تجنب المشاركة السياسية، أو تكفير الشيعة واتهامهم بالحمق والغباء والإلحاد، أو التحريض علي ترهيب الناس من خلال تصوير عذاب القبر وأهواله، أو التحذير من إلحاق الضرر بأي دولة شهدت الفتح الإسلامي، أو التشكيك في انتصار شعب فلسطين مادام شاعره هو محمود درويش، اعتبارا من أن استرداده لحقه منوط بعودته إلي الله، وإدراك الطريق إليه، أو الدعوة إلي جهاد النفس كسبيل وحيد للجهاد ضد أعداء الله، أو نفي البركة عن كل من يتمسح بقبر النبي أو بالحجر الأسود، أو التحذير من رفض ارتداء الحجاب كدعوة للفسق والفجور. أما خطباؤهم، فيقدمون خطابا يختزل غني وتنوع الثقافة العربية الإسلامية بكل منابعها ونماذج إبداعها، ويستخدمون عبره آليات التعصب المذهبي والديني، واستثمار المخزون الطقوس عند متلقيه، ويشتهرون عادة بالبكاء والنحيب أثناء الدعاة والصلاة. وتلعب المساجد دورا مهما وموقعا رئيسيا في إطار الدعوة السلفية، ويصل عددها إلي أكثر من ألفين وخمسمائة مسجد في جميع المحافظات، وهي لا تقتصر علي المدن، بل تشمل أيضا القري، إلي درجة أن محافظة مثل الدقهلية، وهي أحد معاقل الدعوة، لا تكاد تخلو قرية فيها من مسجد، لعل من أشهرها مسجد العدوي بقرية منية سمنود. وقد تحولت بعض من هذه المساجد إلي مجمعات إسلامية، توجد بها صالات للمحاضرات والندوات، ومقار للاجتماع، وفصول لمحو الأمية، ومكاتب لتحفيظ القرآن، وعيادات طبية، ومع المساجد، يتزايد إقبال السلفيين علي إنشاء المدارس الخاصة، لمختلف المراحل التعليمية، كمراكز للتربية الدينية. الجماعة السلفية وإحدي المحددات المهمة لبنية النزعة السلفية تتعلق بحملتها، تلك الجماعة التي تلعب دورا أساسيا في إعادة إنتاج هذه النزعة والحفاظ عليها، فمنذ إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية نهايات القرن التاسع عشر، تزايد عدد الجمعيات الدينية في مصر علي نحو ملحوظ، وهي تنظيمات تتمتع بمزيد من الانتشار والقبول الجماهيري الواسع، وتتسم بالفاعلية، إن علي مستوي تدبير الموارد، أو حجم العضوية وتعبئة المتطوعين، أو أشكال مشاركتهم، أو أداء الخدمات. ولم يكن التيار السلفي بعيدا عن هذه الموجة، حين سعي، ومنذ مطلع القرن العشرين إلي تأسيس جمعياته، أردفها بأخري خدمية، لعل من أشهرها جمعية الإصلاح لتكفين وتغسيل الموتي، وجمعية ائتلاف الخير. وتعد الجمعية الشرعية من أقدم الجمعيات السلفية، والتي أسسها محمود خطاب السبكي عام 1912، تحت اسم «الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية»، واستهدفت مكافحة الاستعمار، ومقاومة تغريب العقل المصري الإسلامي، وعدم الأخذ بتجسيد صفات الله.. وفي عام 1969، أدمجتها الحكومة المصرية في جمعية أنصار السنة المحمدية، واستمرت علي هذه الحال حتي أعيد إشهارها مرة أخري عام 1972. وتنتشر فروع هذه الجمعية في جميع المحافظات، وتملك ما يزيد علي (355) فرعا، تركز أنشطتها في المجالات الخدمية، مثل فتح الكتاتيب لتحفيظ القرآن، وإنشاء المساجد، وإقامة المستشفيات لمعالجة الفقراء، وتحقيق مبدأ التضامن الاجتماعي من خلال رؤية إسلامية. وثاني الجمعيات السلفية من حيث تاريخ النشوء، هي جمعية أنصار السنة المحمدية، وتأسست في حي عابدين بالقاهرة سنة 1926، ولها فروع في السعودية والمغرب والسودان، وتحظي بدعم سعودي، وتعتنق الفكر الوهابي، وتأخذ بالتجسيد خلافا للجمعية الشرعية، وبالتفسير الحرفي للقرآن. ويتبع هذه الجمعية حوالي مائة فرع في المحافظات، وأكثر من ألف مسجد، ويتميز أعضاؤها من الرجال بارتداء الملبس الباكستاني، والنقاب للسيدات، ومن أشهر أفكارها، معارضة الصوفية، والدعوة إلي مجانبة البدع والخرافات والمحدثات، وتكفير الديمقراطية لأنها تعطي الإنسان حق التشريع الذي يختص به الله، وإن أجازت المشاركة في الانتخابات، من موقع مزاحمة أهل الديمقراطية لتقليل شرورهم. ويشمل الجانب الخدمي لهذه الجمعية فعاليات عديدة، من مثل فتح فصول لمحو الأمية، ومكاتب تحفيظ القرآن، والمدارس، وإعانة الطلبة الفقراء، ورعاية الأعضاء، وتيسير رحلات الحج والعمرة. وثالث الجمعيات السلفية هي جمعية الدعوة السلفية، وتشكلت منذ سبعينات القرن الماضي في مدينة الإسكندرية، وتبدو في أفكارها قريبة من المنهج الوهابي، ودخلت في صراع شهير علي طلبة الجامعات مع الإخوان المسلمين، مما دفعها إلي تكوين جماعة عرفت باسم «اتحاد الدعاة»، لتتطور بعد ذلك وتأخذ اسم «المدرسة السلفية»، أسوة بالمدارس العلمية في عصور ازدهار التاريخ الإسلامي، وبعد سنوات من العمل الحركي والجماهيري، أطلقت علي نفسها «الدعوة السلفية»، وحققت انتشارا ملحوظا في الأقاليم، وإن ظلت الإسكندرية مقرها الرئيسي. ولدي هذه الدعوة، لا تتعارض السلفية مع التقدم، لأن التقدم في الإسلام ينبني علي قاعدة أخلاقية، يستهدف تحقيق رسالة الأمة، مع الأخذ بأسباب العمران المادي في كل مناحي الحياة، طالما أن المفهوم الإسلامي للحضارة أرقي من نظيره الغربي. ويأخذ تغيير المجتمع، في هذه الدعوة، مراحل أربع، تبدأ بتصفية العقيدة من كل ما يشوب الشريعة، بتربية الفرد المسلم ونشر الفكر السلفي، حتي تأتي مرحلة التمكين المعتمدة علي جهد الجماعة، ثم مرحلة المفاصلة مع الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وصولا إلي مرحلة الجهاد حال رفض هؤلاء الحكام الالتزام بالإسلام. وفي نهايات القرن الماضي، نشأ تنظيم سلفي سري باسم «تنظيم الوعد»، تزعمه الشيخ نشأت إبراهيم إمام مسجد كابول بمدينة نصر، معه الشيخ فوزي السعيد خطيب مسجد التوحيد برمسيس مفتيا، وضم في عضويته عناصر ترتبط بكل الجماعات المتطرفة، وبعض من رجال الأعمال وأبناء الأغنياء ومواطني دول أجنبية مقيمين في مصر. واعتمد التنظيم في بنيته علي ثلاث جماعات صغيرة تأخذ الشكل العنقودي، وفي حركته علي عقد لقاءات فكرية وتثقيفية في المساجد والمنازل، يتم فيها مدارسة أفكار التنظيم، ومناقشة مبدأ تغيير المنكر باليد، وتزويد عناصره بالإصدارات، والعمل علي استقطاب عناصر جديدة. وخلال هذه الفترة، تولي التنظيم تزويد المقاتلين في الشيشان والأردن بالأموال، وإرسال عناصر إلي أفغانستان لتلقي التدريب العسكري، وسعي نحو تدبير كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات، وتكليف خبراء من داغستان بمهام التدريب، وتشكيل خلايا عنقودية، بدأها في محافظات القليوبيةوالدقهليةوقنا والمنوفية والفيوم. وفي مايو 2001، ألقت سلطات الأمن القبض علي (87) من أعضاء هذا التنظيم، ووجهت لهم اتهامات بإنشاء وتأسيس وإدارة جماعة غير مشروعة، بغرض الدعوة لتعطيل الدستور والقوانين، ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، واستخدام الإرهاب في تحقيق أغراضها، من خلال القيام بأعمال رصد واغتيال عدد من رجال الأمن والشخصيات العامة، وتفجير وتخريب المنشآت والمؤسسات المملوكة للدولة، بالإضافة إلي حيازة أسلحة ومفرقعات بدون ترخيص. وفي سبتمبر من نفس العام، صدر حكم بالأشغال الشاقة علي البعض منهم، والبراءة لآخرين. وبجانب هذه التنظيمات السلفية الرئيسية، تواجد علي الساحة تنظيمان هامشيان، هما: تنظيم السلفية المدخلية، والسلفية الحركية: ينسب اسم التنظيم الأول إلي ربيع المدخلي أحد رموز التيار السلفي في السعودية، ويعرف كذلك باسم السلفية الجامية، نسبة إلي محمد الجامي الأثيوبي المولد، والمؤسس الحقيقي لهذا التنظيم. وقد ظهر إبان حرب الخليج الثانية سنة 1991، كتيار مضاد لمعارضي دخول القوات الأجنبية في الخليج، ومن أشهر أفكاره، عدم جواز معارضة الحاكم، ولا حتي إبداء النصيحة له في العلن، وأن الحكم بما أنزل الله أمر فرعي، وليس أصلا من أصول العقيدة، ما يعني أن من يحكم بغير ما أنزل الله، ويشرع القوانين الوضعية، لا يكون قد ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام. أما التنظيم الثاني «السلفية الحركية»، فشكله مجموعة من الشباب نهاية القرن الماضي في حي شبرا، تزامنا مع نشوء الدعوة السلفية في الإسكندرية التي يتشابه معها، وإن اتسم بعدم الاكتفاء بتكفير الحاكم حكما فقط، بل تكفيره عينيا إذا لم يلتزم بما أنزل الله، كما ينظر إلي التبرج والسفور والمعاصي «كحشوات ضلالية»، لكن لا يكفر بها. التحول وينوه هنا بأن التيار السلفي ظل في مجمله بعيدا عن السياسة، واقتصر دوره علي الدعوة، فيما كان نظام مبارك يشجعه، لقطع الطريق علي الإخوان المسلمين. وقد شهدت العلاقة بين التنظيمين حالات من الشد والجذب منذ تأسيسهما نهاية ثلاثينات القرن الماضي، بالنظر إلي تباين طريقة تفكيرهما: فالإخوان يرون أن الإصلاح لا يمكن أن يحدث، إلا من خلال المشاركة في جميع أنشطة المجتمع، بما فيها المشاركة في الحياة السياسية، وجميع الانتخابات البرلمانية والمحلية والنقابية والاتحادات الطلابية، فيما تري الجماعة السلفية أن هناك طريقا واحدا لإصلاح المجتمع، هو العمل علي أسلمته أولا، بنشر الأفكار والمبادئ الإسلامية، والحض علي العبادات، وإقناع الرجال بإطلاق اللحية، والسيدات بالنقاب، كي يتم النظر بعدها في مشاركتها السياسية. وقد أدي هذا التباين بينهما، إلي مواجهات بين طلاب الجانبين في الجامعات والمساجد والحلقات القرآنية، وصل إلي تبادل الاتهامات، وانتقاد القنوات الفضائية السلفية، ولم يتم فض الاشتباك بينهما، إلا عقب قيام ثورة يناير، علي قاعدة اقتسام «الكعكة». ومنذ الأيام الأولي للثورة، تحولت الجماعة السلفية من الوقوف في خندق النظام، إلي محاولة ركوب موجتها، فشاركت في اللجان الشعبية لحماية الممتلكات، وقامت بالعديد من المظاهرات، ونظمت قرابة مائة ندوة ومؤتمر بمحافظات مصر، وحاولت السيطرة علي بعض من مساجد الأوقاف، باستبعاد خطبائها الرسميين بالقوة، وإنارتها بمصابيح خضراء، وخاضت «غزوة الصناديق» يوم الاستفتاء علي التعديلات الدستورية، تلتها «غزوة الأضرحة» حين لجأت إلي هدم بعضها. وتولي البعض من أعضاء هذه الجماعة في قنا، إقامة الحد بأيديهم علي مواطن قبطي، قاموا باقتحام منزله وإتلاف سيارته وقطع أذنه، وهاجموا سيدة في منزلها بالمنوفية، ناهينا أن الجماعة لم تكن بعيدة عن تحطيم عدد من تماثيل المتحف المصري، ومحاولة تحويل مدينة الإسكندرية إلي وكر لها، وإثارة موضوع المادة الثانية من الدستور، وإيقاظ الفتنة الذي أدي إلي هدم كنيسة الشهيدين. ويتواتر الحديث في الراهن عن مشاركتهم في تكوين ائتلاف إسلامي، والاستعداد لإنشاء أول حزب مصري بخلفية سلفية، والتجهيز لخوض غزوة جديدة خلال الأيام المقبلة، هي «غزوة الأسيرات»، وذلك بتنظيم اعتصام مفتوح أمام مقر المجلس العسكري، للمطالبة بالإفراج عن مسيحيات أعلن إسلامهن، واحتجزتهن الكنيسة، كما يقولون. والبادي أن هناك أولويات وآفاقا، بحاجة إلي مداومة النظر في تطويع النزعة السلفية لمقتضيات الدولة المدنية، عن طريق تفعيل دور الأزهر، وإعادة طرح سؤال التجديد حول الخطاب الديني، وإدارة نقاش يزعزع أرضية المصادر اللانصية التي اعتمدتها هذه النزعة، مع ضرورة التحرك لتغيير الأوضاع العامة التي أنتجتها، وإعادة تأمل المتن الذي خلفته، ووضعه علي محك كشف علاماته وإيحاءاته المضمرة، والذي لا يتعلق فقط بالشرعية، فيما خطره يكمن في منافسة الدولة المدنية بتاريخها وقيمها. وتظل الأسئلة التي يتشظي بها الحديث عن النزعة السلفية ماثلة: هل يمكن لهذه النزعة، بخطابها وحركتها، أن تكون نداء الإسلام إلي العالم؟ هل يجوز لها أن توافق مضمون الكتاب الذي يدعو إلي مجافاة الاستبداد ليكون الأمر شوري بينهم؟ ثم.. هل تراه يحق لهذه الظلامية أن تجد مناخا أنسب من تلك النزعة، حتي تشتد وتقوي؟