يقولون الديمقراطية عملية متكاملة تؤدي في نهايتها إلي اختيار حر في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية, وصدقوا إذ تحتاج الديمقراطية إلي ثلاثة أمور جوهرية: الجو العام المشجع علي الديمقراطية- قانون للانتخابات يتسم بالعدالة- صناديق انتخابات تعبر بنزاهة عن اختيار حر للشعب. ويختلف الجو العام من بلد إلي آخر ومن ديمقراطية مستقرة إلي ديمقراطية ناشئة. ففي بلاد الديمقراطية المستقرة نجد ثقافة منتشرة بين الشعب تعبر عن ضرورة الديمقراطية وأهميتها, لذا نجد نسبة معقولة من الشعب تمارس حقها الديمقراطي وترضي بالنتيجة التي تسفر عنها الانتخابات. ولا نجد عراكا ولا مشاحنات, كما لا توجد أي رشاوي إنتخابية, ولا يغرق المرشحون في الوعود لعلمهم أن الشعب الذي يختار يتابع الأداء حتي إذا جاءت انتخابات تالية إما أن يجدد الثقة بمن اختار أو يغير اختياره وفقا لدرجة الأداء. وهكذا تمر البلاد المستقرة ديمقراطيا من انتخاب إلي آخر بسلاسة ويسر, وتتشكل الحكومات من الأحزاب الفائزة بينما تكون المعارضة من نصيب الأحزاب التي لم تستطع للحكومة تشكيلا. وعلي النقيض في البلاد حديثة العهد بالديمقراطية- مثل بلادنا- نجد الثقافة الانتخابية في أقل درجاتها, ويتم الخلط بين استثمار الحرية في تطوير العملية الديمقراطية وبين إعاقتها, فيتولد عن ذلك جو عام لا يتواكب مع التحول الديمقراطي. ومن الجو العام أيضا في البلاد حديثة العهد بالديمقراطية ارتفاع نسبة الأمية السياسية والمعرفية بالاضافة إلي أمية القراءة والكتابة لتزداد بذلك صعوبة الجو العام الذي يجب أن يتهيأ لاستقبال حياة ديمقراطية جديدة. وبقدر قليل من المتابعة نجد أن الاختلاف يطل برأسه في كل موضوع يتصل بالديمقراطية وتكثر المظاهرات التي يعلن أصحابها أنها سلمية ثم تتحول بشكل شبه ممنهج إلي مصادمات عنيفة تؤدي- وللأسف الشديد- إلي سقوط قتلي وجرحي وكأن المتظاهرين قد خرجوا إلي معركة حربية فتتعقد الأمور أكثر واكثر لتعطي فرصة لمن ينادون بتأجيل التحول الديمقراطي حتي يتغير الجو العام ويصبح ملائما لذلك. هذا منطق- إن صح- فإنه لا أحد تقريبا يعمل علي التهدئة, بل إن معظم المشاركين في الحياة السياسية ينفخون في نار الخلاف لتزداد اشتعالا, وكأني بالمواطن المصري الفصيح ينادي بأعلي صوته أليس منكم رجل رشيد؟!. ولأن مصر بلد محوري في منطقتها فإن كثيرا من القوي الخارجية تتابع ما يجري داخلها, وأغلب الظن أنها سعيدة بهذا الجو الملبد بغيوم الاختلاف, ولعلي لا أكون مبالغا إن قلت: إن بعضا من هذه القوي الخارجية والتي لا تريد استقرارا لمصر تعبث بشكل مباشر وغير مباشر كي يستمر هذا الجو المغاير لكل أعراف الديمقراطيات الحديثة. وإذا تناولنا قانون الانتخابات وجدنا خلافا حادا بين أعضاء النخبة السياسية, فكثير من هؤلاء الأعضاء طالب, بحق أو بغير حق, بأن يتم التريث في اختيار واعتماد الشكل الأمثل لقانون الانتخابات. ومن عجب أننا جربنا في مصر كل الاشكال الانتخابية, فقد عشنا طويلا نمارس الانتخابات بنظام الدوائر الفردية, وهو أكثر النظم الانتخابية انتشارا في العالم واعتدنا عليه وأخذ المدافعون عن هذا النظام يسهبون في أفضليته ومناسبته للناخب والمرشح علي حد سواء. لكن كثيرا من الأحزاب طالب وبإلحاح شديد بأن يكون قانون الانتخابات بالقائمة النسبية, وعللوا ذلك بأن الأحزاب جميعها صغيرها مع كبيرها سوف تمثل داخل المجلس النيابي بنسبة الأصوات التي حصلت عليها. وعند التسليم بأفضلية هذا النظام ظهرت عدة مشكلات متصلة به منها.. مثلا كيفية تمثيل المرأة وهل هي في النصف الأول من القائمة او في النصف الثاني, وظهر جدل دستوري وقانوني حول هذه النقطة, مثل ذلك حدث عند مناقشة تمثيل الأقباط داخل القوائم الانتخابية, وكذلك الحال بالنسبة للشباب. ثم قفزت إلي السطح مسألة المستقلين الراغبين في الترشح, ولعلاج هذا الموقف استقر الأمر علي النظام المختلط( القوائم الانتخابية والمقاعد الفردية), وقبل ان تطوي صفحة الخلاف علي النظام الانتخابي أطلت برأسها كيفية تحديد الدوائر الانتخابية, وعدد المرشحين بها ومدي مناسبة ذلك لعدد المقيدين في جداول الانتخابات لكل دائرة انتخابية بالاضافة إلي عدد السكان مرورا بأخذ المساحة الجغرافية لكل دائرة في الحسبان. وبالرغم من إعداد القانون بمجلس الشوري وإرساله إلي المحكمة الدستورية العليا لمعرفة مدي مطابقته لمواد الدستور ثم عودته مشفوعا برأي المحكمة الدستورية ثم إصداره مجددا في مجلس الشوري, فإن كل هذه الخطوات لم توقف الجدل المستمر حول الدوائر الانتخابية وكأننا الدولة الوحيدة في العالم التي تبحث عن نظام انتخابي رغم ان الانتخابات النيابية تجري كل شهر تقريبا في بلد من بلاد العالم. وتم حسم الأمر بإصدار السيد رئيس الجمهورية قانون الانتخابات بعد أن عدله مجلس الشوري, فإذا بنا نجد عاصفة أخري تتفوق علي أعاصير شهر أمشير( الذي يمر بنا الآن) حول كيفية الاشراف علي الانتخابات ومن له حق مراقبتها وكيفية إعلان النتائج في اللجان الفرعية وكذلك في اللجان العامة, ودعا السيد رئيس الجمهورية إلي حوار خاص لبحث سبل نزاهة الانتخابات ودقتها فإذا بمجموعة من الأحزاب تصدم المتابعين بمقاطعتها ذلك الحوار بل والعملية الانتخابية برمتها متعللين بأن قانون الانتخابات لم يتم التوافق عليه. وإذا سألت المقاطعين للحوار الوطني والانتخابات قالوا إن البديل هو اللجوء إلي الشعب, وللمرء أن يتساءل: وهل الانتخابات تعني شيئا آخر غير اللجوء للشعب؟! وإذا نادي الراغبون في التحرك للأمام بضرورة إجراء الانتخابات والاحتكام إلي الصناديق جاءنا سؤال طريف مفاده: هل الديمقراطية هي صناديق الانتخابات فقط؟! فتكون الاجابة أكثر طرافة وهي: وهل كل ما سبق نال التعامل بجدية كي نتحول إلي الديمقراطية أم أن هناك من يريد التعطيل ومن جملة ما يسعي إلي تعطيله هو تعطيل الصناديق.