العلاج الجذري للديون المتعثرة وضمان الشفافية للمعاملات لا تصح الدول ولا تتعافي اقتصاداتها إلا بدرجة عالية من الشفافية قادرة علي كشف المستور وتسليط الأضواء الكاشفة علي جميع مظاهر الخلل ومواطن الانحراف, وتستوجب الكوارث الكبري امتلاك شجاعة إجراء العمليات الجراحية الكبري. حتي يستعيد الجسد والكيان صحته وعافيته, وما حدث علي أرض أم الدنيا علي امتداد سنوات حكم الطاغوت وتشكيله العصابي الإجرامي يحتم عمليات تطهير عميقة للتمهيد للانطلاق لبناء مصر القوية الفتية, ويرتبط ضمان الإصلاح الجذري الفعال بامتلاك القدرة والجرأة علي تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية, وبذلك فقط لا غير يمكن ايقاف العبث بمقدرات الأمة والشعب ووضع حد لنزيف النهب والاعتداء علي القوانين والقواعد واللوائح, وهو ما تم دائما تحت سياط الاستبداد والقمع والاستهانة بالإرادة الشعبية في ظل الحكم البوليسي القمعي. وفي ظل الارتباط الوثيق للأزمات العالمية الاقتصادية الكارثية بالكشف عن اختلالات عميقة وعمليات غش وتدليس واحتيال واسعة النطاق بالمؤسسات المالية العاملة علي امتداد سوق رأس المال في الداخل وامتداداته الخارجية فإن اهتمام الدول الصناعية الكبري وفي مقدمتها أمريكا تركز بدرجة عالية علي إنشاء هيئات رقابية مالية ذات صلاحيات واسعة,كما تركز علي تعديل التشريعات والقوانين الخاصة بالمؤسسات المالية والبورصات وشركات التأمين وإعادة التأمين, اضافة لتشديد الرقابة علي المشتقات المالية ومعاملاتها وعلي ضبط منح القروض وتوريقها, وفي مقدمتها الديون العقارية, وعمليات توريقها بمعني تحويلها إلي أوراق مالية قابلة للتداول والتعامل فيما بين البنوك وغيرها, بما يضمن سلامة المعاملات ودقتها, ويمنع انفلاتها وتحولها إلي فقاقيع مالية غير حقيقية يتسبب انفجارها المفاجئ في سقوط مجمل الاوضاع الاقتصادية في فخ الأزمات الكارثية الطاحنة. وتهدف كل هذه التعديلات التشريعية للقوانين المنظمة لأسواق المال والمؤسسات المالية والبنوك إلي ضمان درجة عالية من الشفافية في الأعمال والمعاملات, ومنع كل صور التزييف والاحتيال والتلاعب من المنبع وعدم منحها الفرصة للتوغل والتوحش وتجنب تحولها إلي ورم سرطاني مستفحل يحتاج علاجه وقت اندلاع الأزمة وتصاعدها إلي فاتورة تكاليف باهظة وقرارات صعبة قد تتسبب في اشتعال نيران الأزمة وعودتها لطرق الأبواب بعد فترة وجيزة من الأزمة وهو ما يحتم عالميا المسارعة باتخاذ تدابير وقائية لمنع الأزمة قبل وقوعها. وقد تفجرت بعد ثورة25 يناير قضايا شديدة الأهمية والخطورة علي الساحة الاقتصادية, يصب الكثير منها في خانة ضرورة الإصلاح العاجل لضمان صحة وعافية الجهاز المصرفي المصري, ويرتبط جانب رئيسي من الإصلاح بحتمية مواجهة تراكمات الديون المتعثرة والرديئة التي تشكل تاريخا متصل الحلقات منذ عقد الثمانينيات وتصاعدت حلقاتها في عقد التسعينيات ووصلت إلي ذروتها في السنوات الاولي للقرن الحادي والعشرين, وقد دخلت القضية إلي بؤرة الاهتمام الشديد مع التصريحات الصحفية لرئيس البنك الأهلي, ورئيس اتحاد البنوك القائلة بان قيمة الديون المتعثرة كانت120 مليار جنيه, ثم الإعلان الأخير لرئيس بنك مصر عن أن الديون المتعثرة في بنكي مصر والقاهرة بلغت قيمتها65 مليار جنيه, في عام2003 وأن مواجهة هذه المشكلة تتطلب تجنيب مخصصات ضخمة وأن قيمة فجوة المخصصات اللازمة لها تقدر بأكثر من30 مليار جنيه في البنكين, والأهم من تجنيب المخصصات لمواجهة تراكمات المشكلة يرتبط بالالتزام الصارم العاجل بقواعد الائتمان المصرفي السليمة حتي يمكن تجنب مخاطر الائتمان بدرجة عالية من الفعالية وبدرجة عالية من الثقة منذ اللحظة الأولي لاتخاذ القرار بمنح الائتمان للعملاء. دقة تحديد المخاطر الائتمانية لضمان سلامة القروض ووفقا للتقارير المحاسبية فإن هناك ضرورات لإجراء الدراسات الائتمانية المتكاملة عن منح الائتمان, مع مراعاة المواءمة بين حجم التسهيلات الممنوحة وحجم الموارد الذاتية المستثمرة للعملاء في النشاط, اضافة لحتمية إجراء المتابعة الدورية والجادة للتسهيلات الممنوحة وتقييم المقومات الائتمانية للعملاء وفقا للنتائج التي تسفر عنها عمليات المتابعة الدورية, وذلك للحد من المخاطر الائتمانية ويضمن ذلك في النهاية الحد من المخاطر الائتمانية التي قد تتعرض لها البنوك وتضطر معها إلي التنازل عن نسب كبيرة من المديونية تصل في بعض الاحوال للتنازل عن كامل قيمة المديونية, بمعني قيمة الدين الاصلية اضافة إلي قيمة العوائد المستحقة عليها كفوائد وما يعنيه كل ذلك من هدر لأموال البنوك وتخفيض لايراداتها وارباحها وانعكاس ذلك في النهاية علي الصورة الاجمالية للمركز المالي للبنوك والتسبب في انخفاض ارباحها أو تدنيها ووصول بعض البنوك لمرحلة تحقيق خسائر في موازناتها السنوية. ويتحتم أن تلتزم كل البنوك في مصر حفاظا علي استقرار الجهاز المصرفي وسلامة معاملاته بالقيام بعمليات رصد واسعة لكل المديونيات المستحقة علي العملاء في ضوء القواعد السليمة الكاشفة عن طبيعة هذه المديونيات وما يرتبط بالبعض منها من مشكلات حتي يمكن تقدير القيمة الحقيقية للديون المتعثرة والوصول إلي تقييم حقيقي لقيمة الديون الرديئة, وأن تتضمن ميزانيات البنوك السنوية تصنيفا شديد الشفافية والوضوح للديون المنتظمة وللديون غير المنتظمة, وكذلك الديون دون المستوي, وتلك المشكوك في تحصيلها, ويرتبط بذلك بالضرورة درجة عالية من الشفافية في التسويات والاعدامات التي تتم لمديونيات بعض العملاء وهي ظاهرة شائعة اتسع نطاقها خلال السنوات الماضية وثار حولها الكثير من الجدل والنقاش. ويرتبط بإصلاح موقف الديون المتعثرة والرديئة حتمية اتخاذ إجراءات إصلاحية تصل إلي حد العمليات الجراحية الكبري للانتهاء من تركز جانب رئيسي عن المحفظة الائتمانية للبنوك مع عدد قليل للغاية من العملاء وهو ما يعكس ظاهرة شديدة السلبية تعيق التنمية وتعرقل النمو والانتعاش وتعني حرمان قاعدة عريضة للغاية من اصحاب المشروعات والمستثمرين من حقهم الطبيعي والمشروع في الحصول علي الائتمان المصرفي الذي يشكل كقاعدة في كل دول واقتصادات العالم شريان الاستثمار الجديد والتوسعات الاضافية وشريان توفير المال لدوران عجلة الإنتاج واستمرار النشاط بفاعلية بغير اختناقات وبأعلي درجات الكفاءة اللازمة والمطلوبة كما أن الصورة الراهنة للائتمان المصرفي لا تعني فقط احتكار القلة القليلة لأعمال البنوك لكنها تعني في النهاية الاحتكار للقلة القليلة لكل مقدرات السوق ومقوماته وانشطته وهو ما يهدم الركيزة الرئيسية لاقتصادات السوق والحرية الاقتصادية القائمة علي المنافسة الكاملة أو علي الأقل الحرص علي توسيع نطاق المنافسة إلي أوسع مدي واقصي نطاق ممكن بما يضمن في النهاية حماية حقوق المستهلك من خلال المنافسة وما تعنيه من درجة عالية من الالتزام بالجودة والاسعار التنافسية. ونتيجة لتركز القروض والتسهيلات الائتمانية المقدمة من البنوك في عدد من كبار العملاء فقط لا غير فإن تعثر أحد العملاء الكبار لابد وأن ينعكس سلبيا بصورة حادة ومباشرة علي المركز المالي للبنك بل تصبح المشكلة والازمة متعددة الاطراف تطال عددا ليس قليلا من البنوك بحكم ان واقع الحال يشير إلي ان العملاء الكبار لايقتصر نشاطهم وتعاملهم مع بنك واحد بل تتعدد البنوك التي تتعامل معهم وتفتح لهم خزائنها في غياب التدقيق اللازم والمطلوب للمخاطر الائتمانية والتهاون في تطبيقها بما يؤدي الي وقوع عدد من البنوك في نفس الوقت واللحظة في مشكلات مماثلة ويتسبب في تشابك مديونيات البنوك مجتمعة عند اتمام عمليات التسوية مع العملاء المتعثرين اصحاب الديون الرديئة وينتج عن ذلك حصول العميل الواحد علي مزايا واعفاءات من المديوينة المستحقة عليه طائلة وبالغة الضخامة, خاصة اذا كانت الضمانات المقدمة للحصول علي الائتمان شائعة بين أكثر من بنك ويتطلب ذلك معايير دقيقة في الحاضر والمستقبل لضمان عدم تكرار هذه الظواهر الفاسدة مع التأني الشديد في عمليات التصفية لضمانات العملاء وتدقيق تقديراتها خاصة وان التقارير المحاسبية تؤكد اختلافات كبيرة في قيم التقديرات ترتبط بالمغالاة في تقدير الاصول خاصة الاصول العقارية بالمخالفة لقيمتها الحقيقية. ايقاف التجاوزات في تقييم الاستثمارات المالية للبنوك ولا يقل عن ذلك اهمية ضرورة تقييم الاستثمارات المالية للبنوك المتاحة للبيع وصولا الي القيمة الحقيقية العادله لهذه الاستثمارات حتي يعبر رصيد الاستثمارات السنوية عن قيم واقعية لاتخالف الحقيقة وفقا للقواعد المحاسبية الدقيقة وكذلك ضررورات التدقيق عند تحويل جانب من المديونيات المستحقة علي العملاء الي مساهمات مباشرة في شركات العملاء وهو ما يسمي رسمله الديون حتي لايحصل البعض علي مزايا غير مباشرة تؤدي لتقييمات غير حقيقية للاستثمارات المالية للبنوك يضاف الي ذلك حتمية تدقيق البنوك عند بيع استثماراتها المالية للغير والآخرين والالتزام الصارم بالقواعد القانونية للمناقصات والمزايدات والابتعاد عن البيع بالامر المباشر لما يثيره من تأويلات واستفهامات مشروعة خاصة أن حالات رصدت من خلالها التقارير المحاسبية قيام بنك ببيع اسهم يمتلكها في احدي الشركات بالأمر المباشر بسعر يقل55 جنيها للسهم الواحد عن السعر الذي باع به بنك آخر نفس السهم بعد نحو اسبوعين وهو مايقتضي ضرورة الالتزام بالتفاوض مع اي مشتر للاستثمارات المالية للحصول علي افضل الاسعار فضلا عن قيمة الاتفاق مع البائعين الآخرين بحكم أن مصلحة جميع الأطراف البائعة مشتركة, خاصة في الحالات التي يتشارك فيها البائعون في تمثيل المال العام. ولاتقل أهمية عن ذلك حتمية الانضباط الشديد عند التصرف في الاستثمارات المالية داخل نطاق البنك الواحد بما يحقق تجنب جميع الشبهات في عمليات البيع ويؤمن تطابقها الكامل مع المفاهيم القانونية والمحاسبة الدقيقة لعمليات البيع وبالتالي تصويب مخالفات رصد حصيلة البيع كأرباح رأسمالية في ميزانيات البنوك والالتزام الصارم بما يسمي معيار الايراد في القواعد المحاسبية الذي يقضي بوضوح بأنه عند تبادل البضائع أو الخدمات ذات الطبيعة والقيم المتماثلة أو الاتفاق علي تبادلها في تاريخ محدد لايعتبر هذا التبادل معاملة ينتج عنها ايراد وهو ما ينطبق تحديدا علي الشركات القابضة الاستثمارية التي انشأتها بعض البنوك في السنوات الأخيرة ونقلت اليها ملكية جزء من محفظتها الاسثتمارية مما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول انضباط الميزانيات وحول عدم التزامها بالقواعد الحاكمة لاعدادها وبالتالي عدم تصوير الميزانيات للمراكز المالية الحقيقية الذي هو حق للرأي العام قبل أن يكون مسئولية يقع عاتقها علي الجهات الرقابية المختصة. وفي زمن يتحدث فيه كل العالم عن حتميات حوكمة جميع الأعمال والأنشطة الاقتصادية لضمان انضباط اعمالها ومعاملاتها وحمايتها من التدليس والاحتيال والتزوير في ميزانياتها بعد أن تعرضت شركات عملاقة ديناصورية عالمية مثل شركة أنرون الأمريكية لحالة إفلاس مفاجئة وتسببت في خسائر بمئات المليارات من الدولارات وقد تصاعدت دعوات الحوكمة في نطاق المؤسسات المالية والمصارف بعد الكارثة المالية العالمية في عام2008 وإنهيار وإفلاس عدد من البنوك الأمريكية والأوروبية العملاقة واضطرار الحكومات في أمريكيا والعديد من الدول الأوروبية في مقدمتها بريطانيا لاتخاذ اجراءات تأميم للبنوك واخضاعها لإدارة السلطات العامة مع ثبوت عمليات غش وخداع ونصب وتدليس واسعة النطاق في الكثير من معاملات المؤسسات المالية والمصارف مازالت قيد التحقيق والمساءلة, خاصة أن الأزمة تسببت في خسائر بالبورصات وخسائر بقيم الأصول العقارية وقيم الثروات تقدر بعشرات التريليونات من الدولارات ولم يواجهها إلا التدخل الكثيف للحكومات في هذه الدول وكان ثمن الاصلاح والتدخل فادحا تسبب في تفاقم العجز بالموازنات العامة للدول والارتفاع الجنوني الفلكي للمديونيات العامة وهو ما يتسبب في دق نواقيس الخطر العالمية من احتمالات انكماش اقتصادي عالمي خطير نتيجة للأوضاع المالية شديدة الاضطراب في أمريكا وعدد كبير من الدول الأوروبية. ويحتاج الجهاز المصرفي الي ثورة إدارية تنظيمية لانشطته وأعماله معاملاته يجب ان تعتمد بالدرجة الأولي علي جهود العاملين بالبنوك من خلال برامج تدريبية حديثة ومتطورة للارتقاء بالعنصر البشري المتوافر بالفعل وتطعيمه بعاملين من الشباب المتميزين وهو ما يستوجب التوقف فورا عن سياسة الاستعانة بالمستشارين اصحاب الرواتب الفلكية الذين لاتتناسب مؤهلات الكثيرين منهم مع احتياجات العمل الحقيقية وكانوا جزء من منظومة العهد البائد ووسيلة فجة من وسائل المجاملة لأصحاب السطوة والنفوذ والسلطان مع سرعة الاستفادة من الحاصلين علي مؤهلات أعلي من البكالوريوس والمتوفرين بالفعل داخل البنوك الذين يعانون من الأهمال وعدم الاستفادة من مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم الوظيفية وقدراتهم وامكاناتهم المصنوعة بجهد فردي مع اتخاذ اجراءات عاجلة لسد فجوة الأجور والرواتب ووضع حد أقصي معقول للأجور والانتهاء من عهد الأجور المتوحشة والقضاء علي جميع صور الاغداق والمنح علي قلة قليلة من العاملين والاهمال في حقوق الأغلبية الكاسحة اصحاب الدخول والرواتب المتدنية حتي تسود العدالة داخل جدران الجهاز المصرفي. وبحكم علامات الاستفهام الكثيرة المثارة حول الديون المتعثرة, وكبار العملاء المتعثرين وحول التسويات وإعدام الديون كليا أو جزئيا, فإن رصد كفاية أو عدم كفاية المخصصات اللازمة لمواجهتها في ميزانيات البنوك يصبح قضية محورية للاطئنان أو لعدم للاطمئنان علي المراكز المالية للبنوك, خاصة وأنه علي الرغم من الارتفاع الكبير لمخصصات القروض والالتزامات العرضية المنتظمة وغير المنتظمة وبلوغ ارصدتها لعشرات المليارات من الجنيهات ببنوك القطاع العام, فإن التقارير المحاسبية تؤكد ضرورة إضافة مخصصات إضافية بالغة الضخامة تصل قيمتها الي5.23 مليار جنيه حتي7002/6/03, بخلاف المخصصات اللازمة لتسوية مديونيات قطاع الأعمال العام. وفي ظل تركز القروض والتسهيلات الائتمانية في عدد قليل للغاية من العملاء وما شاب منح القروض لهم من تجاوز لكل القواعد الائتمانية وما يعنيه ذلك من ارتفاع حاد للمخاطر الائتمانية, فإن ساعة الاصلاح الجذري والشامل قد حانت؟! المزيد من مقالات أسامة غيث