العصيان المدني والإضراب العام.. مصطلحات باتت متداولة علي مواقع التواصل الاجتماعي, وانتقلت منها للشارع خاصة بعد تطور الأحداث في بورسعيد, ونجاح تجربة العصيان المدني بها, وتصاعد الاحتجاجات في بعض المحافظات بدرجات متفاوتة مما شجع بعض قوي المعارضة من شباب الأحزاب والقوي الثورية بالتلويح بسوط العصيان في وجه السلطة والنظام الحالي, الأمر الذي يثير الجدل حول مدي الوعي بالفارق بين الاحتجاج والإضراب والعصيان؟.. لذا يحاول هذا الملف الوقوف علي مدي واقعية تطبيق العصيان المدني, وتوافر مقوماته حاليا, وهل الوضع مرشح للتصعيد عبر اتساع رقعة الاحتجاجات والعنف في الشارع في محافظات مختلفة, خاصة أن ذلك جاء في مجمله كرد فعل علي عودة وزارة الداخلية لممارساتها التي وصفها الكثيرون بكونها انتقامية تعيد انتاج ممارسات العهد البائد, في ظل ظرف سياسي بالغ التعقيد بعد تحديد موعد لانتخابات مجلس الشعب, ووجود جدل آخر حول المقاطعة أو المشاركة فيها. يوضح علاء عبدالتواب, مدير الوحدة القانونية بالمركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية, أن الإضراب هو توقف العاملين أو أرباب العمل, أو توقفهم مجتمعين عن أعمالهم, احتجاجا علي إجراءات أو قوانين تمس مصالحهم الخاصة أو قيمهم أو تبخس حقوقهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية, أو تمس المصلحة العامة أو المصلحة الوطنية والقومية العليا, وهو وسيلة من وسائل الضغط في سبيل الحصول علي مطالب محددة, و قد يكون الاضراب بين فئات معينة من الشعب و التي تعلن أنها منضمة للإضراب, وهوحق أصيل تنص عليه النصوص القانونية والدستورية بشروط كما هو محدد في قانون العمل رقم21 لسنة3002, وكذلك اتفاقيات الحريات النقابية والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل البدء بمطالبة صاحب العمل بها ومحاولة التفاوض معه لحل المشكلة, وإذا لم يستجب يتم إبلاغه مسبقا بموعد ومدة الإضراب وأن يكون قرارا بالإجماع. أما العصيان المدني فهو يرتكز في الأساس علي المقاومة السلمية السلبية للنظام المراد مواجهته, وهو حق مكفول دستوريا ويعد أقصي درجات التصعيد والاحتجاج السلمي لأنه يأتي بمشاركة الشعب بأكمله عبر رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة, فيتم رفض التعامل مع النظام أو الدولة تماما مثل الامتناع عن سداد الرسوم نظير الخدمات العامة المقدمة من الدولة, مثل فواتير الكهرباء والهواتف والغاز, وقد يقتصر فقط علي مجرد الاكتفاء بالسلبية وقد يتعدي ذلك للقيام بفعل إيجابي عبر تشكيل جهات بديلة أو موازية لإدارة البلاد مثل اللجان الشعبية, وبعض المصالح الحكومية الموازية التي من شأنها تسيير شئون حياة المشاركين في العصيان, وقد يكون العصيان جزئيا محدودا بفترة زمنية معينة, أو يكون مفتوحا حتي الاستجابة للمطالب التي قام من أجلها إلا أنه في هذه الحالة يكون كفيلا بهزيمة أي نظام ومن ثم انهياره, وعادة لا يتم اللجوء إليه إلا بعد استنفاد كافة الطرق الاحتجاجية الأخري. ويشيرد.ثروت بدوي, أستاذ القانون الدستوري, إلي أن العصيان المدني عمل سلبي لا يتضمن تعطيلا للمصالح العامة أو منعا للعاملين بالمرافق العامة عن تأدية مهام عملهم, ولا يتضمن اعتصاما أو احتلالا لمكان بعينه, لأنه يقوم علي الامتناع, بينما التظاهر والاعتصام يمكن وصفهما بالإيجابية, لافتا إلي أن الدستور يقر حرية التظاهر وحرية التعبير عن الرأي بما لا يتضمن ارتكاب جريمة أو الاعتداء علي حرية, وهناك فارق كبير بين المنع والامتناع الذاتي, فالعصيان المدني امتناع ذاتي, وهو حق مكفول, إلا أن منع الموظفين أو المواطنين من ارتياد بعض مرافق الدولة ومباشرة مصالحهم أو مهام عملهم علي غير رغبتهم فهو جريمة يعاقب عليها القانون. وعن الوضع الحالي- الذي تعيشه البلاد- يعتبر د. وحيد عبدالمجيد, القيادي بجبهة الإنقاذ الوطني ونائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام, أن بورسعيد حالة خاصة, مشيرا إلي أن مقومات العصيان المدني لم تتوافر بعد في أنحاء البلاد, معربا عن تفهمه لانتشار تلك الدعوات كنتيجة لحالة الغضب التي يشعر بها المصريون ردا علي السياسة الفاشلة للسلطة الحالية, والتي أدخلت البلاد في نفق مظلم ودفعت قطاعات كبيرة ومتنوعة من المصريين للتعبير عن الغضب بشكل مختلف, علي حد قوله. أوضح عبدالمجيد أن العصيان المدني ليس له علاقة بالاحتجاجات في الشارع لأنه يحدث بالامتناع عن التعامل مع الدولة والسلطة بكل ما تمثله بعيدا عن الاحتكاك والمواجهات مع الشرطة, مضيفا أن ما يحدث من مواجهات واشتباكات حاليا سببه الرئيسي هو عودة الشرطة لممارساتها في عهد النظام البائد منذ عودة وزير الداخلية الحالي الذي يعيد انتاج تجربة الوزير الأسبق حبيب العادلي, وتفتقد سياساته إلي الرشد نتيجة لأنه ينفذ تعليمات سلطة غاشمة بشكل غشيم, مما أدي إلي تفاقم الأوضاع, وإذا استمرت تلك السياسات فإن الأمور ستكون مرشحة للتصعيد بقوة وستتسع رقعة المواجهات في الشارع. ويري الناشط تقادم الخطيب, مسئول الاتصال السياسي بالجمعية الوطنية للتغيير وعضو لجنة تقصي الحقائق حول أحداث الثورة, أن هناك حالة من الغضب في الشارع تمت ترجمتها لأعمال عنف لدي البعض كرد فعل طبيعي علي القمع الفج الغالب علي الممارسات الأمنية للسلطة, معتبرا أن كل محافظة من المحافظات لها طبيعة خاصة ومن الصعب تصدير تجربة بورسعيد, محذرا من انتقال الغضب إلي محافظات آخري خاصة في ظل عجز السلطة عن السيطرة علي الوضع, وغلبة الانفلات علي الدولة, مما يدفع البعض بالسعي لتنفيذ عصيان جزئي إجباري عبر شل الطرق وغلق بعض المرافق الحكومية. يلفت القيادي بالجمعية الوطنية للتغيير إلي أن بعض المحافظات تسعي للتصعيد وتمارس نوعا من العصيان الكلي أو الجزئي, حيث أعلن نشطاء بورسعيد والمنصورة عن اعتزامهم منع تنظيم الانتخابات البرلمانية المقبلة, كما سيكون من الصعب إجبار الناس علي المشاركة أو تأمين الانتخابات في ظل ذلك الاحتقان, مما يثبت أن نهج السلطة في اختزال المواقف والشرعية في صناديق الانتخابات هو خطأ. شن الخطيب هجوما حادا علي السلطة وجماعة الإخوان المسلمين واصفا إياها بكونها سلطة وجماعة منعزلة عن الشارع والمجتمع, تسعي لإسقاط وتعليق أخطائها علي المعارضة, وتحاول أن تلجأ للتبرير باستمرار, مشيرا إلي أن المعارضة في الغالب وفي أي دولة في العالم لا تتوافر لها نفس الإمكانات التي تتوافر للسلطة. وأضاف قائلا: لدينا سلطة منفصلة عن الشارع, كذبت عليه وزعمت بوجود برنامج سياسي واقتصادي واكتشفنا أنه مجرد تسويق لوهم ووعود انتخابية زائفة, فلم يتحقق أي وعد انتخابي من الوعود البراقة التي قطعها الرئيس علي نفسه قبيل انتخابه, ولم يتحقق القصاص للشهداء, فتقرير لجنة تقصي الحقائق الثانية التي أمر الرئيس بتشكيلها مازال محفوظا في أدراج النائب العام, في نفس الوقت الذي قامت فيه السلطة باستيراد قنابل غاز بما يقرب من17 مليون جنيه فكيف نفسر تخصيص كل هذا المبلغ للقمع في الوقت الذي لدينا شعب يعاني ويطالب بإجراءات تحقق العدالة الاجتماعية, ويأتي الرد غالبا بضعف الموارد!, لذا من الطبيعي أن تأتي الممارسات الأمنية بهذا القدر من القمع ومن الطبيعي أن يكون الرد عليها غاضبا وعنيفا أحيانا من المتظاهرين, وأن يتطور الأمر للدعوة لإضراب عام أو عصيان مدني. يؤكد الخطيب أن الدعوات للإضراب والعصيان تحتاج لعمل كبير علي الأرض, بالإضافة إلي الحاجة لنشر الوعي بين فئات المجتمع بطبيعة العصيان ودرجاته والفرق بينه وبين الإضراب. وأشارت الناشطة العمالية فاطمة رمضان, الأمين العام المساعد للاتحاد المصري للنقابات المستقلة وعضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي, إلي وجود حالة من الغليان والغضب المتصاعد في صفوف العمال مؤكدة أنه بالرغم من ذلك لا أحد يعلم متي يمكن أن يحدث العصيان المدني, نظرا لعدم توافر مقومات العصيان بشكل كامل حتي الآن علي الرغم من أنه تصعيد متوقع في ظل الظروف المتردية واستمرار سوء الأوضاع, وتلويح قطاعات عمالية بالإضراب العام وتنظيمها إضرابا عن العمل بالفعل. ومن جهته اعتبر خالد المصري, المتحدث الرسمي لحركة شباب6 إبريل التي أسسها أحمد ماهر, أن تجربة بورسعيد ناجحة بسبب صغر المدينة وقلة المرافق بها, وتوحد الأهالي علي الفكرة وفهمهم لها, مشيرا إلي افتقاد تلك المقومات في باقي مصر, مضيفا العصيان المدني ليس مجرد قطع طريق, ويحتاج لحشد شعبي وما زلنا في حاجة لمزيد من الوقت لتوعية الجماهير بأبعاد هذا الشكل السلمي من الاحتجاج, فنحن نؤيد أي تحرك احتجاجي سلمي وسبق وأن دعونا لعصيان مدني في2009 و في العام الماضي للمطالبة برحيل المجلس العسكري ولم تنجح الدعوتين بشكل كامل لأننا مازلنا نفتقد للمقومات. أكد المصري رفضه لقيام البعض بتعطيل المصالح ومنع الموظفين عن العمل رغما عنهم دون رغبتهم, معتبرا أن هذا لا يمت للعمل الثوري بصلة علي الإطلاق, و أن من يقوم بذلك يخسر رصيده وتعاطف الجماهير معه في الشارع, مؤكدا أن الأمر يختلف كثيرا إذا ما اقتنع الموظفون بالعصيان, وامتنعوا بأنفسهم عن العمل ففي تلك الحالة يجب مساندتهم ودعمهم. من جانبه أكد أحمد عارف, المتحدث الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين, أن شعب بورسعيد شأنه شأن الشعب المصري, وأنه لا يوجد أي تهميش أو تمييز, مشيرا إلي أن هناك من يؤجج بعض العصبيات سواء كانت كروية أو علي مستوي المذبحة التي تمت والحكم القضائي الذي صدر ضد بعض المتهمين, و أن ذلك كله لا علاقة له بالسياسة علي الإطلاق, وأن من يشعلون الأحداث هناك يقومون بذلك لمآرب سياسية تراها جماعة الإخوان المسلمين غير شريفة وغير أخلاقية, معتبرا ما يحدث في بورسعيد محاولة من بعض الفاعلين في المشهد السياسي الحالي لإفشال مصر والانتقال جغرافيا من القاهرة إلي بورسعيد. ويري أن دعوات العصيان المدني فشلت وستفشل دائما لأن الشعب المصري يرغب في سماع مصطلحات آخري كالتنمية والاستقرار, مؤكدا أن هذا لا يعني تخدير الشعب لأن المسار السياسي واضح ولا يوجد به أي لبس, وعلي الجميع استثمار الوقت في طرح البرامج دون تشويه أو طعن في الآخرين, مضيفا من أشعلوا الأحداث في بورسعيد هم من أشعلوها من شهر في القاهرة وليس لديهم برامج لذا يحاولون الاستعاضة عن ذلك بتشويه الآخرين هروبا من الشعب, لأنهم لا يتحدثون باسمه وكلها مجرد لافتات ستسقط قريبا لأن إرادة الشعب ستكمل طريقها والانتخابات قادمة. أشار إلي أن دولا آخري كثيرة مرت بتجارب مماثلة لمصر في التحول الديمقراطي وكان لديها نفس المشكلات, معتبرا أن ظروف مصر أفضل بكثير من تلك الدول, مؤكدا أنه مع نهاية العام الحالي ستستقر الأوضاع وستشهد البلاد تحسنا ملحوظا, مستنكرا ما أسماه بانحراف أهداف بعض الثوار الذين تحالفوا مع قوي الثورة المضادة التي اصطحبتهم معها كمتاريس أمامها حتي إذا ضربت الدولة بيد من حديد فإنها ستبدو أمام الجميع كأنها تضرب في الثوار, بحسب قوله. فكرة العصيان قديما بدأ ظهور صور للعصيان المدني منذ نشأة أسطورة أنتيجون التي ضربت فيها البطلة بقوانين المدينة عرض الحائط لتكفل لشقيقها مدفنا لائقا, وفي كوميديا ليسيستراتا لأريستوفانيس, نجد النساء يتمنعن عن أزواجهن لإرغامهم علي وضع نهاية للحرب, كما سجل التاريخ الروماني المظاهرات النسائية في عام195 ق.م. المناهضة للقيود المفروضة علي الملابس وكذلك مظاهرات عام42 ق.م. ضد الضرائب الباهظة, مما يدل علي أن فكرة مقاومة قانون ظالم كانت موجودة بالفعل منذ زمن بعيد. ويعد الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو هو رائد النظرية الحديثة في هذه الممارسة في مقالته المنشورة عام1849 بعنوان' العصيان المدني' والتي كان عنوانها الأصلي' مقاومة السلطة المدنية' وكانت الفكرة الدافعة وراء المقالة هي الاعتماد علي الذات وكيف أن الموقف الأخلاقي للفرد يكون سليما إذا كان بوسعه' مفارقة غيره' عند اختلافه معه; أي أنه ليس علي الفرد محاربة الحكومة, لكن عليه ألا يدعمها في أي شيء وألا يستفيد من دعمها له في أي شيء إن كان معارضا لها, فكان لهذه المقالة أثر بالغ في عديد من ممارسي العصيان المدني لاحقا, حينئذ بدأ مصطلح' العصيان المدني' يظهر في عديد من الفعاليات والمحاضرات ذات الصلة بالعبودية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. استخدم العصيان المدني في حركات مقاومة سلمية عديدة مثل الهند في حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية, وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية, وفي جنوب أفريقيا في مقاومة الفصل العنصري, وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية التي تزعمها مارتن لوثر كينج, وقد استخدم الثوار العصيان المدني فيما عرف إجمالا بالثورات الملونة التي غشيت دولا شيوعية سابقة في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا, من أمثلة ذلك خلع سلوبودان ميلوسوفتش في صربيا في2000, كذلك الثورة الوردية في جورجيا التي أدت إلي خلع إدوارد شفرنادزه في2003 والثورة البرتقالية بأوكرانيا. وفي مصر تمثلت إحدي أبكر تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقا في لجوء المصريين إليه ضد الاحتلال البريطاني في اليوم التالي لاعتقال الزعيم الوطني المصري سعد زغلول وأعضاء الوفد والموافق9 مارس1919, حيث أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات, وفي غضون يومين, امتد نطاق الاحتجاجات والإضرابات والعصيان ليشمل جميع فئات المجتمع وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع مصر.