هُناك بُقعة صفراء بسقف غُرفتي، تلك البُقعة تتخذُ شكل زهرة، زهرة "النرجس البريّ" علي وجه التحديد. كان هُناك فيلم ما كرتوني يتحدثُ عَن أميرةٍ حمقاء تريدُ الحصولَ علي زهورِ النرجس في الشتاء، أقامت مُسابقة، وقالت إنها ستُعطي وزن سلة من النرجس البري ذهبًا لمن يتمكن من إحضارها. بالطبع يجب أن يكون هُناك أسرة طماعة، وفتاة يتيمة يُلقي بها وسط الغابة المليئة بالثلوج كي تبحث عن النرجس البريّ، تلك الفتاة قابلت أشهر السنة جميعًا... رجال مُختلفي الأعمار.. كان هُناك "نيسان"؛ شاب أشقر، ناعم الملامح، ساحر النظرات، له صوت لطيف. أنبت لها نيسان أزهار النرجس البري، وتركها تجمع منها ما تشاء. كُلما أتي نيسان تذكرت هذا الفتي الجميل، مُتمنية أن أجد (نيساني)... أجد ذلك الشخص القادر علي تحريك الفصول حسبما يشاء، يحضر ربيعي متي شاء، أو يجعل أعوامي ربيعًا مستمرًا. ذلك الفيلم الكرتونيّ "الفصول الأربعة" ما تبقي لي من ذكريات مرحلتي الابتدائيَّة. أو رُبما هُناك العديد من الذكريات التي أرغب فقط في تجاهلها.. ذكريات عن المدرسة والعائلة... هل تريد أن تعرف ماذا أري عندما أتذكر طفولتي؟ أتذكر صراخ أخي الذي يكبرني -بسنة واحدة- بمنتصف الليل مُشيرًا إلي حائط غرفته قائلاً: اسم غريب لأحد الشياطين رُبما! كان حائط أخي يعلوه لوحة قُماشية تحتوي علي ثلاثة كلاب يدخنون ويلعبون البليارد!.. تلك اللوحة كانت تخيفني، كما تخيفني لوحة الأحصنة القماشية المُعلقة في حجرة الاستقبال. اتبعت أمي دائمًا نظامًا صارمًا في تربية أخي حتي المرحلة الثانوية... عندما كان أخي يقوم بالتبرز في سرواله، كانت تُلطخه ببرازه، وتُمسك بالنمل الفارسيّ الكبير وتجعله يقرصه... كانت أيضًا تقوم بارتداء "كاسارولة" اللبن فوق رأسها، تُغطي نفسها بملاءة السرير، ثم تركع فوق ركبتيها وتزحف نحوه؛ فيصرح حتي تتقطع أحباله الصوتية. لم تتفرغ أمي لنا تمام التفرغ؛ بل رُبما لم تكن متفرغة من الأساس! أمي امرأة عاملة، كادحة.. زوجة صالحة، لكنها لم تجيد تربية الأطفال علي ما أعتقد، لقد بذلت ما بوسعها لكنني حتي الآن (وبعد موتها) فقط لا أستطيع مُسامحتها. لم أنج من عقابها، لقد نالني أيضًا.. نالني دومًا... لكنها لم تستخدم معي تكنيك (النمل والخراء)، لأنني ببساطة لم أكن من النوع الذي يبول بسرواله، كنت هادئة وصامتة، لا أتحدث كثيرًا ولا ألعب كثيرًا، كنت منعزلة للغاية، ووحيدة.. وحيدة للغاية. اتبعت أمي طريقة الشمع معي، الحرق بالشمع، وقد مزجته بتكنيك غلق الأنوار لتبدو شيطانًا أمامي... لم أبكِ لحظة موتها، وقفت أراقبها وهي تُشير للوحةِ نفسها التي أشار لها أخي بالماضي، مُتمتمة باسم ما، وهي تبكي ولا تستطيع ابتلاع ريقها. راقبتها وأنا أفكر بفتح إحدي الكاميرات وتصويرها، (مشهدًا جيدًا) هذا كل ما فكرت به وأمي تحتضر! لم ينتابني الندم قط علي تفكيري هذا، رُغم حُبي الكبير لأمي إلا أنني لم أحزن لموتها.. مزيج من الألم والارتياح احتل صدري. ولم أشعر بالندم أو الوخز لأجل هذا الارتياح... هُناك بعض الذكريات الباقيات كذلك لكنني أحاول دفنهن بركن بعيد داخل ذاكرتي. ذكريات علي غرار: إلصاق المُعلمة العلكة بشعري، الصفع، القرص.. ذلك الفتي الأسمر الذي كان يتحرش بأحد العجول الصغيرة واضعاً أصابعه بمؤخرة العجل! أو رُبما ابن جيراننا الذي كان يلكزني بعصاه سميكة بين ساقيّ كُلما صادفني في الطريق.. ولأنني جبانة.. ذلا.. أنا جبانة جدًا ولست جبانة فقط!- فلم أكن أخبر أي شخص بما يحدث لي. لم أخبرهم عن قبلة فاطمة المقززة بالمرحلة الإعدادية، أو عن محاولة جهاد ونهي لمس مؤخرتي في الصف الرابع الابتدائي، ولا عن محاولات أخي للتحرش بي في الصف الثالث الإعدادي. كل تلك الأشياء التي حدثت لي رُبما تجعل البعض يظن يا صديقي الصغير أنني نضجت قبل سني الحقيقية، لكن هذا لم يحدث؛ لقد بدأ إدراكي بوقتٍ متأخرٍ من حياتي. بدأت العديد من الأشياء بوقتٍ متأخرٍ من حياتي، حتي مرحلة الطبيب النفسي بدأتها متأخرة، كنت أوقن أنني مريضة، جميع من حولي يعرفون ذلك جيدًا، وقد أجاد بعضهم استخدامه ضدي، أو رُبما سمحت لهم باستخدامه ضدي إمعانًا في إيذائي.. لأنني ببساطة أحب أن آذيني! أنا امرأة لا تُجيد الهروب، مُنذ طفولتي، لم أستطع الهروب من أي شيء، رُبما بمرحلة متأخرة من حياتي بدأت الهروب إلي موقع ال"تويتر"... كان لطيفًا وهادئًا، لم يكن مثل صاحبه ال"فيسبوك"... مُزعج وممتلئ. لم يكن التويتر وحده سبيلي للهروب المؤقت، كانت المسلسلات أيضًا، بكل أنواعها ولغاتها وأشكالها، مصريَّة كانت أم سوريَّة، إسبانيَّة كانت أم تركيَّة، إنجليزيَّة.. أمريكيَّة.. هنديَّة.. كوريَّة.. يابانيَّة.. صينيَّة.. تيوانيَّة.. كُنتُ أشاهد كل شيء، أشاهد أي شيء لمُجرد أنه يضمن لي ذلك الهروب.. "الهروب المُؤقت". شعرت وقتها أنني سيندريلا، لا.. لست سيندريلا، رُبما أنا "عبير عبد الرحمن" بأحد أعداد أحمد خالد توفيق الفانتازيَّة. لست عبير أيضًا؛ كلتاهما أتي من أجلهما أميرًا ساحرًا بالنهاية فكان الحبيب والزوج.. أو ببساطة أكبر، يأتي طريق الخلاص متمثلاً في رجل وسيم تحظي به القبيحات والفقيرات كجائزة مُقابل صبرهن! لكن الدهر ليس جنائنيًّا كما تُصور لنا الحكايات يا صغيري. لكنني ظللت أنتظر، رُغم أنني أمقت الانتظار.. وكلما تعثرت وفشلت في تخطي عثرتي، كُنتُ أشاهد مُسلسلاً جديدًا وأحشو فمي برقائق البطاطس المقلية، وأكياس الإندومي الرخيصة عوضًا عن البكاء. في مرحلة الثانويَّة العامة أصبحت الكتب أفيوني، الشيء الذي يجعلني أهرب من الصراخ والإزعاج الصادر من أمي بشكل مستمر بعدما توقفت عن العمل. الأمر بالبداية كان مُؤقتًا، صراخ وصراخ وصراخ لكن بشكل مؤقت.. "صراخ مُقنن"؛ لكن ببداية المرحلة الثانوية تفرغت أمي لل "صراخ"، لا لنا (أنا وأخي)! لم تكن بحاجة للتفرغ علي كل حال، لقد ساءت علاقتي بأخي، كما ساءت علاقتي بالجميع. ساءت علاقتي بأخي ولم تعد قابلة للإصلاح، كنت أسجله بهاتفي تحت لقب: "قاذورات"... أخبرته أنني أشمئز من صلة القرابة تلك، أشمئز أربطة الدم التي بيننا. صفعني أخي وقتها، للمرة الثانية صفعني. مرتي الأولي كانت بالمرحلة الابتدائية، عندما حاول أحد الأطفال قذفه بالرمال المبللة فوق أحد شواطئ الإسكندرية. وقتها قمت بإلقاء الولد بالرمال المبللة وأنا أشتمه: "يحرق ميتين أهلك". لم أفهم ما تفوهت به، لكن أخي صفعني بعنف فسقطت أرضًا ودخلت جوفي الرمال المبللة، والقليل من الماء المالح. هُناك العديد من الأشياء التي لم أستطع فقط الحديث عنها لأي شخص حتي طبيبي النفسيّ! عندما ذهبت إليه وأنا في عامي الرابع والعشرين! ذهبت إليه لأطلب المساعدة... لم يكن مُحبًا للاستماع علي كل حال، أهداني كتابًا عن مرضي، قرأته ووعيت ما أنا موشكة عليه.. نعم.. كان الانتحار جزءًا صغيرًا منه!.. لكن "إيذاء الآخرين" كان له نصيب الأسد! أوشك علي ارتكاب العديد من الحماقات، رُبما "القتلُ" أولها! القتل بحد ذاته يا صديقي الصغير رُبما لا يتطلب تلك الجسارة التي يتطلبها الانتحار. بذلك الوقت مررت بأكثر أزماتي العاطفية حدة، رغبت بالتلاشي، التفكك والتبعثر.. أردت أن أُشَرَّد إلي الأبد، عندها فقط أتتني رسالتك الثانية، بالسابع من نيسان بعد مرور شهر كامل لم نتحدث خلاله. وعادت مع نيسان ذكري الشاب الأشقر، وبدأ وجودك يرتبط -دون إرادتي- بالربيع! وجدت الكلمات تنساب من فاهي وكأنني بحاجة إلي التواصل مع شخصٍ ما؛ هذا لا يعكس طبيعتي.. فأنا أستطيع التزام الصمت لأقصي مدي، كذلك لست من ذلك النوع الذي يشعر بالوحدة أو بافتقاد التواصل مع الناس بسرعة، رُبما بهذا الوقت أردت التواصل مع شخص لا يعرفني كثيرًا. لقد تحدثت معك كثيرًا تحدثت معك لعدة أيام دون انقطاع، لم أحدثك بها عن نفسي، ولم تحدثني عن نفسك بدورك... عن ماذا تحدثنا وقتها؟ الموسيقا؟ الرسم؟ الكتب؟ الأغاني؟ الطب النفسي؟ لقد تحدثنا عن العديد من الأشياء ولكنك فجأة قمت بإغلاق عضويتك! اختفيت! ثم بعدة أيام.. عدت من جديد! ولقد انتابني القلق بتلك الفترة، وقتها سألتك: أأنت بخير؟ لماذا أغلقتها؟ أخبرتني بهدوء أنك كنت متعلقًا بفتاة، لكنكما لم تعودا صديقين بعد الآن، سألتك إن كنت صاحب قرار الابتعاد فأخبرتني ب"لا" وقد توقعت ال"لا" تلك. "تظاهر أن كل شيء بخير، تظاهر حتي يصبح التظاهر حقيقة... مرحبًا بعودتك علي كل حال". "شكرًا لكِ". لم ترغب بالحديث، ولم أرغب بأن أكون شخصًا لحوحًا بدوري.. لكنني عدت أرسل لك بإصرارٍ عجيب: "هُناك شيئان أجيدهما بجدارة: الاستماع الجيد، وحفظ الأسرار". فأخبرتني ببساطة أنك تريد التظاهر وكأن شيئًا لم يكن، وشكرتني لاهتمامي... "فقط لا تأخذ جانبًا بعيدًا كي لا تقلق من يهتم بك... " هكذا أرسلت رسالتي دون إرادة، كنت أرغب بأن أخبرك باهتمامي هذا.. أنا أهتم بك وأريدك أن تهتم بي يا صديقي الصغير. "لا تجلس وحدك، كن مشغولاً لأقصي مدي، وكن واثقًا أنه لا أحد يستطيع تخطي تلك الأمور وحده مهما بلغت قوته". "شكرًا لنصائحك"... "لا عليك، لدي دُكتُوراهات في التخطيّ". "كم عمرك إذن؟!"... ابتسمت لسؤالك، يبدو أن إخباري لك بأن لدي دكتوراهات في التخطي أعطاك انطباعًا بأنني كبيرة بالسن، أخبرتك أنك بأنني تخطيت حاجز الأربع وعشرين سنة منذ شهرين، كلما حدثني أحدهم عن العُمر يا صديقي الصغير أجدني أفترش بخيالي صفحة بيضاء أخط فوقها خطاً طويلاً ضيقاً مُتقطعاً ؛ وكأن قلمي نفد حبره أو كاد! لا أحب الحديث عن الأعمار، لا أحب تذكر ميلادي، تذكر الأعياد، كل تلك الأشياء تعيد لي ذكريات سيئة، توالي الأعياد يعيد لي العديد من الذكريات السيئة... علي غرار "لقد كنا بالعيد الماضي معًا، لماذا افترقنا"! لقد سألتك عن عُمرك بدوري... لماذا سألتك عن عمرك؟!.. لم أسأل أحدهم عن عمره قط!.. الجميع يسألني، أو يخبرني بأنني (أبدو أصغر دائمًا). كنت تصغرني بخمس سنوات.. لكنني بالنسبةِ إليك شعرت وكأنني أسبقك بملايين السنين، وكأنني تخطيت حاجز المليون سنة.. كنتُ مثقلة بعُمري. "السن مُجرد رقم" هكذا أجبتني، وقد استقر قلبٌ جوار جملتك تلك. أنا لست معتادة علي إرسال القلوب لأصدقائي الذكور، لكن معك بدأت شيئًا فشيئًا أرسل بعض القلوب علي سبيل التشجيع. لقد شعرت بالمرارة عندما استقر ذلك القلب أمامي فوق الشاشة لمرته الأولي وانتابتني رغبة عارمة في البُكاء. "لم يرسل لي أحدهم شيئًا لطيفًا مُنذ فترة طويلة"! "رُبما لأنكِ تفتقرين للطفِ يا أروي"! هكذا أجابتني نفسي لتُشعرني كم أنا مثيرة للشفقة مرة أخري وقد رجوت أن تكون مرتي الأخيرة.. لكنها لم تكن سوي أمنية أخري تنضم لقائمة أمنيات صدئة لم تُحقق.